بينما يقدم الزعماء في مختلف أنحاء العالم تعهدات أكثر طموحاً أثناء الفترة السابقة لانعقاد المؤتمر الـ26 للأطراف – القمة حول تغير المناخ المقرر أن تستضيفها غلاسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) – هناك صوت مختلف، وهو يصدر، في شكل غير مستغرب، عن روسيا. فقد وصف مبعوث موسكو في شأن المناخ، رسلان إدلغيرييف، الاندفاع شبه العالمي لاقتراح قيود جديدة على انبعاثات غازات الدفيئة بأنه "سباق غير معقول"، قائلاً إن البلدان يجب أن تركز على الوفاء بالالتزامات التي جرى التعهد بها بالفعل.
وفي تبادلات مع وكالة "رويترز" للأنباء، عشية اجتماع تحضيري استضافته الولايات المتحدة الشهر الماضي، قال إدلغيرييف إن هناك خطراً يتمثل في بقاء مستهدفات غير واقعية حبراً على ورق؛ وأن أولوية روسيا هي الأفعال وليس الأقوال. وخصص انتقادات للمقترحات التي قدمها الاتحاد الأوروبي بفرض ضريبة كربون على الواردات، قال إنها ستفيد في شكل غير عادل عدداً ضئيلاً من البلدان – وتعاقب الدولة العملاقة المصدرة للطاقة، روسيا، وهو ما لم يقله.
قد تتساءلون عما هو جديد إذاً. ألا تتخذ روسيا دوماً توجهاً معرقلاً إلى حد ما في التعامل مع المبادرات الدولية التي تربطها روسيا بالغرب؟ ألا يمكن أن تندرج أزمة المناخ في هذه الفئة؟ حسناً، نعم، ولا. فمن بين الأسباب التي جعلت تعليقات إدلغيرييف تلفت الانتباه أنها مثلت خروجاً على النبرة الروسية الأخيرة في شأن انبعاثات غازات الدفيئة والاحترار العالمي. والواقع أن المفاجأة لم تتعلق طيلة الأعوام القليلة الماضية بمدى عرقلة الكرملين للسعي الدولي إلى معالجة مسألة المناخ، بقدر ما طاولت مدى تعاونه وامتثاله عموماً.
في الإجمال، كان التزام روسيا بمكافحة أزمة المناخ أكثر ثباتاً وأكثر دعماً مقارنة بالتزام الولايات المتحدة. ففي حين التزمت الولايات المتحدة في البداية بكل من بروتوكول كيوتو عام 1997 ومعاهدة باريس عام 2015، انسحبت في وقت لاحق من الاثنين. فقد أخرج جورج بوش الولايات المتحدة من بروتوكول كيوتو عام 2001، مستشهداً بالمصلحة الوطنية الأميركية، في حين انسحب دونالد ترمب من معاهدة باريس عام 2020. والآن عادت الولايات المتحدة، بفضل أحد القرارات الأولى التي اتخذها جو بايدن كرئيس للبلاد، لكن سجل واشنطن غير متسق وفق أقل تقدير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما كانت روسيا أبطأ في المشاركة في الجهود الدولية في مواجهة أزمة المناخ، لكنها تجنبت الالتفافات الكاملة. لقد أخذت وقتها للتصديق على بروتوكول كيوتو، قبل أن تفعل أخيراً عام 2004، لكن تصديقها على معاهدة باريس – عام 2019 – كان أسرع من ذلك، كما أصدرت حكومتها مسودة لاستراتيجية وطنية في التعامل مع المناخ بعد سنة واحدة.
لكن هذا الملخص يتجنب مدى إشكالية أزمة المناخ ككل لروسيا. فالسنوات الخمس التي مرت بين التزام روسيا ببروتوكول كيوتو، ثم أخيراً تصديقها على المعاهدة، كانت تعكس في جزء منها تلك الفوضى التي شابت السنوات الأخيرة من رئاسة بوريس يلتسين والانتقال إلى رئاسة فلاديمير بوتين، لكنها عكست أيضاً مناقشة محتدمة، أجريت في الأغلب وراء الكواليس، حول مدى ملاءمة الجهود الدولية الرامية إلى كبح جماح تغير المناخ للمصالح الوطنية الروسية. وهي مناقشة يمكن فهمها جيداً.
