Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محفوظ المُعتمَد بين قطب والعالم!

رأى سيد قطب اللحظة التاريخية كجاهلية مستحدثة، واجهها بالعودة لماضٍ لا بد من استعادته بالعنف، فكتب فاتحة لـ(معالم الطريق) الدموي؟... محمود أمين العالم الماركسي رآها كمبشّر بمستقبل العدالة المطلقة!

صورة أرشيفية للأديب الراحل نجيب محفوظ (رويترز)

"... واليوم أتلفّت فأجد بين يديَّ القصة والملحمة، كلتاهما في عمل فني واحد، في «كفاح طيبة»، فهي قصة بنسقها وحوادثها، وهي ملحمة، وإن لم تكن شعرا ولا أسطورة، بما تفيضه من وجدانات ومشاعر، لا يفيضها في الشعر إلا الملحمة. هي قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد «أحمس» العظيم، قصة الوطنية المصرية في حقيقتها بلا تزيّد ولا ادّعاء، وبلا برقشة أو تصنّع، قصة النفس المصرية الصميمة في كل خطرة وكل حركة وكل انفعال".

سيد قطب (مجلة الرسالة– 1944م)

1-

عود على بدء، فإن الروائي نجيب محفوظ استُقبل من الناقد سيد قطب، الفاتح لباب الرواية، رواية نجيب محفوظ أبّ الرواية العربية؟، وعند ذاك لم يلتفت إليه عباس محمود العقاد الرائي أن المبدع مبدعُ الشعر، وأن السرد- كيتيمته (سارة)- خرشوف قلّ حلاوته، أو كما قيل، كذا طه حسين السارد لـ"الأيام"، والناقد للسردية والمترجم وقتذاك، وقف عند المسرح، ومن المسرح الإغريقي جاءت وقفته عند ذهنيّات توفيق الحكيم المسرحية، وبأنها (عودة الروح) التي تستحق التنويه.

وحتى إن سفح الحبر على (زينب)، ما كانت فاتحة للسينما، فإن ذلك لم يكن الصراط الممهد لاهتمام (سيد قطب) بالروائي الشاب، نجيب محفوظ  الذي جاء بقطيعة مع البنية السردية الرومانتيكية الحفية بالشعرية والتوصيف والحدث الفجيعة والجملة المطنبة، وما يلفت النظر فيما قبل ذلك أن الروائي نجيب محفوظ من جاء من الفلسفة كطالب، كتب الرواية التاريخية التي بدا أنها المفتتح الذي انزاح عنه.

عندئذ فإن الروائي الشاب قد استقبل بحفاوة، هو السارد التاريخ الذي سيوقع روايته بالواقعية، التي أرجعها بعض نُقاده إلى كُتاب الرواية الفرنسية الكبار كـ(بلزاك، ستندال، زولا)، من تفسر واقعيتهم المجايلة لمحفوظ ناتالي ساروت- كاتبة ما عرف بالرواية المضادة- (إن ما برهن عنه كبار روائيي القرن التاسع عشر، من سعي مُوفق وجُرأة وحيوية وقوة مواجهة، هو، بالذات، ما يكفل خلود أعمالهم، لأن أعمالهم، حتى حينما يتحول الواقع الجديد الذي كشفوا عنه، إلى واقع مبتذل، تحتفظ بالفاعلية، والدقة، وقوة تأثير الأسلوب، وصرامة البناء التي اقتضاها الجهد المنجز، من أجل الكشف عن واقع مجهول وإعادة خلقه).  

2- 

ومن ذاك، ما الذي جعل الناقد الأول لذا الروائي في بواكيره (سيد قطب) المثالي حدّ التطرف، المهجوس بالبلاغة والبيان كما سيتضح، الروائي من سنرى أن ناقده القادم الواقعي الاشتراكي كمحمود أمين العالم، من سيكتب متنا نقديا للاحتفاء بالروائي نجيب محفوظ، كتب مقدمته سيد قطب المُفارق في متنه لمقدمته تلك.

وكذا الملاحظ أن المقدمة والمتن لم ينظرا البتة  في: "أيام" طه حسين، ولا "سارة" العقاد، ولا "عودة روح" الحكيم، لقد كانا معا الفاتحة للسردية الواقعية، بتكريسهما لرواية نجيب محفوظ المسترسلة المرتبطة بفئة اجتماعية خاصة في الزمنكان. فالرواية المحفوظية منذ بواكيرها تُضمر رؤية تنمو وتتطور، بأن الواقع الإنساني ليس ثابتا ولا نهائيا، وماهيته ديناميكية ومتغيرة عبر التاريخ، وأن تغيرها بنسب متفاوتة ومن صنع كل الناس.

إن المشترك هذا الأساس السوسيولوجي (الاجتماعي التاريخي) فصيح بيان السردية في الرواية الجديدة، التي وضع لبنتها وكرسها نجيب محفوظ، من هو المشترك بين (قطب) و(العالم)، وهو الكاشف عن أسّ أول في تكوين سيد قطب ما يؤده قادم الأيام.

 من زاوية أخرى هناك معطف مشترك للثلاثة ما يتمثل في الرومانسية الثورية، ومكونها الفلسفة المثالية الألمانية ذات البعد القومي الهواياتي (التاريخ، التراث، اللغة)، البعد المسكوت عنه للبنية الثقافية السائدة، العامر بها وجدان الثلاثة كحافز ودال المعنى في الزمنكان.

وقد اشترك الثلاثة، كل في مجاله وبطريقته، في هدم بنيان السلطة السياسية القائمة لحظة نضوجهم العقلي، وليس غريبا أن السلطة العسكرية الوارثة للسلطة الملكية الوراثية ستعمل على استقطاب كل منهم، من بدورهم منفردين يتقربون لتلك السلطة باعتبارها سلطتهم، وفي هذه المعطيات تكون السردية فن تحتفي به القوى الاجتماعية الجديدة– ما يدعى في السرديات الكبرى في تلك المرحلة بالطبقة الوسطى، وتخطو الرواية والقصة القصيرة خطوة متقدمة.

لا بدّ أن أنوه أن اللحظة التاريخية لأُس الخطوة المتقدمة للسردية العربية المتمثلة في رواية نجيب محفوظ، قد تجسدت في سرديات تاريخية كبرى من خلال سيد قطب، من رأى اللحظة كجاهلية مستحدثة، واجهها بالعودة لماضٍ لا بد من استعادته بالعنف، فكتب فاتحة لـ(معالم الطريق) الدموي؟، محمود أمين العالم الماركسي رأى اللحظة كمبشّر بمستقبل العدالة المطلقة! نجيب محفوظ أصبح سارد اللحظة. 

المزيد من آراء