Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"التغريبة بنت الزناتي" مقاربة مسرحية جريئة للسيرة الهلالية

عرض مصري يعيد مساءلة الأبطال وينزع عنهم هالة التبجيل

مشهد من المسرحية المصرية التي تستوحي السيرة الهلالية (الخدمة الإعلامية للفرقة)

اللافت في العرض المسرحي" التغريبة بنت الزناتي"، المأخوذ عن السيرة الهلالية، هو تلك الجرأة في التعامل مع نص يكاد يكون خبزاً يومياً للمصريين، وبخاصة سكان الجنوب،" الصعايدة"، الذين يتعاملون مع السيرة بما يشبه القداسة. وقد تمثلت الجرأة في تفكيك النص وإعادة تركيبه وفق رؤية تعيد مساءلته وتوجه إدانتها لأغلب شخوصه، في قراءة جديدة ومختلفة. والمثير هنا أن كاتب نص العرض بكري عبد الحميد، هو أحد أبناء الجنوب الذين نشأوا على تبجيل السيرة وأبطالها.

لم يتعامل الكاتب بانبهار مع نص شفهي مبهر حقاً، فيه من قصص البطولة والفروسية والحب ما يجعله واحداً من أهم النصوص الشعبية وأكثرها إثارة للمتعة والتشويق. الكاتب أعمل فكره وتأملاته فيه، متجاوزاً حالة الانبهار به كنص أدبي، إلى حالة السؤال والبحث في جذور أبطاله ومصائرهم التراجيدية التي تسببت فيها صراعاتهم وأطماعهم وخياناتهم.

وإذا كانت رواية السيرة تختلف بين مكان وآخر، بحسب طبيعة الراوي وموقفه، وكذلك بحسب طبيعة جمهوره وموقفه، حيث هناك من ينتصر للهلالية، وهناك من ينتصر للزناتي خليفة، فإن الكاتب هنا تعامل مع السيرة وفق موقف آخر. فهو تجاوز فكرة الانحياز إلى أحد طرفي السيرة، إلى تأمل السلوكيات والمواقف لدى الأطراف كافة، وطرح تساؤلاته عليها، بشكل ناضج، فيه كثير من الوعي.

الجرأة امتدت كذلك إلى مخرجة العرض منار زين، التي انحرفت عن كل طريق يمكن أن توقع سيرها فيه، وهي تتصدى لإخراج عرض عن السيرة الهلالية. فهي قدمته برؤية حديثة، مزجت فيها التمثيل بالحكي، بالأداء الحركي، بالدراما الحركية (تصميم مناضل عنتر)، وامتدت أيضاً إلى الديكور" (صممه عمرو الأشرف) الذي تعامل بذكاء مع رؤية العرض، وأسهم في اختزال كثير من الأحداث عبر حيل وإمكانات وأفكار بسيطة، ربما من دونها كان العرض سيذهب إلى منطقة أخرى تأخذ كثيراً من حيويته، وتربك مشاهديه. والعرض يقدمه قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية (مؤسسة رسمية تابعة لوزارة الثقافة المصرية)، في قاعة صلاح جاهين.

خيط واحد

لسنا هنا في صدد تقديم السيرة الهلالية، التي قد تحتاج روايتها كاملة إلى عشرات العروض، لكن الكاتب التقط خيطاً واحداً، ومن خلاله طرح أسئلته على السيرة كاملة، فيبدأ العرض بسيطرة دياب بن غانم، أحد أبطال بني هلال، على تونس، بلاد الزناتي خليفة، وسعيه إلى اغتصاب سعدى ابنة الزناتي، التي أحبت الأمير الهلالي مرعي، المودع في سجن الزناتي مع الأميرين يحيى ويونس.

من هذه النقطة- رغبة دياب في سعدى- تنطلق الأحداث. تستنجد سعدى ببني هلال، لكنهم يعودون موتى، يأتي أبو زيد الهلالي، وخضرة الشريفة، والجازية الهلالية، وبعض الأمراء، ويؤدي استدعاؤهم هذا إلى إعادة محاكمتهم من قبل دياب. ومن خلال الحوار و"الفلاش باك"، تتكشف الخبايا، فسعدى التي تتغنى السيرة بحبها لمرعي وتضحياتها لأجله، ليست أكثر من خائنة لبلادها وأبيها، بل إنها، كما برز في أحد المشاهد، كانت واحدة من الذين أمسكوا بحربة دياب بن غانم الموجهة لقتل أبيها الزناتي خليفة، أي أنها قاتلة وخائنة ويدها ملطخة بالدماء. وكذلك فإن دياب مدسوس أصلاً على بني هلال وليس واحداً منهم، وخضرة الشريفة، والدة أبي زيد، هناك شك في شرفها، وبالتالي هناك شك في نسبة أبي زيد الهلالي نفسه إلى أبيه رزق. وكل البطولات المنسوبة إلى بني هلال، والتي يتغنى بها الرواة، ليست أكثر من بطولات زائفة عن مجموعة غزاة يبحثون عن حياة أفضل بعد القحط الذي نزل ببلادهم، والقبيلة نفسها تعاني من الانقسامات والخيانات والصراعات التي قضت عليها في النهاية.