إن روسيا دولة شاسعة تتجاوز مساحتها 17 مليون كيلومتر مربع، أي ضعف مساحة الولايات المتحدة أو الصين تقريباً. ويقع ثلثا أراضيها تقريباً على طبقة التربة الصقيعية وهذه الأراضي قابلة للسكن بالحد الأدنى. وهي أبرد على مدار العام من أن يتسنى تطويرها بسهولة. وفي ظل النظام السوفياتي كان الناس يوجهون إلى العمل في مناطق غير مضيافة، وحصل أغلبهم على مكافآت نقدية أو عينية، لكن منذ أن انهار هذا النظام انجذب الناس إلى الجنوب وإلى المدن الكبرى، تاركين مزيداً من الأراضي غير مأهولة بالسكان.
ونظراً إلى هذه الجغرافيا، من المغري أن يكون الاحتباس الحراري العالمي، على الرغم من أنه مدمر لكوكب الأرض بالكامل، مفيداً لروسيا في واقع الأمر. فمن الممكن أن نتصور مساحات شاسعة من الأراضي البرية القاحلة باعتبارها صالحة للزراعة أو يمكن جعلها تزدهر، بل وحتى انتشار كروم العنب في سيبيريا. وقد يصبح من الممكن الوصول إلى مزيد من احتياطيات روسيا الهائلة من الطاقة، مع ارتفاع درجات حرارة الأرض. ففصول الشتاء الطويلة في روسيا ستكون أقصر، وتكاليف الوقود (والانبعاثات) أقل، وشعب روسيا أكثر صحة.
ومن بين المتحمسين لاحتمالات كهذه رئيس وزراء روسيا ديمتري ميدفيديف، الذي ترأس كتابة مسودة الاستراتيجية الوطنية، أي "خطة التكيف الوطنية لتغير المناخ" التي نشرت نهاية عام 2019. وتحدد الخطة العديد من التغيرات "الإيجابية المحتملة" و"المزايا" المترتبة على تغير المناخ بالنسبة إلى روسيا وكيف يمكن تخفيف بعض العيوب. وهو ليس ببساطة وضعاً يحقق الفوز للجميع.
ومن المؤكد أن ثمة نتائج إيجابية، يقدرها خصوم روسيا أيضاً. ثمة دراسة حديثة أجريت لصالح منصة إلكترونية تتخذ من الولايات المتحدة مقراً، واسمها "الموجز السيبراني"، وهي مليئة بخبرات سابقة استخبارية وعسكرية ودبلوماسية، عرضت الإيجابيات والسلبيات ببعض التفصيل في وقت سابق من هذا العام. وأفادت بأن الزراعة قد تكون أبرز القطاعات الفائزة، إذ يصبح هدف بوتين تحويل روسيا إلى "قوة عظمى زراعية" ممكناً تماماً.
وتوقعت في غضون أقل من جيل واحد، أن تتمكن روسيا – التي تعد بالفعل أكبر دولة مصدرة للقمح على مستوى العالم، مع محصول غير مسبوق آخر تحقق العام الماضي – من دعم 20 في المئة من السوق العالمية للقمح، إذا تمكنت من تطوير بنيتها التحتية، بما في ذلك النقل، لتضاهي هذا التطور. وأضافت الدراسة أن هذا قد يؤدي – مع التركيز دوماً على الجانب الأمني – إلى زيادة النفوذ الجيوسياسي الروسي، ذلك لأن أزمة المناخ قد تجعل البلدان الأخرى تنتج كميات أقل من المعتاد من المواد الغذائية.
