انطلاقاً من الوقت الراهن، وأسئلته الدينية والوجودية، ومن مصر تحديداً، يستدعي يوسف زيدان في أحدث رواياته "حاكم" (دار بوك فاليو) كلاً من الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي الغريب الأطوار، والحسن بن الهيثم، عالم الهندسة والفلك والرياضيات، عبر مخطوط كتبه أحد أحفاد عمرو بن العاص، مؤسس مصر الإسلامية، يدعى "مطيع السهمي".
المخطوط يعثر عليه طالب يستعد لإنجاز أطروحة ماجستير، يدعى "راضي عبد المولى"، وسط أكوام من المخطوطات في منزل عائلته في صعيد مصر، ويختاره بالذات ليحظى (من دون تمهيد أو تبرير) باهتمامه هو وأستاذه في الجامعة "سيد فؤاد". المخطوط الذي كُتِب قبل نحو ألف عام، يعتبره الأستاذ كنزاً، بما أنه يحكي عن حكم الفاطميين لمصر، وهي فترة تفتقر إلى كتابات تتناولها، بحسب زعمه.
لكن المخطوط الذي يشغل معظم متن رواية يوسف زيدان، ويفترض أنه يرجع إلى القرن الحادي العاشر الميلادي، لا يقدم جديداً يختلف عن المعروف سلفاً عن شخصيتين تاريخيتين يتناولهما، هما الحاكم بأمر الله والحسن بن الهيثم. لا سيما ان الكاتب المغربي سالم بن حميش كان أصدر رواية عن الحاكم بأمر الله بعنوان "مجنون الحكم" (دار رياض الريس).
مخطوط افتراضي
نعرف من ذلك المخطوط الافتراضي أن كاتبه ولد في اليوم ذاته (سنة 375 هـ) الذي ولد فيه الأمير منصور الذي سيُعرف في ما بعد بالحاكم بأمر الله، وسيقدر للاثنين الارتباط بصداقة تتيح لهما حضور دروس العلم في قصر الحكم، وسيتصل الود بينهما بعد أن يخلف منصور والده في اعتلاء عرش الدولة الفاطمية، وهو دون الثانية عشرة من عمره، مُعَضّداً ببأس شقيقته الكبرى "سِت المُلك"، علماً أنه استمر في الحكم لنحو 25 عاماً (من 996 إلى 1021) انتهت باختفائه مع ترجيح قتله في مؤامرة دبرتها أخته، لأنه أعطى ولاية العهد لشخص من هامش الأسرة، وحرم ابنه منها.
"مطيع السهمي" يسرد في المخطوط كيف أنه كان يهيم عشقاً بابنة عم والده، واسمها "تَمَني"، علماً أنها تكبره بسبع سنوات، واعتاد أن يناديها "عمتي"، وحين يبلغ السادسة عشرة من عمره يفاتحها في رغبته في الزواج منها، وعلى الرغم من أنها لا تخفي شغفها به، إلا أنها تتمنع بدعوى أنها اعتادت أن تعامله كابن لها، ويصعب عليها تصور أن تكون زوجته، بل وتطلب منه أن يتزوج من غيرها لينجب أولاداً يتحقق بهم اتصال وجود الأسرة التي توشك على الفناء. لكنهما في الأخير سيتزوجان، وسيفقد حبها له عندما يقتل شخصاً راود إحدى جواريه عن نفسها.
روايتان برواية
يزاوج زيدان بين الحاضر والماضي، ليجد القارئ نفسه أمام روايتين، تتمحور الأولى حول "راضي" وزميلته في الدراسة "أمنية"، والثانية حول "مطيع" و"تمَني"، مع ملاحظة تشابه الأسماء من حيث دلالة الرضا/ الطاعة، مقابل التمني والرجاء تجاه ما يبدو مستحيلاً. فالعلاقة الأولى تعيقها صعوبة التقاء إيمان تقليدي يمثله "راضي"، بتمرد على الأديان تمثله "أمنية"، أما الثانية فيعرقلها شعور "تمني" بأنه لا يستقيم أن تتزوج من "مطيع" بما أنها هي التي كانت ترعاه بعد اختفاء والديه خلال رحلة حج محفوفة بالمخاطر، وتعتبره ابنها الذي لم تلده، فضلاً عن تأثرها بأقاويل اعتبرتها نذير شؤم على أسرتها، وعلى مَن يجرؤ على الزواج منها، على الرغم من جمالها اللافت.