قراءات مختلفة

تعامل مختلف مع السيرة الهلالية، لا يكتفي بتجريد شخصياتها من الهالة التي أحاطت بهم، بل، وإن بذكاء شديد، يمكن أن ينسحب على واقعنا العربي، وما يشهد من انقسامات وصراعات.

معظم المشاهد مزجت بين الكلمة والأداء الحركي، بخاصة مشاهد سعدى مع مرعي في سجنه، ومشاهدها مع دياب، ولعب هذا الأداء دوراً مهماً في توصيل المعنى، واختزل كثيراً من الحوار، وعبر عن طبيعة العلاقة بينها وبين مرعي، الحبيب، وبينها وبين دياب، العدو، الذي يريد اغتصابها. أي أن الأمر لم يكن مجرد رغبة من المخرجة في تقديم أداء حركي من دون أن يكون جزءاً من الدراما وفاعلاً في بنائها، فضلاً عن أن هذه الطريقة في الأداء أسهمت في تقديم صورة مختلفة لرواية السيرة تكسر أفق التوقع عند المشاهدين.

في منتصف القاعة حُددت أماكن جلوس المشاهدين فوق قرص دوار مرتفع قليلاً عن منطقة التمثيل، التي قُسمت إلى جزأين، الأول للمشاهد الآنية، والآخر لمشاهد الـ"فلاش باك".

في مشاهد الـ"فلاش باك" يتحرك القرص الدوار، حاملاً المشاهدين، في نصف دائرة، ليعيدنا إلى الماضي، وبعد انتهاء المشهد يتحرك نصف دائرة أخرى ليعيدنا إلى المشاهد التي تحدث هنا والآن. وهي فكرة جيدة، ومثلت إضافة مهمة للعرض، فكرة الدوران إلى الخلف لمتابعة أحداث ماضية، ثم العودة إلى الحاضر أمامنا، وإن عابها وضع مقاعد المشاهدين، فوق القرص الدوار، في مستوى واحد، مما أعاق الرؤية في بعض المشاهد لمن يجلسون في الصفوف الخلفية.

إيحاء المكان

صاغ مهندس الديكور القاعة بنعومة وبأدوات بسيطة، متماهياً مع رمزية العرض، في منطقة التمثيل الأولى التي تدور الأحداث فيها في "تونس الخضراء". على اليمين شجرة عجفاء لا اخضرار فيها، وعلى اليسار السجن الذي يقبع فيه أمراء الهلالية الثلاثة، وهو عبارة عن مجموعة حبال متشابكة ترمز إلى السجن. وفي المنطقة الثانية التي يتم العودة إليها قاعة فيها مقعد لسلطان الهلالية وبعض الموتيفات التي تشير إلى الأجواء العربية. وقاعة العرض كلها محاطة بما يشبه السور المتداعي، وعلى الجوانب علقت المشاعل، وسيلة الإضاءة في ذلك الزمن، وتعددت مصادر الإضاءة وألوانها بحسب الحالة المراد تجسيدها، سواء للدلالة على لحظات الحب، أو لحظات الخيانة والتآمر. واستجابت الإضاءة لكل التحولات في شكل دقيق ومنضبط، وجاءت الأزياء (صممتها شروق سامي)، مناسبة لأجواء الأحداث وزمنها، واستعان مؤلف الموسيقى هاني عبد الناصر بفرقة آلات شعبية، قدمت عزفاً حياً، وأضفت جواً شعبياً على الأحداث، فضلاً عن الموسيقى المصاحبة للأحداث، المشحونة هي الأخرى بالتوتر والسخونة التي وسمت العرض عموماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المساحة الأكبر في العرض كانت لسعدى ابنة الزناتي خليفة، (قامت بدورها فاطمة عادل)، التي بدت ناضجة ومكتسبة الكثير من الخبرات، وواعية لطبيعة الدور الذي تلعبه، والصراع الذي ينتابها ما بين حبها لمرعي وحبها لوالدها، وكيف انتصرت لحبها على حساب والدها وبلادها. وكذلك محمد حفظي في دور دياب الذي لعبه بهدوء ونعومة من دون افتعال، وعبد الباري سعد في دور الأغبر، وهبة سليمان في دور العرافة. وأدى الممثلون الآخرون أدوارهم، بحسب مساحاتها، بشكل واع، وغلبت عليهم جميعاً الرصانة والهدوء، بعيداً عن مغريات طبيعة شخصيات العرض.

منار زين مخرجة هذا العرض أفصحت عن وعي شديد بضرورة التجديد وقدمت عرضاً منضبطاً، واستطاعت في ساعة واحدة وبلمحات خاطفة اختزال سيرة طويلة مليئة بالأحداث والروايات. وبالتأكيد فإن نص العرض نفسه كان أكبر عون لها على تقديم رؤيتها الواضحة عبر خطة إخراج محكمة، وزاوية نظر جديدة إلى نص يخشى كثيرون التجرؤ عليه.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة