مع ارتدادات الأزمة الاقتصادية التي دفعت أكثر من نصف اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر، وبعد الانهيار القياسي في سعر الصرف في لبنان وازدياد التضخم المالي مما أدى إلى تضاعف أسعار السلع، أضحت المواد المستخدمة لتصنيع العملات المعدنية أغلى من قيمتها الشرائية، هذا الأمر دفع بعض المواطنين إلى الاحتفاظ بها كعمل فني بدلاً من التفكير في إنفاقها أو من باب الهواية في تجميع العملات النادرة وبيعها بقيمة أعلى.
ويستذكر الهاوي اللبناني لجمع العملات النقدية المعدنية والورقية زياد علامة لـ"اندبندنت عربية" رحلة اقتناء العملات منذ طفولته، لافتاً إلى أنها "أساس بداية الهواية، إذ بدأت بتجميعها عبر والدي الذي كان يحتفظ بها أيام شبابه، أما البعض الآخر، فاشتريته عندما كنت في رحلة إلى البنك المركزي أيام المدرسة كـالـ"Lucky Coin" من فئة 250 ليرة، وأحياناً أشتري من أشخاص هواة كانوا يجمعونها أو من محلات الأنتيكا والذهب وغيرها"، معبراً عن فرحته بـ"حصوله على عملات نادرة كالقرش المصنوعة من مادة الزنك التي كانت تُستخدم للصناعة".
ويوضح علامة أن "العملات النقدية الورقية والمعدنية مرت بمراحل عدة بدءاً من دولة لبنان الكبير إلى الجمهورية اللبنانية إلى مصرف لبنان، فهي شاهدة على تاريخ البلد ومراحل تطوره السياسي والاقتصادي وهي مؤشر للنمو أو التضخم، وكيف نضطر كل مرة إلى تحديثها إذا تدنت قيمتها".
وأكد أنه يستمتع بـ"تأمل تصاميمها المتنوعة وزخرفتها بشكل حرفي"، لافتاً إلى أن "هناك عملات معدنية، مصمموها من الأجانب، خصوصاً أنه في حقبة ما كانت تُطبع خارج لبنان في بلدان عدة مثل بريطانيا وفرنسا، أما العملات الورقية فكان يُكتب عليها بنك لبنان وسوريا إلى حين نيل لبنان الاستقلال في عام 1942، حيث بدأنا نكتب الجمهورية اللبنانية".
ويشير إلى أن أغلب الأوراق التي يجمعها تعود إلى فترة الخمسينيات، قائلاً إن "الكتابة الموجودة عليها سواء بالرصاص أو الحبر كفئة المئة ليرة، مثيرة للاهتمام لأن ورقتها كبيرة وكانت تتداول بكثرة في الكازينوهات ويكتبون عليها خلال ألعاب الميسر".
وعن سبب اختياره هذه الهواية، يقول "في الحقيقة هذه ليست هواية سهلة بل متعبة ومكلفة. تثيرني فكرة أن هذه العملات كورقة الـ100 ليرة أو الـ250 ليرة هي من الأوراق النادرة والتي كانت تتمتع بقيمة كبيرة جداً، إذ إنها كانت تشتري أرضاً في الجبل عام 1939. والجميل أن المصرف المركزي يتيح للهاوين اقتناءها، وواحدة من القصص التي عرفتها، أخيراً، أنه في عام 1999 طبعت عملات ورقية من فئة 20 ألف ليرة ولكن جراء خطأ ما تُلفت وبقي منها 100 ورقة. هذه الكميات المحدودة تباع للهاوين، ولأنها نادرة يتراوح ثمنها بين 1000 و1200 دولار أميركي".
تذويب العملات المعدنية
في ظل الانهيار المالي الذي يعصف بلبنان، يشكل الانخفاض القياسي في سعر الصرف عاملاً آخر لاختفائها. فالعملات المعدنية كالـ500 ليرة التي كانت تشتري لوحاً من الشوكولاتة أو البوظة والـ250 ليرة التي كانت تشتري منقوشة الزعتر أصبحت بلا قيمة. من جهة أخرى، تلجأ بعض الدول في ظل هذه الأزمات إلى تذويبها للاستفادة من المعادن الموجودة فيها وبيعها لاحقاً.
