مع انتهاء التفاوض بين مصر والسودان وإثيوبيا في الكونغو للتوصل إلى صيغة مقبولة من الطرفين المصري والسوداني بدأ التساؤل حول ما سيجري من الآن فصاعداً، بخاصة أن موقف مصر والسودان بات يحظى بقبول ودعم عربي لافت، وفي ظل تطورات مفصلية في إدارة الملف على كل المستويات، وهو ما يعني أن الأمر هذه المرة سيكون مختلفاً عن المرات السابقة، وأن القاهرة والخرطوم بدأتا فعلياً في التوصل لخيارات أخرى سياسية واستراتيجية وعسكرية، وهو الأهم في هذا التوقيت بالنسبة للجانب الإثيوبي.
مستجدات طارئة
يمكن القول إنه بات على القاهرة أن تنتقل لتكون المنطلق الرئيس للحركة السياسية والاستراتيجية تجاه ما يجري، خصوصاً أن السودان ما زالت له حساباته وتقييماته التي تلتقي مع المصالح المصرية في مساحات كبيرة على رغم أن الجانب السوداني لم يوقع بعد على إعلان واشنطن والذي سبق وأن وقعت عليه القاهرة، ولم توقع عليه إثيوبيا، وحاولت كسب الوقت قبل وبعد وصول الرئيس الأميركي جو بايدن للحكم في البيت الأبيض.
وبعد فشل مفاوضات الكونغو، سيكون أمام الجانب الإثيوبي إما طرح مقاربة جديدة للملء الثاني تلقى قبولاً مصرياً سودانياً وتقوم بالأساس على إما تأجيل الملء لعدة أشهر لحين التوصل لاتفاق مقبول، وهو اتفاق سيكون وفق قواعد عامة وليس فقط التشغيل وفقاً لرؤية الوفود الفنية، التي بحثت الأمر منذ عدة أشهر ولم يقبل بها الجانب الإثيوبي، وإما المضي في عملية الملء بسياسة الأمر الواقع، مثلما أعلنت وأبلغت الجانب الأميركي أخيراً متجاوزة ما سيجري من مفاوضات محتملة، وعلى رغم وجود قنوات تفاوضية مباشرة بين الجانبين.
وقد جاء ذلك متزامناً مع رسالة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه لن يكون هناك ملء ثان من دون قبول من الجانب المصري، وهو ما قد يُبقي أمام الجانب الإثيوبي خيارات من بينها اللجوء للجانب الأميركي والرهان على التحالف معه في أنه قد يدفع القاهرة للقبول بخيارات وسط أو مؤقتة بهدف منع الصدام المتوقع، وإن كان ذلك سيكون مرتبطاً باستراتيجية تدوير المصالح والحسابات، كما أن القاهرة بدا واضحاً أن ليست لديها خيارات كثيرة بل خيار واحد وهو عدم الملء من دون اتفاق مقبول.
في ما يبدو أن الرسائل الإثيوبية التي طرحت في الكونغو ركزت على تكرار ما عرض من قبل من مواقف لها، ولكن الجديد هو محاولة الاستمالة الإثيوبية للجانب الأميركي لكي تظهر أنها تفاوض بالفعل، لكن النتائج الأخيرة لمباحثات كينشاسا أعلنت فشلها مجدداً، وقد كان متوقعاً ألا يصل الأطراف لأي نقاط جديدة، بخاصة أن جدول الأعمال الذي طرح لم يحمل أسساً واقعية جديدة مع التركيز بالأساس على الجانب الأميركي وإدارة الرئيس جو بايدن، بخاصة مع ما يتردد عن وجود لوبي قوي ومؤثر في الدوائر الأميركية يعمل في اتجاهات مختلفة، ومن خلال دوائر للنفوذ والتأثير في القرار الأميركي المحتمل.
