كان نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، في تصريحاته يوم الجمعة الماضي، صريحاً وكشف عبر التصريح والتلميح عن مصاديق مجريات أحداث أمنية ظللنا نتكهن بتورط جزء من المكون العسكري فيها عبر عمليات شد الأطراف التي كانت تحدث في كل من شرق السودان وغربه، مع تفلتات هنا وهناك في الخرطوم.
إضافة إلى تصريحات حميدتي، جاء بيان القادة العسكريين لكبار حركات الجبهة الثورية عن تلكؤ المكون العسكري في تنفيذ بعض استحقاقات الترتيبات الأمنية.
وهناك تصريحات ياسر عرمان، نائب رئيس الحركة الشعبية شمال (جناح مالك عقار)، الذي اتهم الاستخبارات العسكرية بالعمل على إيجاد مكونات بديلة لحركات الجبهة الثورية.
وقال حميدتي بوضوح عن القلاقل والأحداث الأمنية خلال العامين الماضيين: "المشاكل دي كلها مصطنعة الفي بورتسودان مصطنعة والفي كسلا مصطنعة والفي الجنينة مصطنعة".
وبطبيعة الحال، يقصد حميدتي بالمشكلات أحداث الاقتتال الأهلي التي شهدتها مدن شرق السودان (كان لمدينة بورتسودان النصيب الأكبر منها حيث جرى الاقتتال فيها لمراتٍ خمس)، كما يقصد أن هناك من صنعها، وهم في تقديرنا بقايا فلول نظام عمر البشير في اللجنة الأمنية في بعض مدن شرق السودان.
وحين قال "كلهم كانوا مجتمعين من أجل فض الاعتصام، كلهم على بكرة أبيهم"، أكيد أيضاً أنه كان يقصد عنواناً واضحاً، هو المكون العسكري أي الجيش. وأكد ذلك بقوله "ما في تغيير، التغيير الذي حدث هو فقط أن عمر البشير دخل السجن".
كل تلك التصريحات الواضحة من حميدتي تؤشر إلى إشكالات عميقة في العلاقات البينية بين الجيش السوداني والدعم السريع.
وليس غريباً أن يطلق ناظر قبيلة الهدندوة، رئيس ما يُسمّى المجلس الأعلى لنظارات البجا محمد محمد الأمين، دعوته الصريحة للجيش إلى استلام السلطة، في خطاب يدل ظاهره على أن ثمة أمراً يجري طبخه عبر تلك التصريحات والتحركات والأحداث.
وفي تقديرنا أن هذه التطورات التي تطفو على السطح هذه الأيام ستكون مؤشراً واضحاً لصراع فرض إرادات بين مستويين، الأول بين المكون العسكري (الجيش)، والثاني هو قوات الدعم السريع وقوات حركات الجبهة الثورية. والمستوى الثاني من صراع فرض الإرادات ذكره حميدتي خلال حديثه وأضمر فيه المعنى، لكن ما يمكن فهمه من المعنى المقصود كان واضحاً، وهو ما يشيع في كثير من وسائل التواصل الاجتماعي منذ التوقيع على اتفاقية جوبا العام الماضي، من أن حركات دارفور وقوى الجبهة الثورية تريد السيطرة على حكم السودان، وإزاحة الكتلة الوازنة للنخبة الحاكمة فيه من أهل الشمال لمصلحة أهل غرب السودان.
وفيما يبدو الحراك الثوري للناشطين في صميم هذا السياق أيضاً (وإن كان رهانه على قيم الثورة وتحقيق العدالة الانتقالية)، فإنه من المهم أن يكون هناك زخم في الفعل الثوري يضغط في اتجاه قطع الطريق على أي صدام محتمل بين الجيش والدعم السريع، لأن هذا ما تريده قوى الثورة المضادة، وتسعى إليه. وفي ما صرح به حميدتي من أقوال ما يؤشر إلى أنه- بحسب ظاهر كلامه- ضد اتجاه الحرب وعمليات شد الأطراف التي ظلت تديرها جهة لمّح إليها دقلو في كلامه.
جملة الأوضاع الداخلية في السودان مشتبكة على نحو لصيق مع ملفات إقليمية وعلاقات خارجية تشتغل على شد وجذب في ضوء صراع الإرادات في المرحلة الانتقالية. فمن ملف الحدود، إلى ملف سد النهضة، إلى التداخلات الحدودية، إلى آثار صراع حرب إقليم تيغراي في أثيوبيا، ثمة تداعيات محتملة للتوظيف، سلباً وإيجاباً، من جهات خارجية، أهمها الولايات المتحدة، إلى جانب دول أخرى في الإقليم.
