لعلّ الإشكالية الأولى التي يطرحها كتاب "أصوات الغابة" للشاعر والناقد الفني العراقي فاروق يوسف، الصادر عن دار "خطوط وظلال" الأردنية، تتعلّق بالنوع الأدبي. فالكاتب الذي يدّخر في رصيده سبع مجموعات شعرية، وثمانية كتب في النقد الفني، واثني عشر كتاباً في أدب اليوميات والسيرة، يستثمر هذا الرصيد المتنوّع في كتابه الجديد. ولذلك، تتجاور فيه مكوّناتٌ من الرحلة والسيرة والشعر والنقد والخاطرة والحكاية والأسطورة والأنتروبولوجيا وغيرها. وتنخرط هذه المكوّنات، كلُّها أو جلُّها، في علاقات حسن جوار، سواءٌ داخل النص الواحد أو بين النصوص المختلفة. وبذلك، يجمع الكتاب بين عدة أنواعٍ أدبية، ولا ينتمي إلى أيٍّ منها، في الوقت نفسه. ونكون إزاء نصٍّ أدبيٍّ مفتوح. هو نتاج التفاعل بين خارجٍ تقع عليه حواسّ الكاتب وداخلٍ يتمثّل في ملكاته العقلية والعاطفية. وبمعنى آخر، الكتاب هو حصيلة التفاعل بين الإنسان والطبيعة.
الإنسان في الكتاب هو فاروق يوسف بملكاته المختلفة، ومحمولاته المتنوّعة، وذاكرته المثقلة بالأحداث والذكريات. والطبيعة هي غابة ستون بي الأسوجية وغابة أخرى سويدية. الأوّل يأتي من جوار الصحراء. والثانية تقيم هانئةً في القطب الشمالي، ما يجعلنا إزاء اصطدام أدبي آخر بين الجنوب والشمال، غير أن الجديد، هذه المرّة، هو أن طرفي الاصطدام يختلفان في النوع، وأن أمواج التردّدات الناجمة عنه تدغدغ صخور الشاطئ برفق، ولا تضربها بعنف تنكص بعده على أعقابها.
الصحراء والقطب
يأتي خالد يوسف، العراقي، الصحراوي، الجنوبي، إلى أسوج والسويد، القطبيتين، الشماليتين، مطروداً من وطنه، مثخناً بالخسارات، مكلّلاً بغبار الصحراء، ويلقي عصاه في واحة قطبية، يتخفّف فيها من أثقال الماضي. ويلوذ بطبيعة خلابة، ينتمي إليها، ويتناغم مع مكوّناتها، فتشكّل هويّته الجديدة: "أنا القادم من الصحراء إلى قطب الأرض الأعلى من أجل لقاء زهرة نادرة" (ص6). ويصنع زمنه الجديد المختلف عن آخر قديم مثقل بالضجر: "ما قضيته من عمري في تلك الغابة يكاد يزيد عن الساعات التي قضيتها في الصفوف المدرسية التي أثقلت قلبي بالضجر" (ص62). وبذلك، تشكّل الألفة الزمانية تعويضاً عن الاغتراب المكاني.
إذا كان اللجوء إلى الطبيعة ثيمة الرومنطيقيين المفضّلة التي تنسيهم شؤون المجتمع وشجونه، فإنّ لجوء يوسف إليها لم ينسه جذوره القديمة، فيعقد المقارنات بين الماضي والحاضر، بين الوطن والمنفى، بين الذكريات والوقائع، ترجح بنتيجتها الكفّة الثانية في كلٍّ من هذه الثنائيات. غير أن هذه المقارنات التي هي نتيجة طبيعية للاصطدام بين الجنوب والشمال لا تنسيه الكفة الأولى، بل توري فيه زناد الحنين إلى ملاعب الطفولة ومرابع الصبا ومراتع الشباب، ويروح يحصي خساراته العراقية قبل أن تأتي عليها الحروب المتعاقبة. واللجوء إلى الطبيعة، والعكوف على العزلة، والحنين إلى الماضي، ثيمات رومنطيقية تطبع الكتاب ولا تختصره.
العلاقة الجدلية
في "أصوات الغابة" ثمة علاقة جدلية بين الإنسان/ الكاتب والطبيعة/ الغابة. هو يفيء إليها، يمشي في دروبها، يصادق أشجارها، يتناغم مع مكوّناتها البشرية والحيوانية والنباتية، ويعيد خلقها بالكتابة، ويحرّرها من غابيّتها لتتحوّل إلى كائن لغوي جميل، وبذلك تنتمي إليه بقدر ما ينتمي إليها. وهي تشكّل ملاذه، ووطنه البديل، وزمنه الجميل، وتحرّره من غربته المكانية، وتخفّفه من أثقاله، وتعيد خلقه من جديد. وهذه العلاقة الجدلية تتمّ ترجمتها في مجموعة من الوقائع التي يعيشها الكاتب، ويميتها الكتاب.