الطرح الأميركي
ولكي يكون هناك طرح أميركي حقيقي يمكن أن يستكمل ما جرى في إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، يجب أن تتحرك واشنطن تجاه أديس أبابا في سياق إعادة ترتيب الحسابات والتقييمات، لا أن تكتفي بتلقي الأفكار والمسارات، بل على أنها شريك حقيقي وتفاوضي، فالمؤكد أن الإدارة الأميركية الحالية لن تمارس ضغوطاً، بخاصة أنها لا تزال في مرحلة التحسب للخيارات والمواقف والسياسات ولا يمكن أن تكون الوسيط القوي بالفعل أو الذي لديه رؤية تفرض على الجميع وليس على إثيوبيا فقط.
وفي المقابل، قد يذهب الجانب الإثيوبي إلى مسار ثان بصرف النظر عما جرى في الكونغو، لمحاولة إبرام اتفاق مع الجانب السوداني والالتفاف على الموقف المصري بالأساس، لكي ينتقل إلى مرحلة جديدة تفاوضية يصفي فيها المشكلات الراهنة مع الجانب السوداني، وهو سيناريو مهم وقد يكون مطروحاً في حال استمرار رفض التعامل المصري مع إثيوبيا والبدء جدياً في الانتقال إلى خيارات أخرى في حال تجمد مسار التفاوض وحسمه كاملاً، والرسالة أن لكل طرف مبرراته ومرتكزاته.
خيارات القاهرة
ليس أمام القاهرة خيارات عدة والاتجاه إلى الخطة "باء" هو الأرجح في إطار مواجهة الموقف الإثيوبي، ولكن الإشكالية الكبيرة التي يمكن الرهان عليها هي إمكانية تدخل الولايات المتحدة في الفترة المقبلة، وهو رهان قد يكون وارداً لحسم الأمر والذهاب إلى واشنطن، حيث يعد الخيار النظري المطروح ويحتاج إلى توجه مصر نحو الضغط والتفاوض وفق حسابات معقدة مع الإدارة الأميركية الجديدة، وفتح سلسلة من الملفات المتعددة بين القاهرة وواشنطن وهو ما قد يؤدي لتدخل أميركي.
وفي حال الدخول في هذه المقايضات يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل وستكون لها مسارات عدة في التعامل، إما بتأجيل الملء الثاني، وإما البدء في تبني إجراءات مؤقتة ترضي الجانبين وتؤجل الحسم أو تجزئة الحل النهائي في إطار ما يمكن متابعته ومراقبته في الحل، وفي حال تدخل الجانب الإثيوبي لعرقلة ما سيجري، سيكون لمصر الذهاب إلى الخطة "باء" وحسم الأمر، ولكن وقتها القاهرة ستؤكد في خطابها السياسي والإعلامي أنها مضت للحظة الأخيرة مع إثيوبيا، وأنها لم تدخل في مواجهة إلا بعد استيفاء كل الإجراءات، بخاصة أن تحركات القاهرة لا تقتصر على الولايات المتحدة بل تمتد أيضاً إلى الجانب الصيني الذي يلعب دوراً مفصلياً في الأزمة في هدوء من دون أن يبدو في الواجهة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الجانب الروسي
مما لا شك فيه أن إدخال مصر للجانب الروسي قد يكون أيضاً مطروحاً ومهماً، ولكن القاهرة لا تزال تمسك بكل الأوراق إضافة للخيار العسكري الرادع، وهو ما دفع وزير الخارجية الإثيوبي للرد بأن بلاده جاهزة لكل الاحتمالات بعد إعلان الرئيس المصري عن الخط الأحمر الجديد في التعامل مع ملف سد النهضة، بالتالي فإن إثيوبيا تتوقع رداً مصرياً في نهاية المطاف، وقد يكون عسكرياً وليس سياسياً.
