تعاني منطقة جبال النوبة، ضمن مناطق أخرى في السودان، من التمييز الإثني والتهميش الاقتصادي ونقص التنمية، كسمة لازمت العلاقات السياسية في فترة الاستعمار، وبعد الاستقلال بين المجموعات العربية المسلمة الغالبة الحاكمة في المركز، ويمثله السودان الشمالي، وبين المجموعات الإثنية غير العربية ذات التنوع الديني في الجنوب. وجبال النوبة هي المنطقة التي تقع في جنوب كردفان، واحتلت موقع جنوب السودان بعد انفصاله وتأسيس دولة مستقلة عام 2011. وتتكون المنطقة من حوالى 50 قبيلة يتوزع أفرادها على 99 جبلاً، يجمع الملك، الزعيم أو (الكجور) من بين سلطاته السلطة الروحية، ويعاونه في معظم الأحيان مجلس من الشيوخ. وعلى الرغم من دخول المسيحية والإسلام إلى المنطقة، إلا أن الغالبية ظلت على ولائها للزعيم الروحي (الكجور، ويسمى إله المطر في منطقة شكل اقتصادها الزراعي، إضافة إلى تنوعها أساس قضيتها السياسية مع الحكومة المركزية في فترة الاستعمار، وبعد ذلك في ظل الحكومات الوطنية.
وقعت الحكومة الانتقالية السودانية، ممثلة في رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) ممثلة في رئيسها عبد العزيز الحلو في جوبا، في 28 مارس (آذار) الماضي، على إعلان المبادئ، ليشكل الأساس لحل النزاع في السودان. وكان البرهان قد اتفق مع الحلو على علمانية الدولة، وتكوين جيش واحد في نهاية الفترة الانتقالية.
هوية النوبة
يلفت الدكتور عبد الباسط سعيد إلى أن "سكان جبال النوبة لهم أصول مختلفة، باختلاف منابع الهجرات البشرية لهذه المنطقة على مر الأزمان والعصور. منهم من نزح من الغرب مثل قبيلة الداجو، ومنهم من استقر في منطقة جبل أبوتولو، وتركوا آثاراً من الفخار، يقال إنها من القرن السابع عشر. وبعض الداجو استقروا في منطقة لقاوة، وآخرون تم تشتيتهم من مناطق المجلد الحالية، المعروفة بديقنا. هناك من هاجر بعد غزو قبائل ذات أصول عربية مناطقهم، وأُجبروا على الرحيل شرقاً فاستقروا في شمال بحيرة الأبيض، ومنها منطقة شات صفية وشات دمام، في القرن الثامن عشر".
ويضيف "يُنسب إلى الداجو قبائل لقوري وصبوري وتكسوانا التي تقطن في شمال موقع كادقلي الحالي. ويسكن بعض الداجو شرق موقع مدينة الأبيض في منطقة خورطقت. ومن سكان جبال النوبة قبائل الأجانق، ويقال إنهم 17 قبيلة، نزحوا من الشمال (مناطق وادي هور)، وجبال الهضبة الوسطى في كردفان، وتشمل جبال ميدوب، ويقال إنها ترتبط بحضارة النوبيين، وإن لغاتهم تلتقي في بعض المفردات، لكنها قليلة".
وتُعد قبيلة ألاما أو النيمانج التي تقع في المنطقة الشمالية في مدينة الدلنج واحدة من أكبر قبائل جبال النوبة عدداً وانتشاراً، وتتحدث لغة تُسمى (أمادواوادا) التي تنتمي إلى اللغة النيلية الصحراوية. وقد نزحت من ممالك علوة المسيحية في سوبا سنة 1505، بعد انهيار هذه المملكة وتخلفت أجزاء هذه القبيلة في شرق جبل الدائر، وهما قبيلتا افتي وعلووا، وتقع شرق جبل الدائر وجنوب مدينة الرهد في شمال كردفان. وهناك من ينسب قبائل جبال النوبة إلى الهجرات من غرب أفريقيا، من السنغال والنيجر ونيجيريا ونوبة يوغندا وكينيا وتنزانيا، إذ تتشابه الأسماء لمجموعات النوبة في هذه الدولة وأبرزها كوة وكومي وكوامي وكافي وكوفي.
