احتفالات الذكرى الـ90 لميلاد ميخائيل غورباتشوف، أول وآخر رئيس للاتحاد السوفياتي السابق لم تحظ بذلك الاهتمام واسع النطاق، الذي كان من الممكن أن تحظى به لو لم تشهد السنوات الأخيرة لحكمه ما شهدته من كوارث وآلام كان أكثرها مأساوية انهيار الاتحاد السوفياتي، وما تبع ذلك من مهانة لحقت بروسيا في تسعينيات القرن الماضي. ولم لا والذكرى الـ 90 لميلاد غورباتشوف تأتي مواكبة لمناسبة أخرى تدفع إلى الذاكرة أقسى درجات الحزن والأسى، ألا وهي الذكرى الـ 30 لانهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، الذي قال الرئيس فلاديمير بوتين إنه "أكبر الكوارث الجيوسياسية في القرن العشرين".
اقتصرت احتفالات روسيا بالذكرى الـ 90 لميلاد غورباتشوف على برقية من بوتين وصفه فيها بأنه "من أبرز الشخصيات المتميزة في عالمنا المعاصر، ورجل الدولة الذي كان له أعظم الأثر في تغيير مسار تاريخ الوطن والعالم". ومع هذه البرقية، اكتفى التلفزيون الروسي بعدد من التقارير التي استعرضت سيرة حياة غورباتشوف، من خلال التوقف عند أهم المحطات التي حددت معالم سيرته ومسيرته، وكانت علامة فارقة في تاريخ الاتحاد السوفياتي والعالم.
تذكرت روسيا "البيريسترويكا والجلاسنوست" (إعادة البناء والشفافية) اللتين كانتا شعار المرحلة والتغيير الذي علق عليه الملايين من أبناء الاتحاد السوفياتي آمالهم، وتجاوز ما صادف الدولة من عثرات ينسبون إليها كثيراً من أسباب التخلف الاقتصادي والتدهور الذي كان أصاب كثيراً من قطاعات الدولة. ومع هذه المتاعب تذكر أبناء قريته "بريفولنويه" التابعة لمقاطعة ستافروبول في جنوب روسيا عديداً من لمحات "ميشكا" (كما كان يطلق عليه) الذي كان أول من حصل على وسام العمل الاشتراكي، ولم يكن قد بلغ الـ17 من عمره، نظير تميزه كسائق لجرار في موسم الحصاد، وهو الوسام الذي فتح له أبواب كلية الحقوق في جامعة موسكو. ومن هناك بدأ حياته العملية والشخصية. ففي جامعة موسكو ولج غورباتشوف إلى عالم الفكر والرأي الآخر الذي ساقه إليه أحد زملائه من كلية الفلسفة، الطالب التشيكي الذي ظل غورباتشوف وقرينته يتمسكان بصداقته منذ تعرفا عليه في عام 1955 لعقود طويلة استمرت إلى ما بعد توليه مقاليد الحكم في موسكو. أما رفيقة العمر زوجته رئيسا تيتارينكو التترية الأصل التي كانت تدرس في كلية الفلسفة في نفس الجامعة فقد تعرف إليها في "ساحة الرقص" حسبما اعترف في حديثه إلى التلفزيون الروسي. ومعها عاد غورباتشوف إلى موطنه في ستافروبول، وإلى مواطنيه الذين قضى معهم "كثيراً من سنوات العمر" قبل أن ترحل بعد إصابتها بالسرطان في نهاية تسعينيات القرن الماضي.
وحول تلك الحقبة الزمنية التي أسهمت في تغيير كثير من مسارات التاريخ وتضاريس الجغرافيا في الاتحاد السوفياتي والعالم، تتباين الرؤى والذكريات. وذلك ما حاولت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" الروسية واسعة الانتشار أن تنقله في تحقيقها بهذه المناسبة.
التقى مراسلو الصحيفة بعدد من أبناء قريته "بريفولنويه" التي قالوا إنها باتت أشبه بالقرية المهجورة. وهناك تذكروا الماضي البعيد الذي شهد تدفق كثير من أبناء الوطن إلى هذه البقعة المهجورة من مختلف أنحاء البلاد، ومنهم من كان قد نجا من ربقة العبودية بعد إلغائها في منتصف القرن التاسع عشر. ومن هنا استمدت القرية اسمها التي يمكن تجاوزاً تسميتها بمجاورة الحرية "بريفولنويه" التي توزعت بين قسمين، أحدهما للوافدين من سيبيريا وشرق الامبراطورية الروسية وكان يطلق عليها "روسيا الكبرى"، والآخر للقادمين من الأراضي الأوكرانية في غرب البلاد التي كانوا يسمونها "روسيا الصغرى".
