Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قراءة في الأخلاق (الحلقة الثالثة)

"تأثير أفلاطون وأرسطو واضح عند الفارابي بلا ريب"  

يؤكد الفارابي على أن "السعادة هي الغاية القصوى التي يشتاقها الإنسان" (رويترز)

في الحلقة السابقة سردنا الفلسفة الأخلاقية عند أرسطو، إذ يمتاز عن أستاذه أفلاطون وعن سقراط بالواقعية من جهة، ومن جهة أخرى، بالوضوح والإسهاب عند تناوله مفاهيم السعادة والفضيلة والخير، وشروط تحقيقها، وأهمية اتباع الوسطية فيها، فهي بالإجمال أخلاق عملية أكثر منها نظرية.

الفارابي (257-339 ه/870-950 م)

على الرغم من أن الفارابي كتب في موضوع الأخلاق مؤلفات عدة، كما جاء في فهرست ابن النديم وغيره، لكن معظمها فُقد ولم يبق منها غير النزر اليسير، مثل "تحصيل السعادة" و"التنبيه إلى سبيل السعادة" وما كتبه في "آراء أهل المدينة الفاضلة" و"السياسة المدنية". وبما أن حركة الترجمة في أوروبا من القرن الـ 11 إلى القرن الـ 13 الميلادي، نقلت كثيراً من أمهات الكتب العربية إلى اللاتينية، لذا يتطلع بعض الباحثين والدارسين أن تكشف دهاليز المكتبات الغربية الرئيسة عن تصانيف الفارابي الأخلاقية.

وبحسب مفهوم الفارابي، كما جاء في كتاب "تحصيل السعادة"، فإن الأخلاق تعني تحصيل السعادة، فالأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وفي أهل المدن حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى والسعادة القصوى في الحياة الأخرى، ويقسم الفارابي هذه الأشياء إلى أربعة أجناس: الفضائل النظرية، والفضائل الفكرية، والفضائل الخلقية، والفضائل العملية.

أجناس الفضائل

بالنسبة إلى الفضائل النظرية، فهي العلوم التي الغرض الأقصى منها، أن تحصل الموجودات، والفضائل التي تحتوي عليها معقولة ببراهين يقينية وطرق إقناعية ومثالات لكل تلك المعقولات، وهذه العلوم، منها ما يحصل للإنسان منذ أول مرة من حيث لا يشعر ولا يدري كيف ومن أين حصلت، وهي العلوم الأولى، ومنها يُصار إلى العلوم التي تُحصّل عن فحص واستنباط وتعليم وتعلّم.

أما الفضائل الفكرية، فهي القوة التي يمكن للإنسان من خلالها أن يستنبط ما هو أنفع الأمور في غاية ما فاضلة، في أصناف التدبيرات الزمنية على الأمم أو على أمة أو لطائفة من أهل المدينة أو لأهل في منزل، والقدرة على سن القواعد والقوانين التي ينبغي اتباعها.

والفضائل الخلقية، هي التي يتوخى بها الإنسان فعل الخير، وهي إنما تحصل موجودة بعد أن صيّرتها الفضيلة النظرية معقولة، بأن تميزها الفضيلة الفكرية، فكل فضيلة خلقية لا بدّ لها من فضيلة فكرية سابقة لها توجِهها، وكلما كانت الفضائل الفكرية أكمل، كانت الفضائل الخلقية المقترنة بها أشد رئاسة وأعظم قوة.

وأما الفضائل العملية أو الصناعات العملية، فهي تحقيق الفضائل الخلقية بأفعال ظاهرة، والتعود عليها وذلك بطريقتين، إحداهما، الأقاويل الإقناعية والانفعالية وسائر الأقاويل التي تمكّن في النفس هذه الأفعال والملكات تمكيناً تاماً، حتى يصير نهوض عزائمهم نحو أفعالها طوعاً. أما الطريقة الأخرى، فهي الإكراه، ويُستعمل مع المتمردين المعتاصين من أهل المدن والأمم الذين لا ينهضون للصواب طوعاً من تلقاء أنفسهم ولا بالأقاويل، وكذلك مَن تعاصى منهم على تلقي العلوم النظرية التي تعاطاها.

إن كل الفضائل يكون سبيلها أن تحصل في الذي مهيأ لها بالطبع والفطرة، وتحصيلها يكون بطريقين أولين، التعليم والتأديب. الأول، هو إيجاد الفضائل النظرية في الأمم والمدن، والثاني، هو إيجاد الفضائل الخلقية والصناعات العملية في الأمم.