وقال وزير البيئة الروسي ألكسندر كوزلوف إن مساحات كبيرة من شمال روسيا ستصبح دافئة بالقدر الكافي لزراعة المحاصيل. ويشمل هذا – في المقام الأول – الأراضي الواقعة على الجزء الجنوبي من الأراضي الحدودية الروسية المتاخمة للصين. كذلك اقترح أن روسيا، فضلاً عن توسيع أراضيها الصالحة للزراعة، ستتمكن من تنويع المحاصيل التي تزرعها، بمجموعة متنوعة من الحبوب، بما في ذلك زراعة القمح والذرة وفول الصويا في سيبيريا بحلول نهاية هذا القرن، ذلك أن الظروف المناخية المعتدلة التي أعطت أوكرانيا سمعتها بوصفها "سلة خبز العالم" من الممكن أن تنتقل لكي تصبح ميزة لروسيا مع ارتفاع درجات الحرارة.
وهناك أيضاً إيجابيات لروسيا بسبب ذوبان الجليد في القطب الشمالي. ومع التأكيد على الأمن، أشارت ورقة "الموجز السيبراني" إلى الأولوية التي يوليها بوتين الآن لتنمية أراضي القطب الشمالي، ولا سيما على صعيد عدد المنشآت العسكرية (400) وكاسحات الجليد الـ40 الموضوعة تحت تصرف روسيا – وهي قدرة تفتقر إليها الولايات المتحدة في شكل ملحوظ.
وفضلاً عن ذلك يفتح القطب الشمالي الروسي الأكثر دفئاً الباب أمام إمكانية إنشاء طريق تجاري جديد جدير بالثقة يربط روسيا بالصين والولايات المتحدة والدول الإسكندنافية. وشرعت روسيا بالفعل في تطوير البنية التحتية من أجل تحويل الممر الشمالي الشرقي إلى طريق دولي رئيس. وفي وقت سابق من هذا العام، ظهرت المنافع المحتملة لطريق إضافي إلى آسيا ومنها على نحو مفاجئ للغاية عندما أغلقت سفينة حاويات ضخمة قناة السويس.
وعلى الرغم المكاسب الكبيرة التي ستحققها روسيا من أزمة المناخ، من غير المتوقع بأي حال من الأحوال أن تكون الآثار كلها إيجابية. فمسودة الخطة الوطنية الروسية تبدأ بالتأكيد أن الأرقام التي جمعت منذ سبعينيات القرن العشرين تبين أن درجات الحرارة في أجزاء كبيرة من روسيا ترتفع بنحو 0.47 درجة مئوية كل 10 سنوات – ما يتجاوز ضعف المتوسط العالمي الذي يبلغ 0.18 درجة مئوية كل 10 سنوات. ونتيجة لهذا، وفق التقرير، قد تكون الآثار كبيرة ومكثفة في التنمية الاجتماعية الاقتصادية، والظروف المعيشية والصحة والبنية التحتية في البلاد.
ولا اتفاق شاملاً على أن المناخ الأكثر دفئاً قد يجعل روسيا تتحول إلى "النجم الزراعي الخارق" الذي يأمل بعض الناس بأن تصبح عليه. وفي السنوات الأخيرة، عانت العديد من مناطق روسيا من ظروف جوية قاسية، إذ تسببت درجات الحرارة المرتفعة والرياح العاتية في إشعال حرائق مدمرة في الغابات ونشر تلوث الهواء في المدن، بما في ذلك موسكو. وقد يتساءل البعض إلى أي مدى أصبحت الظروف أسوأ حقاً من الماضي، وإلى أي مدى قد يعكس أي تغيير حفاظاً أفضل على الأرقام المسجلة ونقلاً أفضل لها، لكن القلق انتشر عبر روسيا العام الماضي بعد أن اجتازت الحرائق في سيبيريا أكثر من سبعة ملايين فدانا (28.33 كيلومتر مربع) وأطلقت ما يقدر بنحو 50 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
وليست الآثار فقط هي ما قد يتسبب في إحداث القلق، بل كذلك عدم القدرة على توقعها. فقد أكد ألكسندر كوكورين، أحد علماء المناخ من الصندوق العالمي للحياة البرية في روسيا، على صعوبة التخطيط لظروف مناخية قاسية وغير مستقرة كهذه. وقال لموقع إلكتروني إخباري روسي، كما نقلت عنه الخدمة الإخبارية الاقتصادية المتخصصة، "بي أن أي إنتيلي نيوز"، إن "الاحترار العالمي ليس 'عملية تدريجية رتيبة تسمح للأناناس بأن ينمو في سيبيريا؛ إنه مزيج من 24 أو 36 أثراً مختلفاً".
