على الرغم من تأكيد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عدم تراجعها عن ضرورة عودة إيران الكاملة لالتزاماتها في الاتفاق النووي قبل رفع العقوبات عنها، وتحذيرها طهران من منع مراقبي وكالة الطاقة الذرية مواصلة عملهم، قدمت واشنطن إشارات حول استعدادها للتفاوض مع شركاء الاتفاق النووي والتراجع عن آلية "سناباك" في مجلس الأمن، في وقت التزمت ضبط النفس إزاء الهجمات التي تعرضت لها قواعدها في العراق، فما الإستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة مع إيران؟ وما الخيارات المتاحة أمام إدارة بايدن، وما العواقب التي يمكن أن تترتب على رفض إيران التعاطي إيجابياً مع واشنطن؟
خيارات صعبة
بينما تواصل إيران تحديها للولايات المتحدة عبر التهديد بتقليص التزامها الاتفاق النووي بشكل أكبر، بدءاً من الثلاثاء 23 فبراير (شباط)، من خلال وقف بعض عمليات التفتيش المفاجئة التي تجريها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تواجه إدارة بايدن خيارات صعبة في كيفية دفع إيران إلى التراجع عن انتهاكاتها من دون تقديم تنازلات واضحة أو اللجوء إلى التصعيد في ظل استخدام سياسة الدبلوماسية أولاً.
ويُبرز قرار إدارة بايدن، الخميس الماضي، التراجع عن مطالبة إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب بأن يعيد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فرض آلية العقوبات المعروفة باسم "سناباك" على إيران، وتخفيف قيود السفر المحلية على الدبلوماسيين الإيرانيين، بالتوازي مع فتح الباب أمام المفاوضات مع إيران والأطراف الخمسة الأخرى الموقعة على الاتفاق النووي العام 2015، تحولاً حاداً عن سياسة الرئيس السابق، ويعكس العودة إلى سياسة الدبلوماسية أولاً التي اتبعتها إدارة الرئيس باراك أوباما، الأمر الذي اعتبره بعض الجمهوريين تنازلاً غير مقبول يستهدف العودة السريعة للاتفاق النووي، لأن ذلك سيضعف قدرة الولايات المتحدة على معالجة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أن قرار بايدن لم يكن مفاجئاً، بالنظر إلى ما أعلنه خلال حملته الانتخابية الرئاسية، إلا أنه جاء في إطار زمني سريع يعكس استعجال إدارته العودة إلى الاتفاق الذي تعتبره حيوياً للحد من إمكانية انتشار السلاح النووي.
وقد تكون العقبة الأولى أمام العودة إلى الاتفاق هي من يتخذ الخطوة الأولى، فقد أوضح أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركي أن استعادة الاتفاق القديم غير كافية، وأن لدى واشنطن أهدافاً أخرى تشمل تمديد الاتفاق زمنياً، وتعميقه في محاولة لكبح قدرة إيران الصاروخية المتزايدة ودعمها المستمر للجماعات الإرهابية ولحكومة بشار الأسد في سوريا، وهي قضايا قالت إيران إنها ليست مطروحة على الطاولة.
لا تنازل مقدماً
ويتمثل التحدي الذي يواجه بايدن في إثبات أنه لا يقدم أية تنازلات لإيران مقدماً بينما يحاول في الوقت نفسه تغيير سلوك طهران، ذلك أن الخطر الرئيس يتمثل في أن الإيرانيين يضغطون حالياً بشن هجمات على القواعد الأميركية من خلال وكلائهم في العراق، والسؤال هو ما إذا كانوا سيتوصلون إلى نتيجة بأن الضغط على واشنطن يؤتي ثماره؟
غير أن الجهود الأميركية تأتي في وقت تُدقق فيه إدارة بايدن النظر في الميليشيات المسلحة العراقية التي شنت الهجوم في أربيل، ويُعتقد أنها تعمل بأوامر من طهران، إذ إن خطرها لا يقتصر على تهديدها قوات التحالف الغربي في العراق، بل يمتد إلى تقويض الهدف الدبلوماسي الأوسع للولايات المتحدة، ويمكن أن يحبط محاولتها إقناع العراق بالابتعاد عن إيران من خلال تقديم الحوافز والمساعدات بدلاً من التهديدات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحديات جوهرية
وفي وقت تتباين المواقف بشدة بين جيك سوليفان مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن الذي أكد أن الكرة الآن في الملعب الإيراني، وجواد ظريف الذي اتخذ موقفاً متشدداً برفض مشاركة الولايات المتحدة في اجتماعات حول الاتفاق النووي قبل أن تلغي عقوباتها ضد إيران أولاً، تظل هناك تحديات جوهرية حتى لو وافق الجانبان على بدء المفاوضات، وتأتي على رأسها عشرات العقوبات التي فرضها ترمب على إيران بعد انسحابه من الاتفاق النووي في مايو (أيار) العام 2018، التي شملت عشرات من العقوبات المتعلقة بالإرهاب وليس بالاتفاق النووي، الأمر الذي يجعل من الصعب، وربما من المستحيل، على الرئيس بايدن أن يتراجع عنها وسط مناخ مشحون سياسياً قد يعرضه لانتقادات لاذعة من الجمهوريين وأيضاً من بعض زملائه الديمقراطيين.
