بعد 37 سنة من مغادرته وطنه إسبانيا في عام 1939 هرباً من فاشيي الجنرال فرانكو، وفي منزله الصغير في أحد أحياء روما الجميلة، حزم الشاعر رافائيل ألبرتي في عام 1976، حقائبه بادئاً عودته إلى أسبانيا فور إعلان العفو العام. وكان العفو أعلن فعلاً منذ فترة، بالتالي كان منطقياً أن يطوي نسيم إسبانيا عما قريب أنفاس هذا الشاعر – الرسام – المناضل، الذي عاش الحرب الأهلية إلى جانب لوركا وماتشادو، وغيرهما من المبدعين الثوريين الذين أعطوا القرن العشرين رائحة خاصة، لعلها الأجمل. في تلك اللحظة كان ألبرتي، قد تجاوز في سنه، ثلاثة أرباع القرن. وهو احتفاءً منه بقرب انتهاء غربته الطويلة ومنفاه الكئيب، أصدر طائفة من ذكرياته جمعها كتاب صدر في روما. وهذا الكتاب عدا عن كونه واحداً من أفضل السبل التي تعيننا على الدخول إلى عالم هذا الكبير من شعراء هذا القرن، جاء حافلاً باستعادات زمنية وذكريات تحمل أسماء معظم عمالقة القرن بجيليه الأولين وهو كان حديث الصحافة الإيطالية خصوصاً، والأوروبية عموماً، وترجَم من فوره إلى لغات عدة.
مغامرة "فنية" لا تنسى
ولعل أجمل ما في الكتاب استعادته بعض ما كان معروفاً عن ألبرتي. فقد ولد في عام 1902 في إحدى القرى القريبة من قادش الإسبانية ذات النكهة العربية، وسافر مع أسرته، لدى بلوغه الخامسة عشرة، إلى مدريد حيث بدأ دراسة الرسم، وحقق لبضع سنوات شيئاً من النجاح في هذا الحقل. ولكن في عام 1922، وبعد معرضه الأول، أصيب بالمرض، وهجر العاصمة، وانصرف إلى النشاط الأدبي حيث كان حظه ممتازاً. فهو سرعان ما فاز في عام 1925 بالجائزة الأدبية الوطنية عن كتابه الأول "بحّار عند الشاطئ". وبعد هذا النجاح قام ببضعة أسفار إلى فرنسا وألمانيا، كما أمضى شهوراً عدة في الاتحاد السوفياتي. ثم، بعد عام 1931، أي العام الذي أعلن فيه قيام الجمهورية الإسبانية، انضم ألبرتي إلى الحزب الشيوعي الإسباني وبدأ نشاطاً سياسياً كثيفاً. وهو، خلال الحرب الأهلية ناضل إلى جانب معظم الكتّاب والمثقفين الإسبان في سبيل قضية التقدم، ولبث كذلك حتى اليوم الذي هُزمت فيه تلك القضية، فاضطر إلى اختيار المنفى مع زوجته ماريا – تيريزا ليون، التي كان قد تعرف إليها في بداية الثلاثينيات. ولئن كان ألبرتي قد سهى في فصول الكتاب الجميلة تلك عن ذكر المغامرة التي جمعتهما عشية الرحيل، حيث عهد إليهما وسط القذائف التي كانت تنهمر على مدريد، المساهمة في إنقاذ بعض تحف المتحف الإسباني الشهير، فإنه سيرويها في واحد من آخر النصوص التي كتبها ونشرها عام 1990 في صحيفة "لا باييس" حيث كتب: "سوف أروي لكم هنا كيف أنني عايشت رسام إشبيلية، بيلاسكويث، طوال ليلة كنت مكلفاً فيها بسحب لوحة له ولوحة لتيسيانو من متحف برادو بناء على طلب من الحكومة الثورية في وقت كان القصف يدمر مدريد، والمطلوب مني ومن أمثالي من الفنانين أن ندخل إلى المتحف لكي نخرج منه قدر ما يمكننا من لوحات لإبعادها عن الدمار".
الصحبة الأخيرة قبل الرحيل
"كانت الأوامر صدرت بأن تكون أول دفعة من اللوحات التي ستنقَذ لوحتي "لاس مينيناس" لبيلاسكويث و"شارلكان على حصانه" لتيسيانو، وهكذا دخلنا زوجتي ماريا تيريزا وأنا إلى المتحف الغارق في الظلام ينتظرنا في وحدته المطلقة بعدما كان معظم مسؤوليه قد هربوا إلى بالنسيا بصحبة أفراد الحكومة. وهكذا سلمنا الوثائق المطلوبة لمساعدين اجتمعوا في القبو، فأعطونا اللوحتين اللتين حملناهما بمساعدة نجارين وضبوا الصندوق وبعض العمال لننقلهما إلى شاحنة تقف أمام باب خلفي. ومن ثم بدأت مغامرتنا بصحبة جنود من أفراد الكتيبة 52 الذين لاحظنا أنهم لا يعرفون شيئاً عن اللوحات ولا يفهمون لماذا علينا وعليهم أن نخاطر للابتعاد بها".
