الخامس من مايو (أيّار) للعام الحالي، في تمام الرابعة صباحاً، دوّت أصوات الغارة الأخيرة، هرعت مسرعة نحو نافذة غرفتها، فتحت تطبيق الكاميرا، والتقطت بيدٍ ترتجف خوفاً صورة، واختبأت خلف الجدار، ثم راحت تتفحّص شكل الدخان الذي وثّقته عدسة هاتفها المحمول.
قطع شرودَ ذهنها في الصورة، صوتُ جهاز الراديو، المذيع يقول "أسفرت الغارة الأخيرة عن مقتل طفلة". انتابت ريهام هنية صدمة، متلصّصة أعادت النظر من النافذة، الدخان بدا أكبر، وبزوغ الفجر، ولا شيء سوى صوت سيارة الإسعاف.
القتل والرسم
أطبق التصعيد الإسرائيلي الأخير على قطاع غزّة فكّيه على 27 مواطناً، منهم 3 سيدات وجنينان ورضيعتان وطفل. وجُرح 177، بينهم 42 طفلاً و46 سيدة.
أطالت ريهام (15 سنة) النظر في شاشة الهاتف، وبدأت تكبّر صورة الدخان تارة وتصغّرها طوراً، ثمّ انتقلت إلى تطبيقٍ على جهازها الذكيّ، وبدأت ترسم بعض الخيوط، أحدها منحنٍ إلى اليمين، وآخر يتجه إلى الأعلى.
"برسم أمّ الطفلة، على عمود الدخان، الذي استهدف منزلهما، وسأحاول رسم الطفلة وهي في حضن والدتها، الحضن الأخير، وبعد اليوم لن تنام في بيتها، ستنام في السماء"، تقول ريهام، وبدت حركة يدها سريعة.
بدلاً من اللهب في كتلة الدخان وضعت ريهام نقطة بداية لرسم الرضيعة، "النار ستكوي قلب الأم، طيلة شهر رمضان، بسبب غارة إسرائيلية، الوجع لن يفارق تلك الأسرة على طفلتها". وتقول "ما لحقوا يفرحوا في بنتهم".
ليس سهلاً
أدارت ريهام جهازها الذكيّ، وتابعت "الجيش الإسرائيلي يحرمنا من أن نعيش طفولتنا بشكل طبيعي، يسبب لنا أوجاعاً أكبر من عمرنا، ويسبب لنا أذى نفسياً، كثير من المرض نحمله في داخلنا".
تستدير لتخفي الدموع، "الأمر ليس سهلاً، أنّ تحاول تجسيد الجرائم الإسرائيلية، بشكل مختلف، الرسم واحد من أهم اللغات التي يفهمها العالم كلّه، وأنا أقوم بواجبي تجاه وطني، أحاول إيصال صوت الغزيّين من طريق رسم المعاناة بطريقة يفهمها العالم".
شغّلت هاتفها، وكانت الصورة قد اكتملت، عمود دخان يكاد يعانق السماء، وخيوط سمراء، أخذت في شكلها الأخير رسم امرأة تحمل في حضنها طفلتها، وترمقها النظرة الأخيرة. يد ريهام ترجف، والخوف مسيطر عليها، ملامحها لا تكاد تفهمها.
مواجهة الإعلام الإسرائيلي
"على عاتق الفنان الفلسطينيّ مواجهة الماكينة الإعلامية الإسرائيلية، الموجّهة إلى العالم، الصورة بألف كلمة، وأنا أتمنّى أن تصل رسومي إلى العالم، ويعرف أنّ الجيش الإسرائيلي يقتل الأبرياء والأطفال، من دون رحمة، وسبب".
تتصفّح الصور التي التقطتها خلال جولة التصعيد، تستوقفها صورة دخان وقد رسمت فوقها وجه امرأة تنظر إلى السماء "كأنها تنتظر رؤية هلال شهر رمضان"، في حافة الصورة الهلال واضح، وتقول "هكذا استقبلت غزّة الليلة الأولى في رمضان... بالوجع والدم".
تدمير المنازل
عمود الدخان الذي رسمت فوقه تلك الصورة، كان لأحد المنازل التي دمّرتها إسرائيل في جولة التصعيد، والتي أسفرت عن نسف 130 وحدة سكنية بشكل كامل، وتضرّر أكثر من 700 مبنى جزئياً.
وجسّدت لوحات ريهام، قتل الأطفال، فرسمت لوحة عن الرضيعة صبا أبو عرار، عمرها لا يزيد عن سنة ونصف السنة، قتلها الجيش الإسرائيلي في غارة على منطقة مدنية مكتظّة بالسكان.
ولم تكن ريهام وحدها التي ترسم الوجع الفلسطيني على دخان الغارات الإسرائيلية، فالطفلة سجى حازم (15 سنة)، برفقة عدد من الفتيات، جسّدت في لوحاتٍ أوجاعاً فلسطينية مشابهة لتلك الرسوم، وكانت معظمها تدور حول كيفية استقبال غزّة شهر رمضان، واغتيال إسرائيل الأطفال والنساء.