وكانت دراسة فنلندية حديثة، نقلتها صحيفة "موسكو تايمز" الناطقة بالإنجليزية، أكثر تشاؤماً. فهي تتوقع أن تمثل آثار الاحترار في روسيا نهاية كثير من الغابات وسهول التندرا لديها قبل نهاية القرن، ما يترك مدناً مثل سانت بطرسبرغ وموسكو "محاطة بصحارى" في بيئة أشبه ببيئة كازاخستان. وحتى لو أصبح مزيد من مناطق روسيا صالحاً للزراعة، أضاف التقرير، ربما لن تتمكن من استبدال أي شيء من الإنتاج الغذائي كله الذي خسرته بسبب أزمة المناخ في أماكن أخرى.
وتشكل أيضاً امتدادات روسيا الشاسعة التي تستند إلى التربة الصقيعية هشاشة محتملة. وإذا بدأت التربة الصقيعية في الذوبان، أو حين تبدأ بذلك، لا يتمثل الخطر في الفيضانات فحسب، أو في المقام الأول، بل إن مناطق بأكملها، بل وحتى مدن بأكملها، قد تغوص في الأرض. وتعد ياكوتسك، في أقصى الشمال، مدينة من هذا القبيل، إذ كان احتمال انهيار محطات التدفئة وتوليد الطاقة الكهربائية، فضلاً عن أساسات المباني التي تخدمها، مثار خوف بالفعل حين زرتها عام 1992، وزاد الخوف اليوم. وهناك نحو 10 مدن أصغر حجماً قد تواجه خطراً مماثلاً.
وعلى الرغم أن ضعف الأرض من شأنه أن ييسر عمليات التنقيب والحفر في بعض الأماكن، قد يعرض المنشآت القائمة إلى خطر في الأجزاء الواقعة أكثر إلى الشمال، والتي يشكل إنتاجها من الطاقة حالياً أكثر من 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الروسي.
وإذا أخذنا كل شيء في الاعتبار، ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كانت أزمة المناخ قد تشكل نعمة بالنسبة لروسيا بقدر ما يأمل المتفائلون. لا يوجد نبيذ في مدينة نوفوسيبيرسك، ولا أناناس في سيبيريا أيضاً – بل مجرد زعزعة هائلة للاستقرار وتكاليف إضافية.
والواقع أن بعض الجوانب الأكثر تحديداً معروضة في مسودة خطة التكيف الوطنية الروسية – إلى جانب بعض المنافع المحتملة. فهي تضع قائمة بتدمير التوازن البيئي القائم، ومخاطر الجفاف والأمطار الغزيرة، والصحة المهددة بالأمراض المعدية والطفيليات، واحتمال ألا تعوض تكاليف التدفئة المنخفضة في بعض المناطق عن الحاجة إلى تكييف الهواء في مناطق أخرى، قد تصبح غير قابلة للسكن.
وقد تساعد هذه التقييمات الأكثر أهمية لإيجابيات الاحتباس الحراري العالمي وسلبياته في تفسير الأسباب التي دفعت المسؤولين الروس إلى تغيير نبرتهم في السنوات الأخيرة – من عدم الاكتراث النسبي والرضا عن الذات إلى القلق، وإن لم يكن الانزعاج الحقيقي – والأسباب التي جعلت كلاً من رئيس الوزراء والرئيس بوتين ينخرطان شخصياً في الأمر. وبعد أن علق بوتين بجلافة قائلاً إن أزمة المناخ من شأنها أن تسمح للروس "بالإقلال من الإنفاق على معاطف الفراء"، بات الآن يضمن الحاجة إلى مكافحة أزمة المناخ في كل خطاب تقريباً.