أما التحدي الثاني فيتمثل في الإجراءات التي اتخذتها إيران على طريق خرق الاتفاق، ولن يكون من السهل عكسها أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، مثل الخبرات التي اكتسبها الخبراء الإيرانيون من عمليات البحث وتطوير أجهزة الطرد المركزي المتقدمة التي تساعد إيران على تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 90 في المئة، وهو المستوى الذي يسمح بإنتاج سلاح نووي إذا أرادت إيران ذلك في المستقبل.
ويتعلق التحدي الثالث بدعم إيران لوكلائها الإقليميين، بما في ذلك أولئك المشتبه في قيامهم بهجمات على القوات الأميركية في العراق قبل أيام، التي أدت إلى مقتل مدني غير أميركي وإصابة جندي أميركي، ما يجعل من الصعب على واشنطن تقديم تنازلات لإيران.
وعلاوة على ذلك، أضيفت تعقيدات أخرى تتمثل في رغبة واشنطن إطلاق سراح المواطنين الأميركيين المحتجزين في إيران، وهي القضية التي بدأت الولايات المتحدة محادثات بشأنها مع المسؤولين الإيرانيين.
عملية شاقة وطويلة
في هذا الوقت، يعترف مسؤولون حكوميون سابقون بأن العودة إلى الصفقة ستكون عملية شاقة وطويلة، ويتزايد القلق بين عدد من الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس بشأن ما سيحدث خلال 10 أو 15 عاماً مع انتهاء الالتزامات الخاصة بالاتفاق النووي، على الرغم من رغبة بايدن في تمديد الفترة الزمنية المقيدة في الاتفاق، كما يثير منتقدو اتفاق 2015 الجدل بأنه لم يفعل ما يكفي لتقييد برنامج إيران النووي، ويعبرون عن مخاوفهم إزاء إمكانية تسرع إدارة بايدن برفع العقوبات عن طهران قبل التوصل إلى اتفاق يضمن عدم العودة إلى الشروط السابقة من دون تغييرات تضمن تقييد أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار وترضي الحلفاء الإقليميين.
أمر واقع
مع ذلك، يتخوف البعض من أن عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق إيران النووي الموقع العام 2015 هو أمر واقع، نظراً لرغبة واشنطن وطهران في تحقيق هذا الهدف، فقد كانت إدارة بايدن واضحة في رغبتها العودة إلى الاتفاق النووي إذا التزمت إيران بنود الاتفاق وتراجعت عن انتهاكاتها السابقة، ولن تكون هناك سوى بعض المفاوضات لتبدو الأمور كما لو أن طهران وقفت بحزم ضد واشنطن، بينما تسعى إدارة بايدن إلى صفقة جديدة مُحسنة تعالج العيوب الأصلية في الاتفاق السابق، وتضيف مزيداً من القيود على الأسلحة النووية الإيرانية وتطوير الصواريخ الباليستية ما يحقق لإدارة بايدن انتصاراً كبيراً يطمئن الحلفاء ويخلق الاستقرار الإقليمي.
خطوات إستراتيجية
ولكن، لكي تنجح الولايات المتحدة في تحقيق ذلك، فإن الأمر يتطلب من إدارة بايدن اتخاذ خطوات عدة منها التشاور مع الحلفاء الإقليميين لواشنطن مثل السعودية ودول الخليج وإسرائيل، لتأكيد أن واشنطن تأخذ مصالح حلفائها على محمل الجد، وهو ما لم تفعله إدارة أوباما في السابق، ثم الدخول في مفاوضات صعبة وطويلة مع إيران تسمح بإجراء بعض التحسينات في الصفقة بالنسبة إلى أميركا وحلفائها توافق عليها إيران، وبعد ذلك، الحصول على دعم كاف في الكونغرس للدفاع عن هذه الخطة الجديدة، فضلاً عن ضرورة تجييش وسائل الإعلام الرئيسة لشرح مزايا الاتفاق المعدل.
