ما الذي يعتزم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فعله؟ إن سمعة الزعيم الروسي الماكر لجهة التمرس بالخداع والخبث رائجة إلى حد يجعله مدار سلسلة لا تنتهي من التكهنات ونظريات المؤامرة. مع ذلك ففي بعض الأحيان، إن الإجابة الأكثر وضوحاً استناداً إلى التجربة الطويلة والمرهقة مع ميوله الانتقامية، مفادها بأنه يحاول استفزاز الطرف الآخر لاختبار مدى قدرته على التحمل.
من طريق نشره أكبر حشد للقوى العسكرية على حدود أوكرانيا لم تشهد مثله المنطقة منذ غزو شبه جزيرة القرم عام 2014، يُقدم فلاديمير بوتين من جديد على ما يفعله دائماً – يجرب حظه إلى أقصى حد ممكن، ليرى إلى أي مدى يمكنه أن يجازف من دون أن يدفع ثمن ذلك. إن كل ما يفعله الرئيس الروسي في الواقع محسوب بقدرة خارقة للطبيعة تقريباً تساعده على معرفة ما يمكن للغرب أن يتحمله أو لا يتحمله، وما هو الرد الانتقامي، إن وجد، الذي سيستهدفه جزاء له. إنها لعبة يجيدها بوتين.
واليوم، يُستبعد أن يكون حشد كل هذه الأسلحة مقدمة لغزو كامل غرب أوكرانيا بأجزائه كافة التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة الشرعية في كييف. لكن الكرملين يريد على الأرجح، تذكير جو بايدن، قبل القمة الأميركية- الروسية التي يُشاع أنها ستُعقد، بأن في جعبة روسيا مصادر وخيارات خاصة بها يمكنها أن تلجأ إليها إذا كان الأميركيون حمقى بما فيه الكفاية، بحسب ما ترى موسكو، كي يحاولوا أن يلحقوا الإهانة بالسيد بوتين أو الإملاء عليه.
السياسيون الغربيون، بمن فيهم السيد بايدن حين كان نائباً للرئيس، يدركون جيداً القائمة الطويلة من المظالم والأحقاد التي كان يداريها السيد بوتين بعناية منذ وصوله إلى السلطة قبل أكثر من عشرين عاماً. إنه صادق في اعتقاده أن الغرب خدع بلاده وخانها أيضاً، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي قبل ما يزيد على عقدين من الزمن، وقد آن أوان استعادة روسيا ماء الوجه، واسترداد أيضاً وأيضاً بعض ما تعتبره هي إرثها الإقليمي المشروع.
لا تشتمل خطة روسيا على التورط في حرب تقليدية مع أوكرانيا في الفترة التي تسبق اجتماعاً مقترحاً بين بايدن وبوتين؛ أما الحصول على بعض التنازلات الضمنية من الأميركيين حول دور روسيا في مناطقها الحدودية، فهو الهدف الأكثر ترجيحاً لتحركاتها الأخيرة. فمع رحيل دونالد ترمب الطيّع، بات من الضروري تقييم السيد بايدن الصعب المراس واستفزازه قليلاً لمعرفة أين يمكن أن يلين ويتنازل. على أقل تقدير حين يجتمعان، لن يكون من المرجح أن يكرر بايدن ما فعله ترمب في قمة هلسنكي عام 2018، حين رجح صدقية كلام بوتين على كفة كلام أجهزة استخباراته مبدياً أمام الملأ عدم احترامه لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن تسليم أوكرانيا على طبق من ذهب لروسيا ليس مطروحاً، ويعلم بوتين ذلك، تماماً كما يعلم أن فكرة من هذا النوع هي عبارة عن خدعة يتعذر تحقيقها. إن غرب أوكرانيا وعاصمتها هما أشد عداءً للروس من شبه جزيرة القرم ومن المقاطعات الشرقية التي يحتلها حالياً وكلاء موسكو، وسيكون من الصعب ضم المنطقة بشكل مستدام وتسليم السلطة لنظام شكلي يبقى ألعوبة في يد الروس، حتى ولو اعتمدت موسكو أسلوب القمع الوحشي لبلوغ هذه الغاية.
وعلى الرغم من أن السيد بوتين يشعر بالحنين إلى مرحلة الاتحاد السوفياتي وأيام الإمبراطورية، فهو يدرك أن روسيا لا تستطيع أن تعامل أوكرانيا كدولة صغيرة تابعة تدور في فلك "مجال نفوذها"؛ أو كقضية داخلية مئة في المئة لن يبدي الغرب حيالها إلا مقاومة رمزية قبل أن يترك الأمور وشأنها. فقد تم تحمل تدخل الروس وعدوانهم بطرق شتى في الشيشان وجورجيا والنزاع بين أرمينيا وأذربيجان وشبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا.