وقد يكون هناك جانب آخر – دبلوماسي – للاهتمام الجديد من قبل روسيا بأزمة المناخ أيضاً. فإذ تشكل أزمة المناخ لروسيا إيجابيات وسلبيات، هي مجال يدعو إلى تعنت أقل من موسكو، حتى ولو كانت المبادرات المبكرة اتخذت في الغرب المتقدم. وتقع أزمة المناخ أيضاً خارج التوترات القديمة بين الشرق والغرب في ما يتصل بالأمن والدفاع، وهو ما من شأنه أن يسمح لروسيا بأن تشعر بأنها نظير ولاعب في فريق أكثر منها خصماً يشكل تنازله دوماً مكسباً للجانب الآخر.
ويمكن لكون روسيا جزءاً من أجندة دولية للأزمة المناخية أن يناسب جيلاً جديداً من الدبلوماسيين الروس الذين يدركون الضرر الناتج عن ربط روسيا بـ"القوة الصارمة" ويبحثون عن طرق لممارسة مزيد من "القوة الناعمة". ومن بين مظاهر هذا الهجوم السحري الذي شنته روسيا توزيع اللقاح المضاد للفيروس، "سبوتنيك 5". وفي نظر موسكو، تشكل أزمة المناخ مسألة لا ينبغي لها أن تغرق في التفكير القديم والعائد إلى عصر الحرب الباردة.
وإذا استنتجنا من هذا أن العالم أصبح على وشك الدخول في عصر جديد من التعاون، حيث تنحى الخلافات التاريخية جانباً وتستقبل روسيا في نادٍ عالمي، تكون افتراضاتنا جامحة. فالصعوبة التي تواجهها روسيا الآن تكمن في وجود جانب آخر كامل من جوانب مسألة المناخ، وهو الجانب الذي لم يبرز إلى المقدمة إلا الآن.
إذ إنه على الرغم أن روسيا هي رابع أكبر دولة مطلقة للانبعاثات الكربونية على مستوى العالم، نجت البلاد إلى حد كبير من الضغوط الرامية إلى قبول التخفيضات التي قد تؤدي إلى كثير من التحديات المحلية. ويرجع هذا جزئياً إلى قلة عدد سكانها مقارنة بضخامة مساحة أراضيها، لكنه يرجع أيضاً إلى أن التخفيض الذي قبلته بموجب معاهدة باريس ليس مفروضاً عليها خلافاً لما يبدو.
وعلى الرغم أن هذا يبدو طموحاً – فتعهد روسيا يتعلق بخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 30 في المئة بحلول عام 2030 مقارنة بمستواها عام 1990 – نجحت بالفعل في تحقيق قدر كبير من هذا الخفض بفضل تخفيف التصنيع وإغلاق المصانع في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. واعتبرت أغلبية البلدان الأخرى عام 2005 عاماً مرجعياً، ما كان ليضع روسيا أمام مهمة أشد صعوبة. وربما تتمكن روسيا من زيادة الانبعاثات بعض الشيء والبقاء من ضمن التزاماتها الدولية – ليس إلى الأبد، بل لفترة من الوقت.
لذلك فالقيود على الانبعاثات ليست هي التي تشكل مشكلة روسيا. تتمثل المشكلة في نظام مختلف تماماً: هو البنية الكاملة لاقتصاد البلاد. فروسيا تعد أكبر دولة مصدرة للغاز الطبيعي في العالم وثاني أكبر مصدر للنفط، لكنها تحتاج إلى عملاء. وإذا كانت دول أخرى، ولا سيما الدول الأوروبية، والصين بدرجة أقل، جادة في الحد من اعتمادها على المواد الهيدروكربونية – بل وحتى إنهاء هذا الاعتماد عليها – سيكون الاقتصاد الروسي مهدداً بضربة كبرى.
