الصدمات تتوالى على لبنان الذي يحتاج إلى مزيد منها كي يستعيد نفسه، لكن التركيبة السياسية والميليشياوية الحاكمة والمتحكمة تبدو "محصنة" ضد كل أنواع الصدمات الإيجابية والسلبية، من صدمة الانهيار السياسي والمالي والاقتصادي على الطريق إلى "جهنم" التي تحدث عنها رئيس الجمهورية ميشال عون، إلى صدمة "نيترات الأمونيوم" التي دمر انفجارها الرهيب مرفأ بيروت وأحياء من المدينة، ومن الصدمة الإيجابية التي أحدثتها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرتين الى بيروت وتقديم مبادرة لإنقاذ لبنان عبر "حكومة مهمة" استثنائية، إلى صدمات التقريع العربي والدولي للمسؤولين المتخاذلين وحجب المساعدات السياسية، مع الحرص على المساعدات الإنسانية للشعب عبر الجمعيات والبلديات من خارج الرئاسات والوزارات.
القرار السعودي
وليس القرار السعودي الأخير بوقف استيراد الخضراوات والفواكه التي تتم عبرها عمليات تهريب المخدرات، صاعقة في سماء صافية، ولا تهريب المخدرات من لبنان مفاجأة لأحد، فالعملية الأخيرة لتهريب ملايين من الحبوب المخدرة المعبأة في ثمار الرمان، والتي كشفتها السلطات السعودية في ميناء جدة، سبقتها عمليات كثيرة، وربطت الرياض معاودة الاستيراد بـ "تقديم السلطات اللبنانية المعنية ضمانات كافية وموثوقة لاتخاذها الإجراءات اللازمة لإيقاف عمليات تهريب المخدرات الممنهجة ضدها"، سبقتها تحذيرات ومطالبات وحض على اتخاذ إجراءات من دون الوصول الى نتيجة إيجابية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"العمليات الممنهجة"
لكن اللافت بقوة هذه المرة هو استخدام تعبير "العمليات الممنهجة" لتهريب المخدرات، وهذا يعني أن تهريب المخدرات إلى المملكة "عمل سياسي" لا مجرد عمليات للربح المالي يقوم بها تجار المخدرات، وهو ينقل المشكلة من تشديد الإجراءات لضبط التهريب إلى المجابهة بكل الوسائل لـ "سياسة تهريب المخدرات"، ويضيف إلى هموم "الأمن الاجتماعي" اهتمامات "الأمن الوطني"، ولا أحد يعرف إلى أي حد تستطيع السلطات اللبنانية تقديم "الضمانات الموثوقة" التي تطلبها الرياض، لكن الانطباع السائد هو أن الأجهزة الأمنية تعرف رؤوس ما تسمى "سكك التهريب"، وقادة العصابات التي تتولى صنع حبوب "الكبتاغون" وأماكن الصنع، وما يعرقل عمل الأجهزة "حمايات" متعددة الأنواع لمجمل العمليات، وأحياناً تواطؤ البعض وفلتان الرشوة والفساد في كثير من مرافق الدولة.
رؤوس العصابات
وإذا كانت ملاحقة رؤوس العصابات صعبة، فإن مواجهة قوة منظمة ومسلحة تراها الرياض وراء "سياسة المخدرات" ضدها في إطار صراع إقليمي شديد، مهمة مستحيلة، فضلاً عن أن السعودية التي قدمت الكثير ولا تزال للبنان، تشكو من صمت المسؤولين الكبار عن تكرار الهجوم السياسي عليها في خطب السيد حسن نصر الله، كما من دعم "حزب الله" للحوثيين في اليمن الذين يطلقون الصواريخ والمسيّرات على الأراضي السعودية والأهداف المدنية، وأخيراً فقط استفاقت وزارة الخارجية، وبدأت تستنكر عمليات الاعتداء على المملكة.
المزارعون اللبنانيون
والذين يدفعون الثمن هم المزارعون اللبنانيون الذين يصدرون عادة نصف الإنتاج من الخضراوات والفواكه إلى السعودية بما تصل قيمته إلى 25 مليون دولار سنوياً، لكن المندفعين في صراع المحاور لا يقرأون في كتاب الناس الأبرياء المتضررين.
والسؤال المطروح في بيروت وفي بعض العواصم العربية هو، لماذا يترك أشقاؤنا العرب وأصدقاؤنا الدوليون لبنان لإيران تسرح وتمرح فيه من دون قوة تصنع نوعاً من التوازن؟ ولماذا لا يعاملون الوطن الصغير كما يعاملون العراق الذي تتغلغل إيران عميقاً في نسيجه الاجتماعي وتسلّح ميليشيات على غرار "حزب الله" في لبنان؟ والجواب بسيط. في بغداد "شريك عراقي" هو رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي ورئيس الجمهورية برهم صالح وثوار "تشرين"، والشريك العراقي منفتح على المحيط العربي وعلى نوع من الشراكة الاقتصادية والأمنية مع السعودية والإمارات، ومن العمل المتعدد في إطار "المشرق الجديد" مع مصر والأردن، كما يمارس السيادة في العلاقات مع إيران وأميركا، ويحرص على ألا يبقى العراق "ساحة لتصفية الحسابات" الإقليمية والدولية.
أما لبنان، فإنه "ساحة" ويفتقد إلى الشريك اللبناني مع العرب، وهو يبدو بقوة "حزب الله" وتفاهمه مع رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحر" وحيازة الأكثرية في المجلس النيابي كأنه "شريك إيراني"، وتلك هي المسألة.