Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب الجوع أقسى من حرب البنادق وضحاياها هم السوريون

يزعم الأميركيون أن العقوبات تحمي المدنيين من الأسد لكنهم في الحقيقة يحولون سوريا إلى أرض خراب

ما يزيد على نصف مليون طفل دون سن الخامسة من بين اللاجئين السوريين يعانون فشل النمو الذي يؤدي إلى التقزم (أ ب)

غالباً ما تتجلى فورات النفاق العظيمة على شكل تعبيرات القوى الخارجية عن قلقها على رفاه الشعب السوري، ولكن حتى بهذه المعايير المتدنية، فإن "قانون قيصر" لحماية المدنيين، وهو القانون الأميركي الجديد الذي يفرض أقسى العقوبات في العالم على سوريا ويدفع بالملايين من أبنائها إلى شفير المجاعة، قد سجل رقماً قياسياً في الخداع الذي تقوم به جهة ما لخدمة نفسها.

من المفترض أن يكون الهدف من القانون هو حماية السوريين العاديين من القمع العنيف الذي يتعرضون له على يد الرئيس بشار الأسد، وقد أضفيت عليه بعض اللمسات الإنسانية من خلال تسميته باسم المصوّر العسكري السوري الذي صوّر أشرطة لآلاف السوريين الذين قُتلوا على يد الحكومة، كما هرّب إلى الخارج صوراً لهؤلاء الضحايا، لكن بدلاً من أن يحمي فعلاً السوريين، فإن "قانون قيصر" عبارة عن عقاب جماعي يزيد من إفقار الناس في كل من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة والمعارضة، على حد سواء.

وعلى الرغم من سوء الوضع في سوريا بعد عشر سنوات من الحرب وحظر اقتصادي فُرض على البلاد قبل سنوات طويلة، فإن الأزمة صارت أسوأ بكثير في الأشهر التسعة الماضية منذ دخل القانون المذكور حيّز التطبيق في 17 يونيو (حزيران) العام الماضي. إذ أدى إلى رفع عدد السوريين الذين باتوا مهددين بمجاعة وشيكة إلى 12.4 مليون نسمة، وهو ما يمثل 60 في المئة من مجموع سكان البلاد، حسبما ذكرت منظمة الأمم المتحدة.

يُذكر أن ما يزيد على نصف مليون طفل سوري دون سن الخامسة يعانون سلفاً فشل النمو الذي يؤدي إلى التقزم، وذلك بسبب سوء التغذية المزمن. وإذ انهارت العملة النقدية السورية وارتفعت الأسعار بما يعادل 230 في المئة خلال العام الماضي، لم تعد العائلات السورية قادرة على شراء المواد الغذائية الأساسية مثل الخبز والأرز، والعدس والزيت والسكر.

ويعتبر الممثل السوري غسان مسعود، الذي اشتهر بعد أن لعب دور (البطل التاريخي) صلاح الدين في فيلم "مملكة السماء" للمخرج ريدلي سكوت عام 2005، أن "حرب الجوع تخيفني أكثر من حرب البنادق". ونُقل عن مسعود، الذي يُعد شخصية لها شعبيتها في سوريا ومحايدة سياسياً، قوله إن العاملين لدى الحكومة يتقاضون 50 ألف ليرة سورية (أي ما يعادل 13 دولاراً أميركياً) في الشهر الواحد، مع أن كلاً منهم يحتاج إلى 800 ألف ليرة سورية للبقاء على قيد الحياة. ويضيف الممثل المعروف "أنا نباتي لا أتناول اللحم، لكنني لا اقبل أن مواطناً لا يستطيع أن يأكل اللحم لأن سعر الكيلو الواحد هو 20 ألف ليرة سورية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويهدد "قانون قيصر" بفرض عقوبات على أي شخص أو شركة تتعامل مع سوريا، ما يؤدي بالتالي إلى فرض حصار اقتصادي خانق على البلاد. وقد أثبت القانون، الذي صار موضع التطبيق أول الأمر مع بداية ظهور وباء كوفيد-19 في سوريا، وبعد انهيار الاقتصاد اللبناني الذي ترتبط به سوريا ارتباطاً وثيقاً، أنه بمثابة الضربة القاضية الأخيرة للسوريين الذين كانت قد أنهكتهم سلفاً عشر سنوات من الدمار.