وتذكر البعض بانتلي غوبكالو جد غورباتشوف لأمه، وهو فلاح جاء من منطقة تشيرنيغوف في أوكرانيا وكان شيوعياً بلشفياً متزمتاً نعتوه بالمؤذي لسوء معاملته لشباب القرية، ترأس أولى المزارع الجماعية في القرية. ومع ذلك لم ينج من الملاحقات الستالينية ليقضي في السجن ما يقرب من العام بتهمة "التروتسكية". أما الجد عن الأب أندريه غورباتشوف فكان فلاحاً قضى بعض سنوات عمره منفياً في سيبيريا بسبب عدم تنفيذ خطة الحزب في القطاع الزراعي. وتذكرت القرية أسلاف غورباتشوف لتصل إلى والده سيرغي وتقول عنه إنه كان متميزاً بنشاطه في العمل وبسمعته الطيبة، لكن هناك من قفز ليقول "إن ابنه فقط هو الذي خذله"!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتحول الحديث صوب الماضي، وما شهده من أفكار وتطورات كان بطلها ميخائيل غورباتشوف الذي يعبرون عن فخرهم به، ولكن من كان مفخرة لهم جميعاً هو "ميشكا" الشاب عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي (وكان يبلغ من العمر آنذاك 49 عاماً) الذي كان يبدو متميزاً عن أقرانه من بقية أعضاء المكتب السياسي ممن كان معظمهم يقترب من الـ 80 أو أكثر، لكن هناك من ظهر ليقول إنه كان "مغامراً"، وأضاف "أن لا وجود اليوم لبيته الذي قضى فيه طفولته، وفي ذلك كثير من الدلالات! يبدو أن (غورباتشوف) لم يكن يفهم ما يقول. حتى نحن... صدقناه، وصدقنا كل ما كان يقوله التلفزيون. لقد سلم غورباتشوف البلاد. حتى عندهم (مشيراً إلى الجزء الغربي من البلدة أي الجزء الذي يشغله المستوطنون الذين كانوا وفدوا من أوكرانيا ويسمونهم خوخول) لم يعد يحظى بالاحترام"، على اعتبار أن غورباتشوف من أصول أوكرانية. واستطرد ليقول، "وبالمناسبة كثيرون منهم رحلوا إلى الخارج ... إلى هناك (أي إلى أوكرانيا)".
وانخرط الجميع في جدل احتدم طويلاً حول تقديراتهم لما كان عليه الاتحاد السوفياتي من حال، وما آلت إليه روسيا من تدهور للأحوال الاقتصادية والاجتماعية في تسعينيات القرن الماضي.
وجاء تدخل آخر لينفي مسؤولية غورباتشوف عن انهيار الاتحاد السوفياتي. وألقى بعض من أبناء قريته بأعباء المسؤولية على خصمه وغريمه الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، الذي قالوا إنه انفرد بالحكم. وكان ذلك صحيحاً. فقد نجح يلتسين مع عدد من رفاقه من رؤساء الجمهوريات السوفياتية السابقة ومنها أوكرانيا وبيلاروس في إعلان الانفصال عن الاتحاد السوفياتي في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 1991، وهو الذي كان استبق ذلك بإعلانه "مرسوم سيادة واستقلال روسيا في يونيو (حزيران) 1990".
ومن اللافت ما يظل غورباتشوف يذكره منذ ذلك الحين حول "أنه من العار أن يعرف الرئيس الأميركي جورج بوش الأب بانهيار الاتحاد السوفياتي قبل رئيس ذلك الاتحاد"، في إشارة إلى أن يلتسين كان بادر بإبلاغ بوش بقرار الرؤساء الثلاثة حول الخروج من الاتحاد السوفياتي بموجب وثيقة "بيلوفجسكويه بوشا" التي وقعوها هناك، قبل أن يتولى زميله رئيس بيلاروس فياتشيسلاف شوشكيفيتش بإبلاغ غورباتشوف بهذه الوثيقة.
ويعود أبناء قرية "الزعيم" إلى جدلهم ليقول أحدهم، "لقد بكيت يوم إعلان الانهيار. كل شيء انهار". ومضى ليصب لعناته على يلتسين بوصفه المسؤول الرئيس عن الانهيار.
ويعترض آخر متسائلاً، "هل كان غورباتشوف المسؤول عن تقسيم المزارع الجماعية. لقد تفتتت الأرض. أعطوا لكل واحد منا قطعة من الأرض. ولكم كنا حمقى. هل تذكرون ذلك الاجتماع الذي أعربنا فيه عن سعادتنا بتقسيم المزرعة الجماعية؟ فرحنا لأن الجميع سوف يحصل على قطعة أرض كملكية شخصية. ماذا فعلنا بها؟ هل أصبحنا بهذه القطع أسياداً؟".