لكن، لكي يقتنع الأميركيون بالاتفاق الجديد، وبأن تغييرات مهمة ذات مغزى قد حدثت بالفعل، سيكون من الضروري ألا يُسمح لإيران بامتلاك برنامج نووي في غضون 10 سنوات مقبلة على الأقل، وأن يُسمح بالتفتيش طوال أيام الأسبوع إلى المواقع النووية المُعلنة وغير المُعلنة، وكذلك في المنشآت العسكرية حيث من المحتمل أن يحدث التسليح النووي.
مخاوف مشروعة
مع ذلك، برزت مخاوف مشروعة لدى البعض في الولايات المتحدة حول مدى قدرة إدارة بايدن على مقاومة رغبات النظام الإيراني ورجل دبلوماسيته المبتسم دوماً جواد ظريف، فالنظام الإيراني يريد العودة إلى الاتفاقية التي تم التفاوض عليها مع إدارة أوباما، لإزالة العقوبات المرهقة التي تهدد قبضته على السلطة، إلا أن ما يثير شكوك البعض في واشنطن أن النظام الإيراني قد يقبل فقط بإجراء تغييرات سطحية وشكلية طالما بقي جوهر الاتفاق الأصلي كما هو دونما تغيير، وهو ما يعني أن الاتفاق سوف يخفف العقوبات على إيران ويسمح بتدفق الأموال من جديد إلى النظام، فيقوي قبضته على السلطة ويواصل قمع الشعب الإيراني، ويساعده في تطوير الصواريخ، ويعزز ترسيخ قدم إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن عبر توفير مليارات الدولارات لجماعاته ومنظماته الوكيلة من خلال التمويل المباشر والتجارة.
وإذا وافقت إدارة بايدن على التنازل لإيران من دون أن تعلن ذلك، فلن يمنع هذا كلاً من واشنطن وطهران أن تدعيا النصر عند إبرام صفقة جديدة، ومن المرجح أن تضغط إدارة بايدن بقوة على وسائل الإعلام الرئيسة وتتوقع منها أن تجدد الحديث عن مكاسب وفضائل الاتفاق مثلما فعل فريق أوباما العام 2015، حينما كشف بن رودس نائب مستشار الأمن القومي للاتصالات الإستراتيجية في إدارة أوباما في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، أنه ضلل عن قصد الإعلام والصحافة المتوافقة مع الاتفاق النووي.
وقد تدعي إدارة بايدن أن الصفقة أفضل بالفعل من الاتفاق السابق بشكل ملحوظ، وأن محصلة الاتفاق الجديد أفضل ما يمكن أن نتوقعه.
رهانات المستقبل
غير أن المخاوف السابقة قد لا تتفق مع واقع التغيرات التي حصلت خلال السنوات الثلاث الماضية التالية لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق العام 2018، فقد أثبتت إيران سلوكها العدائي تجاه جيرانها على نحو غير مسبوق، وطورت صواريخها بشكل زاد من خطورتها، ما يهدد الأمن الإقليمي والعالمي، كما أن طهران لا تتوقف عن استخدام سياساتها الاستفزازية التصعيدية ضد الولايات المتحدة في العراق، فضلاً عن تصاعد الضغوط الداخلية من الجمهوريين وبعض الديمقراطيين على إدارة بايدن التي تضع ذلك في حسبانها، وتتوخى الحذر حتى لا تبدو في وضع المتساهل الضعيف في وقت يرغب فيه الرئيس بايدن أن يثبت قوة أدواته الدبلوماسية، وبأنه استطاع أن يحقق للولايات المتحدة وللأمن الدولي والإقليمي ما لم تستطع أن تحققه سياسات ترمب.
ومع ذلك، سيحتاج بايدن ألا يغفل استخدام سياسة العصا بينما يلوح بالجزرة خلال التفاوض مع إيران، إذا أراد أن يحقق هدفه النهائي، لأنه إذا فشلت إدارة بايدن في إجبار إيران على الانصياع للحد الأدنى من الشروط المحسنة التي تضمن الأمن الإقليمي والدولي وتوقف إيران من امتلاك سلاح نووي، فستكون العواقب وخيمة، لأن ذلك يعني توافر المبررات المنطقية لدى دول عدة في الشرق الأوسط لامتلاك سلاح نووي وتطوير الصناعات الصاروخية، فضلاً عن أن عدم لجم المطامع الإيرانية وتقليص نفوذها وتهديدها للاستقرار، سيفتح الباب لمزيد من التوتر الذي سيشعل المنطقة ويضر بالمصالح الأمنية القومية للولايات المتحدة ولشركائها الأوروبيين أيضاً.