ويؤكد الفارابي في كتابه "التنبيه على سبيل السعادة"، على أن "السعادة هي الغاية القصوى التي يشتاقها الإنسان ويسعى إلى الحصول عليها"، فالسعادة من أعظم الخيرات، ومن بين المؤثرات، هي أكمل كل غاية يسعى الإنسان نحوها، فهي تؤثر لأجل ذاتها ولا تطلب لغيرها، وأن "طريق السعادة، الفضائل، والفضائل منها ما هي كائنة بالطبع، ومنها ما هي كائنة بالإرادة، والإرادة تكمل ما أعدّ له الإنسان بالطبيعة، وهي شرط أساس لاتصاف العمل بأنه خلقي، وبالتالي هي شرط لتحقيق السعادة، فالسعادة إنما تكون بالأفعال التي يفعلها طوعاً وعن اختيار".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"الإنسان حر"

ويذهب الفارابي إلى القول، إن الإنسان حرّ في ما يفعل، لأن له بالقوة خصالاً يتمكن من تنميتها فتصبح له ملكة، والملَكة هي ما لا يزول بسهولة. كما يؤكد الفارابي أن "الأخلاق المحمودة والأخلاق المذمومة تُكتسب بالدربة والممارسة، فإذا لم تكن للإنسان أخلاق محمودة فبوسعه أن يحصل عليها بالتعود على العمل الواحد مرات متعددة وفي أوقات متقاربة لمدة طويلة".

ويوضح الفارابي كيفية التطبيق العملي، إذ إن "شرط العمل المحمود الفاضل، هو الاعتدال والتوسط في الأمور، فكما أن الطعام والشراب، إذا أفرط أو فرّط فيهما الإنسان، أورثاه المرض وأنواع العلل، كذلك العمل الفاضل، إذا أفرط أو فرّط فيه صاحبه أخرجه عن حدّ الفضيلة. فحدّ الفضيلة هو القصد في الأمور والتوسط فيها، بلا إفراط ولا تفريط. فالأخلاق إنما صلاحها بالاعتدال، وفسادها بالتطرف والبُعد عن الوسط، وهذا الوسط متموج يختلف باختلاف الزمان والمكان والشخص والغاية. ولذلك فإن معرفة الوسط تكن بمراعاة ذلك كله والتزامه والتقيد به".

وعن هذه الوسطية في الأخلاق، يورد الفارابي بعض الأمثلة، على سبيل الذكر، الشجاعة هي "خلق جميل"، لكن الزيادة في الإقدام عليها تكسب التهور، والنقصان يكسب الجبن، وعلى الرغم من أن أكثر الفضائل تكون هكذا، إلا أن هناك من الفضائل العقلية والفكرية ما لا تنطبق عليه هذه القواعد، مثل العدل والمعرفة.

مفهوم اللذة

وفي مفهوم اللذة، يفرق الفارابي بين ما هي جسدية حسية وعقلية فكرية. الأولى، أقرب إلى الحيوان، ولذلك فهي سريعة الزوال، والثانية، فهي طويلة الأمد، وهي أشرف وأعمق، إذ تتحقق فيها الذات العاملة للإنسان. أما القوة التي تساعد على معرفة الذات والتمييز بينها هي المنطق، إذ بالمنطق إنما نعرف ماهية الحق والباطل، فلا نخلط بينهما، وبالمنطق إنما نميز الخطأ الذي يُظن به أنه صواب، والصواب الذي يُظن به أنه خطأ. ولذلك فإن أولى مراتب السعادة هي تحصيل صناعة المنطق التي إنما سُميت كذلك لأنها تفيد النطق كماله وينال بها الجزء الناطق كماله أيضاً.

وفي كتابه "السياسة المدنية"، يشير الفارابي إلى أن "السعادة هي زوال الشرور عن المدن والأمم، وحصول الخيرات الطبيعية والإرادية كلها". (ص86). أما في كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة"، فيعطي الفارابي تعريفاً للسعادة من منظور ماورائي وصوفي، إذ إنها "هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا يحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد، وأن تبقى على تلك الحال دائماً"، كما أن "السعادة هي الخير المطلوب لذاته وليست تُطلب أصلاً ولا في وقت من الأوقات ليُنال بها شيء آخر، وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها".

بلا ريب، أن تأثير أفلاطون وأرسطو واضح في فلسفة الأخلاق عند الفارابي، إضافة إلى تأثيرات أخرى من الأفلاطونية المحدثة والصوفية، لا سيما أن المفهوم العملي الأرسطي في السعادة يكاد الفارابي يكرره تماماً، لأن الهدف المشترك بينهما، هو أن الأخلاق الفردية تخضع للحياة الإنسانية المدنية، وبذلك، فإنها تخضع إلى علوم السياسة والاقتصاد، بيد أن الفارابي يحاول تعميم قول أرسطو في الفضائل الأخلاقية لتشمل باقي أنواع الفضائل الأخرى، ضمن مسار ربط الأخلاق بالسياسة.

المزيد من آراء