من المنطقي القول بصورة عامة، إنه كلما كنت أكبر حجماً تزداد فرصك في الحصول على صفقة تجارية مفيدة. من المؤكد أن هذا يبدو صحيحاً بالنسبة إلى المحاولات التي تجريها المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي (الأكبر حجماً) في إنشاء علاقات اقتصادية أمتن مع الولايات المتحدة ومع القوى العظمى الصناعية العالمية الناشئة في الهند والصين. وقد تجد بريطانيا أن التأقلم مع صفقات أبرمها الاتحاد الأوروبي حالياً مع دول كالأردن وكينيا، سهل إلى حد ما. كذلك يبدو أن المباحثات مع نيوزيلاندا تسير على ما يرام. لكن، مع الاحترام، لن تكفي تلك الصفقات في إمداد الاقتصاد البريطاني بالوقود اللازم للنمو في وقت يفقد فيه ميزاته السابقة في بقية أجزاء القارة الأوروبية. ينبغي أن تربط بريطانيا نفسها بمحطات لتوليد القدرة تكون أكبر وأكثر ديناميكية. إذ إنها تتعثر في الوقت الراهن.
وحتى الآن، يتقدم الاتحاد الأوروبي على المملكة المتحدة بأشواط في مضمار سباق الوصول إلى صفقة مع الصين، ويعود ذلك جزئياً إلى أسباب سياسية. ونظراً إلى أن جو بايدن يتبع أجندة سلفه الحمائية نفسها تقريباً، إذ إن حزمته التحفيزية بـ1.9 تريليون دولار أميركي، تركز بقوة على الوظائف الأميركية، ولذا ليس من المرجح أن ينجح البريطانيون أو الأوروبيون في تحقيق كثير من التقدم على صعيد مساعي الفوز بصفقات تجارية مع الولايات المتحدة. وهكذا، تشكل الهند الجائزة "المتاحة" في الحقيقة. وفي هذا السياق، يتأخر البريطانيون بضعة أشهر عن الأوروبيين. وسيكون مفاوضو الاتحاد الأوروبي مع حلول نهاية الأسبوع منهمكين في عملهم الذي يتعلق بالصفقة المنشودة، بينما يتعين على الجانب البريطاني أن ينتظر دوره للبدء في المباحثات حتى الخريف المقبل. لا عجب في ذلك، باعتبار أن سوق الاتحاد الأوروبي تكاد تعادل عشرة أمثال السوق البريطانية من حيث الحجم. ولعل ذلك يوقظ البعض من سباتهم، ويؤدي إلى تصحيح أحلام مغامرة "بريطانيا العالمية" التي يبدو أنهم ما زالوا متشبثين بها.
في ذلك الصدد، إن ليز تروس، وزيرة التجارة البريطانية، فخورة بالطبع لأنها استطاعت أن تؤمن استثمارات هندية بقيمة تربو على مليار جنيه إسترليني، فضلاً عن 6000 وظيفة محتملة التي يجري حالياً خلقها بالفعل (على أن تتوفر كلها في العام المقبل، وفق مزاعم الحكومة). مع ذلك، يبرز سؤالان افتراضيان لكنهما مهمان: كم من هذه الاستثمارات كان ليتحقق لو لم تكن السيدة تروس ووزارتها موجودتين أبداً؛ وكم الجزء الذي كان ممكناً منعه أو تأخيره من هذه الاستثمارات، لو كانت المملكة المتحدة لا تزال دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي تذهب إلى المباحثات التجارية بثقة، معولة على ثقله التفاوضي؟ ومن المحتمل، في الأقل، أن الشركات الهندية كانت ستفضل، بمثلما فعلت الشركات اليابانية من قبلها، أن تتخذ من بريطانيا قاعدة لها ضمن سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة، ولو كانت الحالة لا تزال كذلك لكانت تلك الشركات ستستثمر بصور أكبر.