كان من المفروض أن يستهدف "قانون قيصر" الأسد ونظامه، إلا أنه لم يكن هناك أي سبب على الإطلاق للاعتقاد أن من شأنه أن يزعزع سلطة هؤلاء أو يجبرهم على تخفيف القمع المزعوم الذي يمارسونه. وباعتبارهم يمسكون بمقاليد السلطة فهم في وضع جيد يؤهلهم للتحكم في الموارد المتضائلة. وكما كانت الحال مع 13 سنة من عقوبات منظمة الأمم المتحدة ضد صدام حسين بين عامي 1990 و2003، فإن الضحايا لم يكونوا الديكتاتور وعائلته، بل أبناء البلاد العاديين من المدنيين. لقد تحطم المجتمع العراقي جراء تلك العقوبات، ما أدى إلى نتائج ما زلنا نراها ماثلةً أمامنا للآن، ويكرر ذلك التاريخ نفسه حالياً في سوريا.

وتخلص "مجموعة الأزمات الدولية" International Crisis Group التي تتخذ من بروكسل مقراً لها، إلى أن "العقوبات والإجراءات الأخرى التي ترمي إلى إنزال العقاب بالحكام القمعيين تؤدي عادة إلى إيذاء الناس العاديين أكثر من غيرهم".
لقد كتبت في تسعينيات القرن الماضي أن العقوبات كانت تقتل العراقيين بدلاً من صدام، بيد أن المدافعين عن الحظر كانوا يزعمون أن منتقديه كانوا يساعدون الزعيم العراقي، وأنه إذا كان المدنيون يواجهون حقاً قدراً كبيراً من المعاناة، فإن مسؤولية ذلك تقع على عاتق صدام. وتُستخدم حالياً الحجج المفلسة نفسها لتبرير "قانون قيصر"، على الرغم من أنه يؤذي الناس الذين يعيشون في رقعة تقدر بـ30 في المئة من مساحة البلاد خارجة عن سيطرة حكم الأسد، وذلك بقدر ما يؤذي السوريين ممَن يعيشون تحت سيطرته في الـ70 في المئة المتبقية من مساحة سوريا.

تقول معلمة جامعية في مدينة اللاذقية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط والخاضعة لسيطرة الحكومة، إنها تحاول العيش براتب يعادل قرابة 18 دولاراً في الشهر. فهي تأكل أقل من العادة وتحصل على الخضراوات والفواكه من أقاربها المزارعين. وفي دمشق، يقول الناس إن كوفيد-19 ينتشر بسهولة لأنهم لا يملكون المال لشراء الطعام أو الأقنعة الواقية.

أما في إدلب، التي يسيطر عليها المتمردون، ويواجه فيها المدنيون القذائف، بالإضافة إلى كوفيد-19 أيضاً، أعربت إحدى النساء عن اعتقادها أن 95 في المئة من الناس كانوا في وضع أسوأ من ذي قبل بسبب الانهيار الاقتصادي في سوريا بكاملها. واللافت أن سكان المناطق الكردية سابقاً، التي باتت محتلة حالياً من قبل الجيش التركي، يدفعون المال كي يتم تهريبيهم عبر الحدود إلى تركيا، حيث يستطيعون العثور على عمل يوفر لهم أجراً يسد حاجاتهم المعيشية.