يتمظهر التناغم بين الإنسان والطبيعة في داخل الكتاب في رؤية الكاتب الغابة، وعلائقه بمكوناتها، وإصغائه لأصواتها. ففي الرؤية، الغابة "فضاء شاسع لتأمّلات مطلقة" (ص25)، و"الغابة هي الغابة. يدلف إليها المرء ليزيح عن كاهله شروط العيش كلّها" (ص25)، و"الغابة مرآة" (ص63)، وفيها يتعلّم الكاتب" فن التنفّس" (ص62)، وبابها "شبيه بباب الله" (ص53)، وهي المرأة والأم. وبهذا المعنى، لا تعود الغابة مجرّد مكانٍ طبيعيٍّ بل تصبح فسحة حرية وبيت صلاة ومدرسة حياة وبشراً سوياًّ. يتبتّل الكاتب في محرابها، ويقف في حضرتها، يجرّد فيها التأملات التي تنطلق من الظواهر إلى ما يتعدّاها من الأعماق، ويطرح أسئلة المعنى.
في علاقته بمكوّناتها البشرية، يحتسي الكاتب مع راعي الأبرشية النبيذ في أحضانها فيعلو المكان عن الأرض قليلاً، ويقتفي أثر الحطّاب ليقطفا معاً جمال اللحظة العابرة، ويتبادل مع المرأة الرياضية الابتسامات واللمسات والقبلات. وفي العلاقة بمكوّناتها الحيوانية، يستمتع بجيرة نقار الخشب الذي يكمل الوجود بنشيده الشامل، ويفتقد الضفدعة التي تنقص الغابة باختفائها، ويؤم المصلّين فيها، ومن خَلْفه، القندس ونقار الخشب والحلزون والغزال والضفدع. وفي العلاقة بمكوّناتها النباتية، يتّخذ من الزهرة الزرقاء أختاً له، ويتمنّى لو أن أوراق زهرة أخرى تنغلق عليه، ويصادق الأشجار ويراها مجموعة من الآنسات الجميلات. وهكذا، تشكّل مكونات الغابة، على أنواعها، أسرة واحدة، يعيش أفرادها في وئام تام في ما بينهم، ويكمل أحدهم الآخر. ومرّة أخرى، يحرّر الكاتب المكان من مكانيّته ليغدو فضاءً إنسانياً للحياة.
في إصغائها لأصواتها، يصغي الكاتب إلى الغابة بكل حواسّه، فتتحوّل جميعها إلى آذانٍ مصغية. وينخرط في ورشة سماع لسمفونية الحياة. وهكذا، يتناغم الكاتب مع الطبيعة رؤيةً وعلائق وإصغاءً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن تناغم الكاتب مع الطبيعة الأم واستغراقه فيها لا يحول دون العودة إلى أمّه الطبيعية في بغداد، فيرسل لها رسالة طويلة من الغابة، تشكّل إطاراً للتذكر والحنين والبوح، وتتكشف عن مركزية موقع الأم في حياته. وترجحه بين شوقه إليها وعجزه عن العودة لأن العراق لم يعد العراق وهو لم يعد نفسه، وتجاذبه بين أمٍّ بيولوجية لا يستطيع العودة إليها وأمٍّ طبيعية لا يقوى على مغادرتها. يدفن فيها اغترابه، ويتناغم معها إلى حدّ التوحد بها. غير أن هذه الوضعية لا تحول دون تذكّر بغداد، وإحصاء خسائره فيها، واستعادة أماكنها الذهبية قبل أن تأتي عليها الحرب، ما يجعله يقيم في ذاكرته وطناً بديلاً لا يغني عن الأصيل، لكنّه يخفف من اغترابه المكاني والنفسي. وإذا شارع الرشيد وشارع المتنبي، وسوق هرج وسوق الصفافير وسوق السراي، وباب المعظم وباب الشرقي، والميدان، وكنيسة مسكنتا، هي بعض الأسماء الجميلة لهذا الوطن المستعاد. على أن الكاتب لا يكتفي باستعادة جسد المكان، فيستعيد روحه، في نصٍّ آخر، وإذا أشجار شارع أبي نؤاس، وهديل الحمام البغدادي، ورائحة التوابل في سوق الشورجة، وطعم الشورمة في مطعم الإخلاص، وجدران المدرسة المستنصرية، هي بعض أقباس تلك الروح.