والحق أن من المستحيل قطعاً الإجابة على هذين السؤالين، غير أن اتفاق بريطانيا في التجارة الحرة مع اليابان التي تملك اقتصاداً أكبر من اقتصاد المملكة المتحدة، يعطي بعض المؤشرات، لا سيما أن الميزة الهامشية الإضافية التي فازت بها بريطانيا ولم تكن موجودة في الاتفاقية القديمة بين اليابان والاتحاد الأوروبي، جاءت متواضعة إلى حد ما (وفي كل الأحوال، فقد تضاءلت أهمية هذه الميزة الجديدة بسبب الخسارة المستمرة للأسواق والاستثمارات نتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). إن إغلاق شركتي "هوندا" و"تويودا غوزي" مصانعهما [في بريطانيا]، بسبب هذا الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) في الأقل بشكل جزئي، سيكلف البلاد عدداً من الوظائف أكبر من فرص العمل التي ستخلقها الصفقة التجارية الجديدة. وأخذ الناس يشعرون ببعض هذه التداعيات سلفاً في قطاعات صناعة السيارات، والطعام والشراب، والزراعة وصيد السمك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيصل إغلاق هذه المصانع، والوظائف التي ستضيع بسببها، إلى صدارة الأخبار، ما سيثير متاعب سياسية، لكن تأخير استثمار مستقبلي أو تحويله لا يتمخض عن مشاكل وصعوبات من هذا النوع. وبالتالي، سيستغرق الضرر الآخر الذي ألحقه "بريكست" بالاقتصاد، وقتاً أطول للتعامل معه، وحتى يصبح "غير مرئي" بمعنى عدم الانتباه إلى المصانع والمكاتب التي لم تبن والوظائف التي لا يجري خلقها، وقد كان من شأنها أن تتدفق على المملكة المتحدة كجزء ليبرالي نسبياً من السوق الأوروبية الموحدة المزدهرة. ومثلاً، تعتبر السويد سوقاً أكبر بالنسبة للمملكة المتحدة، وسيمر وقت طويل قبل أن يصبح بوسع النمو في الاقتصادات الديناميكية في الشرق، تعويض خسارة أسواق الاتحاد الأوروبي التي تتأتي [الخسارة] من أسعار أعلى ومزيد من البيروقراطية.
وتطرح المغامرة الهندية أيضاً أسئلة أخرى بشأن مرحلة ما بعد "بريكست". فقد تعثر عمل البعثات التجارية البريطانية إلى الهند في الماضي لأن البريطانيين، خصوصاً تيريزا ماي، برهنوا على أنهم ينظرون بشكل عدائي وغير متعاطف إلى الطلبات الهندية بتسهيل وصول شبابهم إلى بريطانيا بقصد الدراسة والعمل. وبلغ الرُهاب الذي يحيط بموضوع الهجرة حداً بات معه تخفيف صرامة قواعد الفيزا يعتبر مستحيلاً، ومن الجدير بالذكر أن لذلك الأمر علاقة محدودة في شكل مباشر، مع حرية حركة العمال في أوروبا. والآن، بعد ما صارت المملكة المتحدة تتبع سياستها الخاصة بالهجرة بالطبع على أساس نظام النقاط، فإن ذلك كله يمكن أن يتغير. في المقابل، لم تشهد مرحلة تطبيق النظام الجديد ارتفاعاً سريعاً في عدد تأشيرات الدخول الممنوحة إلى طلاب ومهنيين هنود حتى الآن، ولو أنها فعلت لأَعرَبْ جناح اليمين في حزب المحافظين بوضوح عن عدم ارتياحه لهذا التطور.
ثمة ضوضاء مشجعة في برلمان وستمنستر حول تبادل الطرفين أفضل وأذكى ما لديهما، وذلك أمر مفيد للجانبين. من جهة أخرى، لا يتوفر سوى النزر اليسير عن حجم هذا التبادل. ولدى أخذه في الاعتبار إلى جانب احتمال وصول أبناء الطبقات التجارية والمهنية في هونغ كونغ، فإن البعض في الأوساط المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يتساءل إذا ما كان هذا هو حقاً الـ"بريكست" بمعدلات هجرة منخفضة، الذي صوتوا له.
وبالنتيجة، ترتبط التجارة مع الهند ارتباطاً وثيقاً بحرية أكثر في حركة الأشخاص بين المملكة المتحدة وتلك الدولة، تماماً على غرار ما ارتبطت التجارة مع الاتحاد الأوروبي بحرية الحركة مع دوله. وإذا كان البريطانيون قد "استعادوا السيطرة" بالفعل من بروكسل على حدودهم، فإنهم قد انتزعوها لمجرد أن يسلموها مباشرة إلى دلهي، وفق ما يبدو للبعض.
وتذكيراً، فإن رئيس الوزراء ناريندرا مودي زعيم قومي كأي زعيم آخر في العالم، ومهما بلغ مدى إعجابه العاطفي بلعبة الكركيت والشاي، فإنه سيضع مصالح الهند في المرتبة الأولى. وكذلك يعرف حق المعرفة أن تروس وجونسون في أمس الحاجة إلى صفقة تجارية رئيسة مع دولة "كبيرة". ونظراً إلى أن الولايات المتحدة والصين حالياً ليستا جاهزتين كي تبرما صفقة من هذا النوع، يمثّل الاتفاق التجاري مع الهند الخيار الواقعي الوحيد المتوفر لهما [جونسون وتروس]. ومن الممكن توقع أن مفاوضي مودي سيكونون مصممين على نيل ما يريدون من بريطانيا الصغيرة، بشكل أكبر حتى مما كان عليه ميشال بارنييه [مفوض الاتحاد الأوروبي الذي ترأس فريق العمل للتفاوض مع بريطانيا بشأن تنفيذ بريكست].
© The Independent