مصالح مباشرة
وفي السياق ذاته ربما قد يتأرجح الموقف السوداني بين القبول والتماهي مع الموقف المصري بما في ذلك التنسيق الأمني والسياسي والاستراتيجي، وبما في ذلك القيام بمناورات مشتركة بالقرب من إثيوبيا، ولكن الإشكالية الكبيرة في احتمال توجه السودان إلى خيارات أخرى خارج ما يجري من تنسيق سياسي واستراتيجي راهن. خصوصاً أنه من المحتمل أن تتطور العلاقات السودانية- الإثيوبية إلى سيناريوهات حقيقية ليست كلها صدامية وإنما يمكن توقع سيناريو آخر، مع ملاحظة أن هناك عدم توافق على اتباع الخطوة الراهنة والجارية، بخاصة أن السودان يتملكه موقف محدد.
المطامح الكبرى
ليس أمام إثيوبيا سوى الاستمرار في نهجها، خصوصاً أن أديس أبابا لن تسلم بسهولة ما لم تكن هناك وسائل أخرى تدفعها لتغيير موقفها، فإثيوبيا تشير إلى خيارات بيع المياه لمن يريد وسوف تقوم بتدوير حساباتها لتحقيق ما تريده، فالأجندة الإثيوبية أصبحت واضحة وأن الأمر لم يعد مرتبطاً فقط بتوليد الطاقة، ولم يكن وارداً باتفاق المبادئ الموقع عام 2015، الخاص بملء وتشغيل السد.
فيما يتوقف الطرح المصري- السوداني عند أنه يجب تأجيل ملء السد حال عدم التوصل لاتفاق نهائي بملء وإدارة السد، والاستناد إلى اتفاق واشنطن ليساعد على إنجاز الاتفاق في وقت قصير، مع التركيز والضغط في مسألة الإدارة الثلاثية للسدود، لتكون هنالك إدارة كاملة لمنظومة السدود.
إذن يمكن القول إن إثيوبيا تركز على مدة ملء خزان السد للابتعاد عن نقطة أهم مرتبطة بتشغيله مع السعي للتوصل إلى الاتفاق الجزئي بشأن الملء، وترك مسألة تشغيل السد معلقة، بخاصة في مراحل الجفاف والجفاف الممتد، مع العلم أن معدل أمان السد 1.5 وهو معدل منخفض، مما يجعل السد مهدداً بالانهيار أو الغلق نتيجة الطمي كما أن الموضوع ليس سبع أو عشر سنوات لفترة الملء، بل على العكس قد تسمح الأمور بخمس إذا كانت الأمطار غزيرة.
بالتالي فإن الموقف المصري يرتكز على أن تكون مدة الملء وحجز المياه مرتبطة بحالة الأمطار، وأن الظروف الهيدرولوجية، وحالة السدود وكمية المياه فيها، يجب أن تشكل المحدد في هذا الأمر، مع الإشارة إلى ما تردد عن أن هيكل السد قد يكون غير مؤهل للملء الثاني، وأنه يحتاج لعمل إنشاءات هندسية تستغرق شهراً لتعلية السد ليكون مؤهلاً للملء الثاني.
وفي ما يبدو أن إثيوبيا قد تستمر في رفض الاتفاق على أي آلية رسمية للتحكيم في المنازعات، وقد تصر على عمليات تشاور بين جميع الأطراف بطبيعة تقديرية وغير ملزمة، كما قد ترفض الربط بين الاتفاق النهائي حول السد وإقامة أي سدود مستقبلية على النيل الأزرق، ما يمكن أن يؤثر في مستوى تدفق المياه إلى دول المصب.
في المقابل كان من اللافت أن تزامنت المفاوضات الأخيرة مع اختتام فعاليات تدريب "نسور النيل 2" بقاعدة مروي الجوية في السودان، التي شاركت فيها عناصر من القوات الجوية السودانية والمصرية وقوات الصاعقة من البلدين، شملت "إجراءات التلقين، وأسلوب تنظيم التعاون لتوحيد المفاهيم وصقل المهارات لإدارة العمليات الجوية المشتركة، إضافة إلى تنفيذ العديد من الطلعات المشتركة لمهاجمة الأهداف المعادية، وحماية الأهداف الحيوية، بمشاركة مجموعة من المقاتلات المتعددة المهام بجانب تمارين الأبرار الجوي".