وفي المخطوط، كما في مصادر تاريخية أخرى، "صار الحاكم ينظر بنفسه في رقاع الناس وشكاواهم، نهاراً، وفي الليل يجوس بين الشوارع وخلال الديار يتفقد الأحوال، وصار ينفرد أحياناً في القفار، وكان قد أمر بقتل مساعده برجوان، لأنه كان متعجرفاً لا يقيم وزناً لا له ولا للناس، وقتل أيضاً مؤدبه الفارقي، وقتل حامل المظلة رَيْدان، وقتل متولي أمور الحسبة ابن أبي نجدة، كما قتل غيرهم من أرباب المناصب عقاباً لهم على أخطاء جسام أو هنات من اللمم" صـ 195.
وتركز رواية زيدان على ما كان يموج به العالم الإسلامي في تلك الحقبة من فتن مذهبية، أبرزها الصراع بين السنة والشيعة، والمراوحة بين التلطف مع المسيحيين واليهود، والتضييق عليهم والتنكيل بهم، ويبرز على نحو خاص تقلبات الحاكم بأمر الله في هذا السياق، ومراجعات ابن الهيثم العقيدية التي تنتهي به إلى إضمار معرفة فلسفية تخصه وتغنيه عن الانحياز إلى دين بعينه ومعاداة غيره من الأديان، ومن ثم النجاة من شرور الفتن المذهبية التي دفعته إلى ادعاء الجنون ليتمكن من الخروج من العراق إلى الشام سالماً، ثم السفر إلى مصر تحت ستار أن لديه فكرة مشروع هندسي، كفيل بضبط تدفق مياه النيل. نقل الناس إلى الحاكم بأمر الله قول ابن الهيثم، "لو كنت في مصر لعملت في نيلها عملاً يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة أو نقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال في طرف الإقليم المصري" صـ 255. وهي الفكرة التي تحمس لها الحاكم بأمر الله، حتى أنه قرر أن يستضيف ابن الهيثم ويقدم له كل التسهيلات اللازمة لبناء سد في جنوب مصر، يحميها من تبعات انخفاض فيضان النيل أو زيادته.
بناء السد
لكنه في النهاية يبلغ الحاكم بأمر الله أن جغرافية جنوب مصر لا تسمح ببناء السد وأن لا سبيل لإقامته إلا بالسيطرة على أرض تقع في نطاق مملكة نوبية في شمال السودان (ما يستدعي إلى الأذهان قضية سد النهضة التي تنذر باشتعال حرب بين مصر والسودان من ناحية وإثيوبيا من ناحية أخرى). وهنا يجد ابن الهيثم نفسه مضطرا لادعاء الجنون من جديد، خصوصاً عندما يبدي الحاكم الفاطمي عدم رضاه عن ما انتهى إليه العالم الجليل بخصوص بناء السد، ويعرض عليه وظيفة حكومية. ابن الهيثم رأى أن ذلك العرض (ووافقه مطيع) سيعطله عن التفرغ لأبحاثه، خصوصاً ما يتعلق منها بكتابه "المناظر" الذي سيضع فيه أصول المنهج التجريبي، وركز فيه على تطوير علمي البصريات والفلك، فأسس لاختراع الكاميرا في العصر الحديث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب وصف المخطوط، الذي اجتهد يوسف زيدان في أن يكون أسلوبه قريب مما كان سائداً في كتابات تلك الحقبة الزمنية، فإن ابن الهيثم "قصير نحيل، ضئيل الحجم، لكن عينيه الواسعتين تشعان بذكاء يلمع مثل الشمس في وسط النهار".
ووفق رواية زيدان كذلك، فإن "ست الملك" وقعت في غرام ابن الهيثم الذي كان في الخامسة والأربعين من عمره عندما وفد إلى مصر، وأرادت الزواج منه، لكنه تملص منها، فقررت على الرغم من ذلك أن تساعده بالمال من دون أن يعلم أنها مصدره، حتى يتمكن من التفرغ لأبحاثه العلمية، ويواصل زهده في مباهج الحياة. أما أخوها، فقرر التواطؤ مع فكرة جنون ابن الهيثم وفرض عليه عدم الخروج من بيته، ليحفظ ماء وجهه أمام الناس الذين سيستغربون من أنه لم يعاقبه بالقتل، لفشله في تنفيذ فكرة بناء السد، وعهد إلى "مطيع" أن يشرف بنفسه على الحيلولة دون اتصال أحد أبرز علماء المسلمين بالناس، لكن ذلك سينتهي باختفاء الحاكم غريب الأطوار هذا، وسيقدر لابن الهيثم المكوث في مصر حتى وفاته في العام 1040 عن عمر ناهز 75 سنة.