ولا يمكننا فك الارتباط على مستوى قراءة أحداث وظواهر محتملة قد تعكس إرادات مضمرة في حراكها الظاهر، فقد كان واضحاً أن مجيء قوات كبيرة من الجيش المصري إلى السودان لتنفيذ مناورات عملية، (حماة النيل)، له ارتباط خفي ربما بزيارة حميدتي إلى تركيا، عبر تزامن عكس كثيراً مما يمكن تفسيره حول صراع الإرادات ذاك.
ولهذا، فإن تصريحات حميدتي التي كشفت عن أمور كثيرة وفسرت أموراً كثيرة ربما تكون من تداعيات تباعد ما بين الجيش والدعم السريع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل أكبر ما كشف عنه الأسبوعان الماضيان، هو ما بدا من قطيعة في التفاوض حول حصة السلطة، بين المجلس الأعلى لنظارات البجا، وبين المكون المدني في الحكومة السودانية التي تضم في طاقمها وزراء من الجبهة الثورية. فقد رفض المجلس الأعلى ما تم عرضه من نسبة الـ30 في المئة لحصته في السلطة في شرق السودان. وكان واضحاً ما سيعنيه هذا الرفض من حراك رأيناه في ما سُمّي بمؤتمر "هداليا" في مدينة كسلا في شرق السودان. وهو تجمّع بدا فيه أن ثمة تواطؤ خفياً بين قوى في المركز والقوى التقليدية والقبائلية التي تجمعت في منطقة هداليا، معبرةً عن رفضها مسار شرق السودان الذي تم توقيعه ضمن مشمولات اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي 2020.
وخطورة ما تنطوي عليه تداعيات تجمع "هداليا" هو تصاعد لهجة التمرد، في وقت بالغ الحساسية، والرهان على منع ممثلي مسار الشرق من دخول إقليم شرق السودان (وهو ما لا يمكن قبوله في حق فصيل سياسي مختلف يعبّر عن وجهة نظر مواطنين آخرين في إقليم الشرق). هذا، إلى جانب دعاوى إغلاق الإقليم، وفقاً لتلك المعادلة المعطوبة عن فكرة الوطن التي ظل يراهن عليها المجلس الأعلى لنظارات البجا بطريقة غريبة عجيبة. فالمعادلة مفادها بأنه إذا ما أعطي المجلس الأعلى لنظارات البجا نصيباً من السلطة يرضيه، فإنه سيكون جزءاً من التسوية في شرق السودان مع أحزاب بجاوية أخرى لمواطنين أخرين. أما إذا لم يرضَ المجلس الأعلى لنظارات البجا بالنصيب الذي عُرض عليه من الحكومة، فإننا أمام نكوص عجيب وتحلل غريب من ضوابط وشروط المواطنة، كالتهديد بتفجير السلم الأهلي وإغلاق الطريق القومي من بورتسودان إلى الخرطوم، والتهديد بمنع دخول مواطنين آخرين إلى الإقليم ضمن فصيلهم السياسي، إلى جانب رفع فزاعة الأجانب التي يتم إطلاقها على الذين وقّعوا على مسار الشرق من القوى السياسية لشرق السودان مثل "الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة" و"مؤتمر البجا المعارض".
إن هذه الطريقة من الاعتراض بتهديد السلم الأهلي وممارسات إغلاق للإقليم وتهديد بالانفصال، التي يلوّح بها المجلس الأعلى لنظارات البجا ستقود آجلاً أو عاجلاً إلى ما لا تحمد عقباه بتوريط أبرياء كثيرين من أبناء القبائل البجاوية في خطاب كراهية قد يؤدي إلى اقتتال بين قبائل شرق السودان. ففضلاً عن أنها طريقة عشوائية غير مأمونة العواقب، فإن تداعياتها إذا انفجرت في شرق السودان- لا سمح الله- سيكون ذلك المهدد الأكبر للثورة في الخرطوم ذاتها!
في ظل هذه المعطيات السياسوية لمؤشرات الحراك في شرق السودان وتجمع "هداليا" والتصريحات الأخيرة لحميدتي، ثمة ما يُطبخ ويتم التجهيز له.