في هذا السياق، يشرح الباحث الاقتصادي والقانوني في المعهد اللبناني للدراسات كارابيد فكراجيان، أن "العملات المعدنية تتألف من نسب متنوعة من النحاس والزنك والألومنيوم والنيكل والفولاذ التي يمكن بيعها في ظل ارتفاع أسعار هذه المواد"، لافتاً إلى أنه "لا يمكن الاستفادة منها إلا من خلال تذويب كميات كبيرة من العملات"، موضحاً أن "مصرف لبنان يحرص على إصدار عملات نقدية معدنية جديدة تكون نسبة المعادن الباهظة فيها خفيفة، ولكن مع الإبقاء على قيمتها الشرائية".
وعن توجه بعض الدول إلى التخلي عن عملاتها المعدنية وحتى الورقية جراء التضخم، يشرح فكراجيان أن "نسبة التضخم في فنزويلا وصلت إلى 2659 في المئة سنوياً، إذ بات التعامل بالعملات النقدية أمراً مرهقاً، وبالتالي لجأ الناس إلى بطاقات الائتمان أو التعامل بالعملات الرقمية المشفرة. أما لبنان، فعلى الرغم من أنه لا يزال بعيداً عن التجربة الفنزويلية حيث بلغت نسبة التضخم 378 في المئة خلال السنة الماضية، فإننا سبقنا سوريا والسودان وزيمبابوي بأشواط".
آفاق لوقف الانهيار
وعن الحلول المقترحة لوقف الانهيار ومن أجل إنقاذ هذه العملات وإعادة التعامل بها، يعتبر فكراجيان أن "الحل يكون عبر وضع سياسة نقدية تكون فيها الليرة اللبنانية مغطاة بالكامل بعملة الاحتياط (الدولار) عبر تحويل البنك المركزي إلى مجلس النقد"، مشيراً إلى أن "هذا ما اقترحه البروفيسور الأميركي ستيف هانكي لخفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة وإنهاء مشكلة التضخم المفرط خلال 30 يوماً".
يعارض الخبير الاقتصادي والمالي دان قزي فكرة إنشاء "مجلس نقد"، مؤكداً "ضرورة العودة إلى جذور المشكلة، إذ إن الذي أوصلنا إلى الانهيار اليوم هو فقدان الودائع التي كانت تُستخدم لدعم سعر الصرف"، موضحاً أن "تشخيص هانكي، المتخصص في أزمات العملات، مشكلة لبنان على أنها أزمة عملة فقط، غير موضوعي"، مشدداً على "ضرورة أن يكون الحل جذرياً ونابعاً من الداخل لأن عملية الاستدانة سواء من الدول المانحة أو صندوق النقد الدولي تبقى حلولاً مؤقتة. أما الحلول البعيدة الأمد، فيجب أن تكون من خلال اعتماد التوزيع العادل للخسائر والتوقف عن طباعة الليرة واستبدال الاقتصاد الريعي الكسول بالاقتصاد المنتج".
هل العملة الرقمية البديل؟
وعما إذا كان لبنان سيتوجه إلى اعتماد العملة الرقمية في المستقبل القريب، يوضح قزي أن "معظم العملات المتداولة عالمياً هي في الأساس رقمية لأنها مبنية على عملية إدخال البيانات الرقمية. الذي يحصل اليوم في لبنان هو إعادة إحياء هذا المصطلح ووضعه بإطار جديد في ظل ظهور عملات رقمية جديدة مثل "الكريبتو" و"البيتكوين"، ولكن في الواقع تعاملنا بالعملة الرقمية بلا جدوى في ظل تحديد المصارف الكمية التي يمكن سحبها على سعر صرف 3900 ليرة للدولار، إضافة إلى منعنا من تحويلها إلى الخارج لشراء السلع".