والآن، سيقول كثر إن روسيا لا تستطيع أن تشكو من أنها تلقت تحذيراً. كان خبراء الاقتصاد الغربيون ينصحون على نحو أو آخر منذ السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي بضرورة تنويع اقتصاد روسيا بعيداً عن اعتمادها على صادرات الطاقة. وفي العهد السوفياتي، لم تنصت موسكو لأن ذلك كان ببساطة السبب وراء نجاح اقتصادها. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اعتنقت الحكومات الروسية حكماً عقلانياً بالكامل مفاده بأن ترك هذه الأصول في الأرض لم يكن عقلانياً كثيراً ما دامت أسعار المواد الهيدروكربونية مرتفعة – أعلى كثيراً من سعر أي شيء آخر كانت روسيا تستطيع تصديره. وكان من مصلحة الحكومة أيضاً الإبقاء على أسعار الطاقة المحلية منخفضة نسبياً، تحسباً من أحد الأسباب المحتملة للمعارضة السياسية.
وأدركت موسكو طيلة ذلك الوقت أن استخراج النفط والغاز سيصبح صعباً في يوم من الأيام، مع استنفاد الحقول القائمة واستنفاد الحقول الجديدة واستلزام الحقول الجديدة استخدام تكنولوجيا أكثر تطوراً وخطوط نقل أطول، لكن كما كانت الحال، لم يكن هناك سبب مقنع للتغيير.
والآن بدأ هذا المنطق يبدو معيباً. فمع تنافس البلدان الأكثر ثراءً على الحد من اعتمادها على مصادر الطاقة التقليدية، أصبحت البنية الكاملة للاقتصاد الروسي مهددة. والنتيجة هي أن استجابة بقية العالم لأزمة المناخ قد تشكل في الأجل المتوسط إلى الأجل البعيد خطراً يهدد استقرار روسيا ورئاسة فلاديمير بوتين، إذا كان لا يزال في منصبه، أكثر من أي شخصية معارضة سياسية، مثل أليكسي نافالني.
والآن يجب أن يكون ثمة تحذير هنا. تنوع الاقتصاد الروسي في شكل أكبر كثيراً مما يقدر منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، ولا سيما منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فهناك قطاع مزدهر للاستهلاك والضيافة – مراكز التسوق، ومحال السوبرماركت، والمطاعم، والمقاهي، إلى آخره – لم يكن قائماً ببساطة قبل 30 سنة، ويمتد إلى أغلبية أجزاء روسيا. وكما هي الحال في عديد من البلدان الأقل تقدماً، تخلى الروس أيضاً عن نظام الاتصالات الأرضية العتيق وذهبوا مباشرة إلى شبكة الواي فاي والهواتف المحمولة.
كذلك شهدت الزراعة أيضاً نهضة كبرى – ويرجع هذا جزئياً إلى الكفاءة الأعظم، لكن أيضاً إلى الحوافز التي دفعت المنتجين المحليين إلى استبدال واردات بتلك التي أوقفتها عقوبات الاتحاد الأوروبي. وبعد أن كانت روسيا مستوردة محتاجة للحبوب في العصر السوفياتي، أصبحت الآن دولة مصدرة كبرى، وحققت محصولاً قياسياً من القمح العام الماضي. ويتوقف مدى استمرار هذا النمو على ما إذا كان المتفائلون أو المتشائمون محقين في شأن الآثار المترتبة على أزمة المناخ في الزراعة الروسية.
لكن اعتماد روسيا على صادرات النفط والغاز يظل قائماً، ذلك أن النفط والغاز يشكلان نحو ثلثي الصادرات الروسية، وهذا من شأنه أن يجعل الاقتصاد بالكامل عرضة إلى تقلبات الأسعار العالمية. والعام الماضي هبط سعر النفط إلى 28 دولاراً أميركياً للبرميل، قبل أن يتعافى إلى 66 دولاراً أميركياً للبرميل، وبلغ نحو 42 دولاراً للبرميل في المتوسط المرتقب في الميزانية الروسية (للاطلاع على سرد ممتاز للآثار المترتبة على ذلك، انظروا مقالة هاميش ماكراي في "الاندبندنت" في 27 فبراير (شباط) من هذا العام).