وتوقف الجدل ليتحول من الجد إلى الهزل. هل تذكرون دعابات ونكات الماضي؟ هل تذكرون ما قيل حول "ظلام الماضي وأنفاقه التي تظهر في نهايتها "مصباح لينين"؟، وتلك إشارة إلى ما كان يرومه لينين من مشروع كهرباء الاتحاد السوفياتي، الذي كان يعلق عليه مزيد من التطور الصناعي للبلاد. ليظهر آخر متذكراً ما كان يقال إبان عهد ستالين، "حول أن ركاب الحافلة كانوا يتوزعون فيها بين "جالسين" و"مرتعشين" في إشارة إلى القمع والإرهاب والخوف في ذلك الحين". أما في عهد ليونيد بريجنيف فكانت البلاد "أشبه بالطائرة التي يقودها شخص واحد بينما الباقون يشعرون بالقيء". أما في عهد غورباتشوف "المواطنون كانوا أشبه بركاب سيارة الأجرة، كلما امتدت الرحلة كانت التكلفة أكثر وطأة".
وقطع مهندس الصوت في قصر الثقافة بالقرية ذلك الحديث ليقول، إنه حين التحق بالمدرسة الموسيقية العليا في ستافروبول كان يخشى الاعتراف بأنه من قرية غورباتشوف. وكشف عن أن الزملاء هناك كانوا يكرهونه، وهو ما كان يخشى أن يتعرض بسببه للضرب والتنكيل.
ومع ذلك فالجميع من أبناء قريته يشعرون بالفخر به، ومنهم قسطنطين ديديشكو مهندس الصوت الذي سارع بعد كل ما قاله عنه من نعوت وأوصاف، إلى تناول هاتفه المحمول ليعرض بعضاً مما التقطه من صور مع قيادات المنطقة والإقليم ممن تحلقوا حول غورباتشوف خلال آخر زيارة قام بها إلى موطنه في عام 2006. وعادوا إلى تذكر ما عانته البلاد من تبعات ما أصدره من قوانين وأهمها قانون "تقييد تناول الخمور" الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وأكدوا أنه لم يقدم شيئاً للقرية، التي ولد وشب وترعرع بين أحضانها.
وفيما كانت القرية تنخرط في مثل ذلك الجدل العقيم في كثير من جوانبه، كانت النخب السياسية في المدينة تتذكر ما ارتكبه غورباتشوف من أخطاء وتصديقه لوعود الغرب وقياداته، ومنها أن حلف الناتو لن يتقدم قيد أنملة عن الحدود الشرقية التي تقف عندها قواته في ألمانيا الغربية. ومن هنا كان قراره بداية بلقاء نظيره الأميركي جورج بوش الذي أعلن معه عن نهاية "الحرب الباردة"، من على متن السفينة "ماكسيم جوركي" التي كان الوفد السوفياتي اتخذها مقراً لإقامته خلال المباحثات السوفيتية الأميركية. ونذكر أن "ماكسيم غوركي" أنقذت الوفدين من مأزق البحث عن مكان لانعقاد المباحثات، بعد أن هاج البحر المتوسط، وارتفعت أمواجه، وتعذر وصول الوفدين إلى البارجة الأميركية التي كان من المقرر أن تكون موقعاً للمباحثات، وكأنما كان يأبى قبول "الشكليات" التي وقع غورباتشوف في غوايتها.
ولعل ما شهده ويشهده العالم من تجاذبات سياسية ونزاعات عسكرية يؤكد عبثية الإصرار على التمسك بما قيل حول إعلان نهاية الحرب الباردة منذ ديسمبر 1989، وهو ما بدأت موسكو تعترف به وتردده على مستوى مختلف الأوساط السياسية والدبلوماسية. ولم يقتصر الأمر عند ذلك الحد بل وعاد غورباتشوف ليبادر باتخاذ قرار حل حلف وارسو، بعد إعلانه من على منصة الأمم المتحدة عن إسقاط "مذهب بريجنيف"، الذي كان يسمح للاتحاد السوفياتي بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان المعسكر الاشتراكي. وذلك ما كان في مقدم أسباب تحول كل هذه البلدان صوب الليبرالية الغربية وإعلان الثورة التي تباينت أشكالها بقدر تباين حركة القوى السياسية وتوجهاتها في هذه البلدان التي انضمت كلها في وقت لاحق إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. ولم يقتصر الأمر عليها وحدها بل وانضمت إليها جمهوريات البلطيق "السوفياتية" الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، وهي الجمهوريات التي كانت أول من رفع رايات الانفصال بإعلانها عدم المشاركة في استفتاء مارس (آذار) 1991 الذي أقرت الغالبية الساحقة من المشاركين فيه بالموافقة على بقاء الاتحاد السوفياتي.
وعلى الرغم من ذلك جنحت البلاد صوب الهاوية بداية من انقلاب أغسطس (آب) 1991 الذي يظل الغموض يكتنف كثيراً من جوانبه، وحتى معاهدة "بيلوفجسكويه بوشا" وما أعقبها من تطورات دفعت غورباتشوف إلى إعلان تخليه عن منصبه كأول وآخر رئيس للاتحاد السوفياتي مساء الـ 25 من ديسمبر 1991.