إن نشرات الأنباء والتقارير العامة عن الصراع في سوريا التي جرى بثها أو نشرها بمناسبة الذكرى العاشرة لاندلاع الصراع في سوريا في مارس (آذار) عام 2011، تكاد لا تذكر "قانون قيصر" والنتائج الخالية من الرحمة التي تؤدي إليها العقوبات. وهذا بالطبع موقف نموذجي لأن إجراءات الحظر لا تقتل أحداً على نحو دراماتيكي أو علني كما تفعل القنابل وطلقات الرصاص، حتى إنه يمكن تصوير هذه الإجراءات، كما يجري فعلاً في حالة سوريا، وكأنها خطوات غير عنيفة مصمَمة خصيصاً لمساعدة المدنيين.

إن سوريا عالقة في مأزق مسموم، اللاعبون الأساسيون فيه هم قوى خارجية تهتم فقط بمصالحها الخاصة، أياً كانت التأكيدات التي يقدمونها بعيون دامعة للبرهنة على عكس ذلك. ويبدو أن الأسد المدعوم من قبل روسيا وإيران، قد انتصر في الحرب من وجهة نظر عسكرية محضة، وبات يسيطر على الشطر الأكبر من المناطق المأهولة بالسكان في البلاد. أما الأكراد الذين تدعمهم أميركا، فيسيطرون على جزء كبير من شمال شرقي سوريا، غير أنه تم تطهيرهم عرقياً من اثنين من الجيوب على يد تركيا. ويحمي الأتراك بضعة ملايين من المدنيين المعارضين للأسد ممَن جرى حشرهم في جزء من محافظة إدلب بالقرب من الحدود التركية.

قد تندد الولايات المتحدة وحلفاؤها بالأسد، بيد أنهم لم يفكروا منذ وقت طويل أنه من الممكن، أو بالأحرى الضروري، إطاحته. إنهم يخشون أن سقوطه قد يؤدي إلى انهيار سوريا ونشر الفوضى فيها على الطريقة الليبية، وسقوطها في قبضة "الجهاديين"، ولكن بوصفهم أنهم يريدون حرمان الأسد وروسيا وإيران من نصر كامل، فإنهم راضون عموماً عن استمرار الوضع الكئيب الحالي على ما هو عليه لفترة طويلة.
وتقول إحدى الحجج المؤيِّدة للعقوبات إن هذه الإجراءات ستجبر الأسد في نهاية المطاف على تقديم تنازلات ووضع حد للحرب. غير أن العقوبات أدت إلى النتيجة المعاكسة تماماً، وفقاً لما ذكرته الإمارات العربية المتحدة، والتي يُرجَّح أن تلعب دوراً مركزياً في أي مفاوضات تهدف للتوصل إلى سلام دائم. ففي وقت سابق من هذا الشهر، أعلن الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير خارجية الإمارات، أن "الإبقاء على قانون قيصر كما هو حالياً يجعل هذا الطريق (نحو حل الأزمة) أشد صعوبة".
لا يريد الرئيس بايدن الانجرار أكثر من ذلك والتورط في المستنقع السوري، ولذا فمن غير المرجح أن يأخذ زمام المبادرة. ويعتقد كثيرون ممَن يعملون في مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة ارتكبت خطاً في أعقاب 11 سبتمبر (2001) من خلال التركيز على حروب الشرق الأوسط بينما كان ينبغي لها أن تتصدى للصين.

وإن السماح لوضع سوريا بالتفاقم في الوقت الذي يُفرَض عليها حصار اقتصادي يجسده "قانون قيصر"، يعني أن ملايين السوريين يغرقون إلى مستويات أعمق من أي وقت مضى من البؤس والفاقة. إن حالة "اللاسلم واللاحرب"، وهي وضع لا يوجد فيه رابحون أو خاسرون نهائيون، هي حالة جذابة للقوى الخارجية، غير أن سوريا حالياً أشبه ببيت من الورق المتهالك الذي يمكن أن ينهار في أي لحظة.

© The Independent

المزيد من سياسة