قلب الصراع
ولكنالبر وفيسورمنزول عسل، المتخصص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة الخرطوم، يذكر أن "هناك من يقول إن النوبة في جنوب كردفان لهم علاقة بالنوبيين في شمال السودان، وإنهم هاجروا من شمال السودان إلى كردفان في زمان غابر. ولا أستطيع أن أجزم بصحة أو خطأ هذا القول، لكن في تقديري النوبة هم من المجموعات الأصلية في السودان، إذ لا يُعرف عنهم أنهم مهاجرون".
ويضيف "إثنياً أو عرقياً، النوبة أفارقة من دون أدنى شك، وهنالك كثير من القبائل مثل الهيبان والغلفان والنمنق. وهناك قبائل أخرى تشارك النوبة منها الحوازمة (قبيلة عربية) والمسيرية وقبائل الفلاتة. ولدى النوبة تداخل وتزاوج مع المجموعات الأخرى، خصوصاً مع الحوازمة. وأعتقد أن هذه الهوية الأفريقية تدخل في قلب الصراع الماثل في السودان، بين رؤية عروبية وأخرى أفريقية، واتضح هذا في أطروحات الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكذلك بعض حركات دارفور مثل حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور".
حركة راديكالية
ويُرجع البروفيسور عطا البطحاني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخرطوم، قضية جبال النوبة إلى إخفاق الإدارات الوطنية لحكومات ما بعد الاستقلال في قضايا المناطق المهمشة، ما أدى إلى الاستياء وانعدام الثقة المتزايد وتعميق فكرة أبناء وبنات النوبة عن الشمال المسيطر. ما مهد الطريق لتحالفات سياسية جديدة في المنطقة، وعلى مستوى القطر تقوم على رؤى جديدة للقضايا الوطنية.
ويوضح البطحاني في كتابه "جبال النوبة: الإثنية السياسية والحركة الفلاحية 1924- 1969"، أنه نتيجة لتلك الفكرة "انخرطت المنظمات السياسية لجبال النوبة في عمل متواصل، عاقدة العزم على تغيير الخريطة السياسية. إلا أن تضاريس المنطقة الإثنية والطبقية والثقافية والتفاعل مع معطيات السياسة على مستوى المركز، دفعت بعدد من سياسيي المنطقة إلى التعاون مع حكومات المركز، ودفعت بالبعض الآخر إلى الانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان التي ترمي استراتيجيتها السياسية إلى إعادة هيكلة السلطة السياسية بصورة جذرية".
ويتابع، "أسهمت عوامل تخلف المنطقة والقهر الذي تعرضت له من الحكام الأجانب، ومن بينهم العرب المسلمون من شمال السودان في تشكيل ردود فعل النوبة إزاء العداء الخارجي. وكذلك تنامي الشعور القومي، وهو الشعور الذي عبرت عنه النخبة البرجوازية الصغيرة في المنطقة بصورة أساسية. ثم الاستبعاد الواضح للبرجوازية الصغيرة النوبية من مواقع النفوذ والثراء المادي والقهر الذي تعرضت له من البورجوازية في السودان الشمالي، ما شكل ردود فعل هذه الطبقة إزاء السيطرة الاستعمارية بشكليها القديم والحديث".
و"في خضم نشاطها الرامي لمعالجة قضايا التخلف في المنطقة صعدت النخبة النوبية لتحالف سياسي مع الفلاحين، وقامت حركة راديكالية متنامية لاتحاد مزارعي جبال النوبة، وقادت إيقاظ الحس الإثني- القومي عند النوبة وأثر فيها الشيوعيون من خلال الجبهة المعادية للاستعمار. وقد تحدى التحالف السلطة المحلية المكونة من النخب التي عينها الاستعمار حاكماً على المنطقة. وتحدى التحالف أيضاً قادة الأحزاب التقليدية المتوائمة مع الاستعمار، مثل حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي. وأعلن تحديه التجار الجلابة (وهم التجار العرب المسلمون من الشمال) وموظفو الدولة الرسميون. ولكن اكتسح المنهج السياسي الطبقي للجبهة المعادية للاستعمار بواسطة النعرة الإثنية - القومية النوبية التي قادتها النخبة المثقفة مستمدة التأييد من فلاحي النوبة وتحولت الحركة من حركة طبقية إلى حركة قومية إثنية".
دوافع العلمانية
من جهته، يعتبر عسل أن "الحركة الشعبية تطالب بالعلمانية كي لا يتأثر النوبة بالقوانين الإسلامية، إذ يرى قادة الحركة الشعبية أن القوانين الإسلامية تنطوي على تفرقة، خصوصاً أن الحرب التي قادتها حكومة الإنقاذ السابقة ضد الحركة الشعبية رفعت شعار الجهاد".