لكن الوضع ليس وضعاً آمناً. فليس من الجيد أن تفاخر روسيا بالأنباء الطيبة في شأن مخزوناتها من النفط والغاز ومدى سهولة الوصول إليها، بفضل الاحتباس الحراري العالمي – تشير أحدث التقديرات الصادرة عن وزارة الموارد الطبيعية الروسية إلى وجود ما يكفي من النفط لأكثر من 50 سنة، فضلاً عن الغاز لأكثر من 100 سنة – إذا تقلصت السوق أو لم تعد موجودة.
وتتفاوت التقديرات حول تاريخ بدء الطلب في الهبوط، لكن هناك إجماعاً عاماً على أن الانحدار سيتسارع عام 2050، بعد أن يبدأ بحلول عام 2035 – أو حتى إنه ربما بلغ ذروته بالفعل. وهذا لا يعطي روسيا فترة طويلة، في الصورة الكبرى للأمور، لإعادة توجيه نفسها. ربما يكون أمامها جيل، في أفضل تقدير، لتوجيه الدخل الذي تتلقاه من مصادر الطاقة التقليدية نحو الاستثمار في طاقة المستقبل. ومن بين الأفكار التي طرحها مبعوث روسيا في شأن المناخ، إدلغيرييف، أن خطوط الأنابيب القائمة قد تحمل الهيدروجين ذات يوم.
إن استمرار اعتماد الاقتصاد الروسي على صادرات المواد الهيدروكربونية، تماماً إذ شرع قسم كبير من العالم الصناعي في بذل جهود منسقة لتغيير العادات الخاصة بقرن أو أكثر، لا يبشر بخير بالنسبة إلى الموارد المالية الروسية. وهو يهدد أيضاً بإبعاد روسيا عن التيار الرئيس العالمي مرة أخرى. وبدلاً من توصل روسيا إلى سبب مشترك في مواجهة أزمة المناخ، كما بدأت تفعل، قد تبدأ بالعودة إلى الأساليب المعوقة القديمة مع التباعد بين مصالحها ومصالح الأغلبية العظمى من البلدان. ومع تبني المملكة العربية السعودية لخطة لوقف الاعتماد على صادرات الطاقة، قد تكون روسيا أكثر دفئاً بكثير، لكن أشد عزلة من جديد.
لكن هناك فرصاً للتغيير – ليس فقط لأن بوتين استوعب أن درجات الحرارة الأكثر دفئاً قد تتسبب في متاعب خطيرة، حتى بالنسبة إلى روسيا. من المقرر أن يكون المناخ موضوعاً كبيراً لهذا العام، فالمؤتمر الـ26 للأطراف يلوح في الأفق، والرئيس بايدن يريد أن يجعله سمة مميزة لرئاسته. وقد تبرز الجهود الرامية إلى مكافحة الاحتباس الحراري العالمي أيضاً في أفق أجندة قمة بايدن بوتين التي يجري الإعداد لها حالياً، بل قد تحل محل مسألة الحد من التسلح باعتبارها عنصراً أساسياً في المفاوضات الأميركية - الروسية.
وهناك سبب آخر. في بعض الأحيان على مدى العام الماضي، شهد قسم كبير من روسيا حالة جوية غير عادية إلى حد كبير. فقد شهد الصيف الماضي حرائق هائلة اجتاحت أجزاءً من سيبيريا. وجاء فصل الشتاء متأخراً أكثر بكثير من المعتاد في عديد من الأماكن، بما في ذلك موسكو، وفي الأسابيع الأخيرة كانت أجزاء من أقصى الشمال الروسي تشهد درجات حرارة نادراً ما تصل إليها حتى في الصيف. ولا شك في أن انحرافات كهذه هي لمرة واحدة، لكنها قد تعمل أيضاً نذيراً لما قد ينتظرنا في المستقبل. فبينما تحاول بقية بلدان العالم التكيف مع ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، يكون زعماء روسيا الحاليون مدينين للجيل المقبل بضمان عدم تخلف بلادهم عن الركب.
© The Independent