يترتب على أي عمل عدواني بارز تقدم عليه دولة ذات سيادة به ضد دولة سيدة أخرى، ضروب الإدانات والعقوبات العالمية على أنواعها. وقد ينتهي الأمر بهذه المغامرة نهاية كارثية تماماً كغزو روسيا لأفغانستان ومحاولتها السيطرة عليها بعد عام 1979، لا سيما إذا بدأ الأميركيون تمويل حرب عصابات أوكرانية بسخاء وراحت موسكو تجازف بتصعيد قد يؤدي إلى نشوب حرب بينها وبين الغرب لا تملك اليوم موارد القوة للفوز بها. وسيرضى الرئيس بوتين في الوقت الحالي بالاكتفاء بتحذير حلف شمال الأطلسي (الناتو) من مغبة مساعدة أوكرانيا مساعدة كبيرة، وضمان عدم انضمامها إليه.
لذا فإن حرباً "لن تقع"، كما قال أحد أسلاف بوريس جونسون من رؤساء الوزراء البريطانيين السابقين – أو على الأقل لن تحصل مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا، كما لن تكون هناك محاولة لإعادة توحيد روسيا وأوكرانيا من جديد. بيد أن هناك مجالاً واسعاً أمام الروس كي يتسببوا بمزيد من المتاعب، ويجعلوا جميع جيرانهم وأعدائهم أقل شعوراً بالأمان والارتياح.
إن الأسلحة (التي سيستعملها الروس) هي عبارة عن حروب بالوكالة – هجمات سيبرانية وتجسس- لكن هناك أيضاً حس بوتين التكتيكي. لقد تمكنت عناصر روسية شبه رسمية وغير رسمية من العمل بحرية في المملكة المتحدة، مسممةً عملاء روساً سابقين بأسلحة كيماوية. وإذ كان رد الفعل الموحد من جانب الغرب على اعتداءات سالزبوري أكثر تشدداً مما توقع السيد بوتين أو عملاؤه، غير أنه كان مع ذلك رداً مقدوراً عليه. وهكذا كان الرد أيضاً على الهجمات السيبرانية، بما في ذلك تلك التي استهدفت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وألمانيا وكوريا الجنوبية، والمملكة المتحدة، ودول البلطيق التي كانت مصدر قلق خاص للسيد بوتين بسبب معاملتها لأبناء الأقليات الروسية الكثيرين الذين يعيشون في هذه الدول.
غير أن التدخل الروسي لن يتوقف في الانتخابات الغربية، ولو اقتصر فقط على تدخل جيش من الروبوتات والعملاء المحرضين العازمين على بث الفرقة في المجتمعات الغربية من خلال التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي.
ينفذ أليكسي نافالني، زعيم المعارضة السياسية، في هذا الوقت بالذات إضراباً عن الطعام، وهو يعاني من إصابته بفيروس كورونا وانزلاق في أقراص عموده الفقري، وقد يكون في خطر بالغ وهو يقبع في زنزانة سجن روسي، فيما لم يبدِ الغرب سوى قدر من الغضب لافت بضآلته التي تجعله غير مسموع. ما الذي سيحصل إذا لقي حتفه، على نحو ملائم، وهو قيد الاعتقال؟ من الممكن عدم توجيه اللوم للسيد بوتين إذا ظن أن الرد لن يكون "كبيراً جداً".
كان "أنجح" ما تجرأت عليه روسيا، والأكثر مدعاة للخزي بالنسبة للغرب، هو استخدام أسلحة كيماوية بالتواطؤ مع نظام الأسد في سوريا. فبعدما اعتبر الرئيس أوباما ذلك "خطاً أحمر"، صرف النظر عن الرد على الهجوم. ولا بد أن ذلك كان موقفاً لا يستطيع السيد بايدن، الذي كان وقتذاك نائباً للرئيس، أن يتذكره بكثير من الفخر.
وطالما أن السيد بوتين يدير مقاليد الأمور في موسكو، لن يكف الروس عن اختبار الغرب – ذلك لأن الاختبار أفادهم جيداً حتى الآن. ولعل أقصى الأماني الممكنة على المدى القصير هي أن تنجح قمة بايدن– بوتين في وضع بعض الحدود المجازية، والحقيقية أيضاً، لروسيا- على أن تكون حدوداً يبدي الغرب كل العزم على حمايتها.
مع ذلك، فيما يمضي الرئيس بايدن في التلويح فقط بالتهديدات التي يعتزم تنفيذها، ينبغي به أيضاً أن يقضي المزيد من الوقت في معاملة السيد بوتين والأمة التي يمثلها باحترام، والإقرار بمكانتها ومخاوفها، وعرض طرق بنّاءة للمضي قدماً إلى حيث تلتقي المصالح المشتركة، على غرار ملف الاتفاق النووي الإيراني وتغير المناخ. إن الحقيقة التي يجري تجاهلها في كثير من الأحيان تتمثل في غياب سبب أيديولوجي فعلي يكفي لحمل روسيا على خوض حرب باردة جديدة مع الغرب. وربما في وسع الرئيسين أن يُجمعا على ذلك.
© The Independent