ويضيف "ازدادت نبرة المطالبة بالعلمانية بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول)، لأن الثورة أتاحت مساحة حريات أكثر مما كانت عليه الحال في فترة الإنقاذ. والحركة الشعبية ليست وحدها التي تطالب بعلمانية الدولة، هناك أيضاً حركة عبد الواحد نور، والحزب الشيوعي، وحزب المؤتمر السوداني، وآخرون، مما يؤكد أن القضايا التي تنادي بها الحركة الشعبية لا تهم النوبة وحدهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل، يوضح الدكتور فتح الرحمن الأمين، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النيلين، أن "مطالبة الحركة الشعبية لتحرير السودان من وجهة نظر الحلو، هي أن شعب جبال النوبة مواطنون من الدرجة الثانية، ونسبةً للتجارب التي مر بها السودان وخدمة النظم العسكرية لتيار الإسلام السياسي المتمثل في الجبهة الإسلامية خلال حكم الرئيس السابق جعفر النميري بغرض إطالة عهده، وخلال حكم الرئيس السابق عمر البشير طيلة ثلاثين عاماً، لم يكن التيار الإسلامي في خدمة المجتمع، وإنما في خدمة النظام الحاكم، وكانت التجربة أكثر اختلالاً لارتباطها بنظام حكم عسكري قابض".
ويؤكد أنه "ليس من المفترض البت في قضية علمانية الدولة في الفترة الانتقالية، وفي ظل حكومة غير منتخبة وعدم وجود مجلس تشريعي يعبر عن رأي المواطنين. والمفاوضات التي تمت هي مفاوضات ثنائية بين البرهان والحلو وتعبِّر عن جزئية فقط من المكون السياسي في السودان، وهي قضايا تؤهل لوضع أكثر رسوخاً".
ويضيف "المطالب التي تقدم بها الحلو فيها كثير من التفاصيل مثل عطلة الأربعاء بدلاً عن الجمعة لدلالتها الدينية الإسلامية، وكان من المفترض أن يحدث توافق على القضايا العامة والكلية بشكل عام، وتُترك التفاصيل بعد الاتفاق النهائي. وهناك مرحلة إقرار الدساتير، خصوصاً الاستفتاء على الدستور نفسه".
تجاهل التيارات
ويرى الأمين أن العملية تبدو كأنها مقايضة بين العلمانية وتقرير مصير جبال النوبة، ما ترك إشارة سلبية كمحاولة إغلاق الطريق على مزيد من التفاوض، وهي إما أن تحصل الحركة على العلمانية أو تلجأ إلى تقرير المصير، وهنا تعبر الحركة عن نفسها، لأن شعب جبال النوبة لم يُستفتَ في الأمر، وقد لا يكون مع العلمانية أو تقرير المصير.
ويضيف، "المفاوضات مع الحلو والمطالبة والإصرار على علمانية الدولة تجاهلت أيضاً الأغلبية المكونة من تيارات سياسية واجتماعية ودينية تنادي بالدولة المدنية، وليس الدولة العلمانية. وهذه تركز على ضرورة وضع المبادئ الدستورية من واقع طبيعة المجتمع السوداني بأعرافه وأديانه ومكوناته وموروثاته التاريخية. وهي تيارات معتدلة بينما يقف المطالبون بالعلمانية والمطالبون بالدولة الدينية على طرفي نقيض".
ويتابع "إذا لم يتم التوافق على مبدأ العلمانية، فستكون هذه مرحلة من مراحل التطور السياسي السوداني، أما إذا احتدم الخلاف ولم يُحسم إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري، فسيولد كثيراً من عدم الاستقرار. فلا بد من الوصول إلى نموذج توافقي، وهذا يتوفر في الدولة المدنية التي تقر بوجود الأديان في حركة المجتمع وتحترم التنوع. والفرق هنا أن الدولة في ظل العلمانية ستبعد الدين عن الدولة والمجتمع، وفي ظل المدنية ستعمل على تحييد الدين عن الجماعات والتيارات السياسية، وليس عن الدولة أو المجتمع. وهو ما يتناسب مع السودان كدولة مثل غيرها من الدول، تستهدي في مكوناتها ودساتيرها بالأديان من دون توظيفه لتحقيق أغراض جماعات معينة".