ليس للصراع بين الكبار على قمة العالم بُعد واحد في ظل العولمة. فهو خليط من الصدام والتنافس والتعاون. مراوحة بين "حرب باردة" و"سلام ساخن". حتى في أيام الجبارين الأميركي والسوفياتي، رأينا مراحل من "الوفاق الدولي" أو أقله من "الانفراج" و"ذوبان الجليد". واللعبة اليوم معقدة جداً بين النسر الأميركي والدب الروسي والتنين الصيني. في المرحلة الماضية من الحرب الباردة بعد التحالف في الحرب العالمية الثانية، تبدلت المواقع: كان التنين الصيني في جبهة واحدة مع الدب الروسي، لكن الخلاف بين زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماوتسي تونغ وزعيم الحزب الشيوعي السوفياتي يوسف ستالين، أحدث عداء بين أكبر دولتين شيوعيتين. وحين قرر ماو الانفتاح على أميركا لموازنة موسكو، تجاوب معه الرئيس ريتشارد نيكسون الذي أوفد هنري كيسنجر إلى بكين في زيارة سرية ثم زارها هو علناً، واعترف بالصين الشعبية التي استعادت موقعها في مجلس الأمن بعدما كانت تحتله تايوان أو الصين الوطنية بزعامة تشن كاي تشيك. غير أن المواقف كانت مختلفة في حرب فيتنام. فضلاً عن أن النسر كان في عز نشاطه، والدب بطيئاً منهكاً، والتنين يستجمع قواه أيام دينغ هيساو بينغ بعد رحيل ماو ضمن شعار: "خبئ قوتك وانتظر وقتك".
فك التحالف
اليوم عاد التحالف بين بكين وموسكو في مواجهة واشنطن. وتغيرت أحوال اللاعبين: النسر شاخ وبدأ ينسحب من "حروب لا نهاية لها". الدب صار نشيطاً دخل في حروب مع جورجيا بحيث فصل عنها إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ومع أوكرانيا التي استعاد منها شبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في منطقة دونباس الذين يريدون الالتحاق بروسيا، وشارك مباشرة في حرب سوريا لدعم النظام. والتنين كبر حجمه وتعاظمت قوته وتطور اقتصاده وبدأ يمد نفوذه في العالم ضمن مشروع "الحزام والطريق" عبر باكستان وإيران ودول آسيوية أخرى، وصولاً إلى أفريقيا مع مواقع في أوروبا. وهو اليوم، قوة عظمى مرشحة لأن تكون عام 2049 في الذكرى المئوية لانتصار الثورة الشيوعية "قوة علمية كونية". واللعبة كالعادة بين "متغيّر وثابتين". الرئيس جو بايدن "متغيّر" مثل أسلافه كل أربع أو ثماني سنوات. الرئيس فلاديمير بوتين الذي يحكم منذ عام 2000 "ثابت" حتى عام 2036. والرئيس شي جين بينغ "ثابت" من دون نهاية محددة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذه المرة "لن تنجح أميركا في فك التحالف بين الصين وروسيا" كما يقول ألكسندر دوغين "ملهم بوتين". ولم يكتم الزعيم شي تحذير قادة الحزب الشيوعي من "البجعات السود" و"الديمقراطية الليبرالية الغربية". ولا بدا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف محرجاً وهو يقول أمام مؤتمر ميونيخ للأمن: "النظام الليبرالي العالمي الذي صنعته نخبة الغرب انتهى والبديل هو عالم ما بعد الغرب". أما "التوجه الاستراتيجي المؤقت" لإدارة بايدن، فإنه اعترف بوجوب "التعامل مع حقيقة أن توزيع السلطة في جميع أنحاء العالم يتغير ويخلق تحديات جديدة"، حيث "استثمرت بكين وموسكو بشكل كبير في جهود احتواء التفوّق الأميركي وعرقلتانا عن حماية مصالحنا وحلفائنا".
ثبات الرئاسة
وليس أمراً عادياً انقلاب الأدوار من "الاحتواء" الأميركي للاتحاد السوفياتي والصين إلى "الاحتواء" الروسي والصيني لأميركا. ولا عودة الإشارة إلى احتمالات نشوب حروب مباشرة بين الكبار. إذ يحذر العالم السياسي غراهام أليسون من "فخ ثوسيديدس"، وهو خطر الحرب بين "قوة مهيمنة قلقة وقوة صاعدة"، ويدعو إلى "مشاركة الكون مع القوى الكبيرة الأخرى". وتطالب ميشيل فلورنوي التي كانت مرشحة لوزارة الدفاع الأميركية، بتوجيه تحذير جدي إلى الصين من إغراق سفنها وتدمير مواقعها إذا حاولت "اجتياح تايوان". ويقول قائد الجيوش الفرنسية في حديث مع "الإكونوميست" البريطانية: "علينا تحضير أنفسنا لعالم أكثر خطورة" وتقوية الجيش البري من أجل"حرب بين دولة وأخرى"، لا مجرد "حرب على الإرهاب".
لكن ثبات الرئاسة ليس خارج المتغيرات في المجتمع. فالاقتصاد الروسي ضعيف، وبوتين لا يتحمل حتى معارضاً من وزن أليكسي نافالني. والطبقة الوسطى التي صنعها التطور الهائل للاقتصاد الصيني باتت تطمح لأن يكون لها صوت سياسي. وهذا ما يقلق شي الذي هو تلميذ جيّد لنيكولو مكيافيلي ومبدأ "أن تكون مرهوباً أفضل من أن تكون محبوباً"، كما يقول جان بيار كابتسيان في كتاب "الصين غداً: ديمقراطية أم ديكتاتورية". والجانب الجديد من اللعبة هو السباق للسيطرة على السردية الكونية، عبر الجيوش الإلكترونية. لكن القلق كبير في أميركا، بحيث يحذر فريد زكريا من أن البلاد تتجه نحو "فشل مكلف" في الصراع مع الصين. أما كيسنجر فيرى أن "شيطنة بوتين ليست سياسة بل حجة لغياب السياسية، وأن التعاون بين الغرب وروسيا متعذّر إذا كانت تسعى إلى الهيمنة الاستراتيجية". والخلطة معبرة: عقوبات أميركية على روسيا وتوصيف بوتين بأنه "قاتل" على الرغم من دعوة إلى قمة بين بايدن وبوتين. وحرب تجارية مع الصين وتعاون في المناخ. والكل محكوم بالتقدم والتراجع.