المهم أن العملية تمت بسلام ليجد الزوجان أنفسهما في آخر ليلة لهما في مدريد في صحبة رسامَيْ النهضة الكبيرين ولوحة كل منهما في صندوق. وبعد أن تم تسليم اللوحتين إلى مسؤولي الحكومة بدأت بالنسبة إلى ألبرتي وماريا تيريزا رحلة المنفى الطويلة التي تواصلت قرابة أربعة عقود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منافي بلا نهاية
كانت باريس أولى محطات الرحيل. وعن أولى خطوات الغربة المتتالية يقول ألبرتي في مذكراته: "كنا قد تركنا إسبانيا في مارس (آذار). وما إن بدأنا ندرك معنى الوصول إلى مدينة هادئة ومفعمة بالحياة، حتى انطفأت كل الأضواء الباريسية، وراحت صفارات الإنذار تعلن أولى المناوشات على خط ماجينو. يومها، وبناء على اقتراح بيكاسو قبلنا نحن الاثنين العمل كمترجمَين بسيطين في راديو باريس العالمي الذي كان يبث إذاعة موجهة إلى أميركا اللاتينية، لكن الدكتاتور فرانكو سرعان ما تدخل شخصياً لدى الماريشال بيتان لكي يمنع هذين "الإرهابيَّين الأحمرين" من الاستفادة من هذا العمل المتواضع، فطُردنا، لنتوجه إلى مرسيليا، ومنها إلى الأرجنتين".
وتوجه الاثنان بحراً إلى الغربة الأرجنتينية. وكان ألبرتي نفسه قد حلم بمثل هذا المصير يوم كان يقطن الجبال ويتوق إلى البحر، معبراً عنه في قصيدته الأولى "بحّار عند الشاطئ". وهي قصيدة مليئة بالشوق إلى السفر وبأحلام الطفولة. وعلى الرغم من أسلوبها المرح المزدحم بالأمل، كان يلوح منها شيء من الحزن والكآبة اللذين طبعاً في اللاحق أسلوب ألبرتي الشعري. والقصيدة الثانية التي كتبها ألبرتي كانت "الحبيبة" التي تروي حصيلة رحلة خيالية قام بها الشاعر بين قشتالة وخليج بيسكاي.
الشعر ومصارعة الثيران
أما القصيدة التالية فكانت "فجر إلهي" المتضمنة نوعاً من إضفاء طابع شعري على مصارعة الثيران، وهو أمر شبيه بما فعله غارسيا لوركا في حديثه عن الفجر. وبعدئذ توالت القصائد تباعاً. غير أن الأهم كانت قصيدة "أعلى من الملائكة" التي كتبها ألبرتي في عام 1929، فكانت ذات أهمية فائقة بالنسبة إلى الشعر الإسباني المعاصر، وحافلة بالإشارات السوريالية، ما يذكِّر بأعظم أعمال وليام بليك.
أما الأعمال الكاملة لألبرتي، والتي نُشرت عام 1946 في عنوان "قصائد 1924-1944" فتضعه في طليعة الشعراء الإسبان المعاصرين، جنباً إلى جنب مع لوركا وماتشادو وخيمينيز، وكذلك حال أعماله المسرحية التي نُشرت عام 1950، فضلاً عن كتبه اللاحقة التي وضعها تباعاً، سواء في الفترة التي أمضاها في الأرجنتين حتى عام 1963، أو حين اتجه إلى روما.
دالي الجميل الدنيء
وفي كتابه المليء بالذكريات يعود ألبرتي بالذاكرة إلى الجو الثقافي الإسباني في العشرينيات والثلاثينيات، وإلى الشعراء الذين ضيعتهم الحرب الأهلية: "لوركا قتله الفاشيون الكتائبيون، وماتشادو مات في معسكر للاعتقال عند الحدود الفرنسية، أما الآخرون الباقون فتوجهوا إلى المنفى، وكثيرون منهم ماتوا في المكسيك مثل لويس ترنودا وإميليو برادوس وليون فيليبي. وفي بورتوريكو مات خيمينيز، الحائز على جائزة نوبل. أما في إسبانيا فلم يبق سوى قلة لم تتمكن من السفر. لقد كان كل هؤلاء الشعراء آخر من بقي من جيل بدا ذات يوم كبيراً وفسيحاً، كما بدوا هم أنهم سيملأون في يوم إسبانيا كلها شعراً وحماسة". إلى هذا تمرّ في كتاب "الأجمة الضائعة"، أسماء عدة وحكايات كثيرة. وألبرتي في كتابه هذا يتذكر الصداقة التي كانت بينه وبين لوي بونويل ولوركا وسلفادور دالي، تلك الصداقة التي ولدت وترعرعت في "مسكن الطلاب" في مدريد: "كان دالي آنذاك شاباً نحيلاً ذا رأس جميل ودقيق التفاصيل، لونه أسمر ولهجته كاتالانية واضحة. وكان يبدو آنذاك خجولاً وقليل الكلام. وكان يسرني علمي بأنه يعمل طيلة النهار، ناسياً في أكثر الأحيان تناول الطعام. وكان غالباً ما يصل إلى لقاءاتنا متأخراً. كان ذا موهبة حقيقية، وسوريالياً بالفطرة. والغريب أنه عاد بعد ذاك وآمن، وأصبح ذا حس تجاري حقير".
وفي كتابه يتحدث ألبرتي أيضاً عن أندريه بروتون وولادة السوريالية. وعن فيلم "الكلب الأندلسي" للوي بونويل يقول إنه "أغرب فيلم انبثق من السوريالية". كما يتحدث عن فيلم "العصر الذهبي" الذي أخرجه بونويل ودالي في باريس. وعن لوركا يتحدث ألبرتي مطولاً، ويذكر أن ماتشادو كان يقول إن لوركا وألبرتي متكاملان باعتبارهما وجهين من وجوه الوطن الأندلسي: "أولهما مشرقي وثانيهما أطلسي". أما ألبرتي فيقول: "يبدو لوركا أكثر امتلاءً بالفولكلور والريف مثل أي فنان حساس قادم من غرناطة. أما ماتشادو فيبدو مثل أي جبلي قادم من قادش مليء بحس البحر ورائحة الملح اللذين ينعكسان حلماً عليه".