خاض المخرج السوري طلال ديركي مغامرة لم يخضها أحد قبله. ذات يوم، قرر أن يتخلى عن كلّ شيء ويرحل إلى ريف إدلب، تاركاً زوجته وطفله في برلين، المدينة التي لجأ اليها بعد اندلاع الثورة السورية. قرر المخرج الأربعيني أن يخوض مغامرة خطرة حملته في النهاية من بوادي سوريا إلى مسرح دولبي في هوليوود عقب ترشّحه لـ"أوسكار" أفضل وثائقي.
اشتهر بفيلم "العودة إلى حمص"، الذي وثّق الاحتجاجات المناهضة للنظام السوري في حمص (٢٠١١)، مرّ ديركي في مرحلة مساءلة. كانت الثورة قد سلكت خلالها درب العنف. فهو من جيل حمل الكاميرا ليصوّر جرائم النظام السوري، إلا اأنه فجأة وجد نفسه في واقع جديد يضعه بين سندان النظام ومطرقة الإرهابيين. يروي أنه عندما كان يصوّر "العودة إلى حمص"، اضطر في أحد الأيام إلى دخول مركز ل"داعش". شاهد هناك أشخاصاً يرفعون رايات سوداً، مزنّرين بأحزمة ناسفة، ويضعون الكحل تحت العيون.
ما صدم ديركي أن الذين كانوا حتى الأمس مستعدّين للموت من أجل الحرية والديموقراطية، باتوا يطالبون بالخلافة الإسلامية وينادون بتطبيق الشريعة. شعر فجأة انه يعيش كابوساً: دمار وقتل، أضف اليهما الدين والجهاد. فدهمه إحساس بأن فيلمه "العودة إلى حمص" لم ينتهِ بعد وعليه إنجاز تتمة "غير رسمية" له. لم يكن سهلاً الرضوخ لفكرة التنازل عن البلد لهؤلاء ليصبح هو لاجئاً في الغرب. فكان القرار أن يقتحم البيئة الحاضنة للسلفية الجهادية وخصوصيتها وأن ينجز فيلماً عنها "من الداخل" بحثاً عن جذور العنف. ولكن كيف وهو الرجل العلماني الذي لا يؤمن بهذه الأفكار؟ لم يكن أمامه سوى حلّ واحد: أن يعرّف عن نفسه بصفته مصوّراً صحافياً متحمّساً لتلك الأفكار.
هكذا صوّرفيلمه "عن الآباء والأبناء" ودخل بيت السلفي أبو أسامة وتعرف إلى أولاده الثمانية، أحدهم يُدعى فعلاً أسامة تيمناً بالزعيم السابق لتنظيم "القاعدة". معه، عاش ديركي لحظات رعب كثيرة، نرى بعضها في الفيلم. لحظة لافتة جداً تحدث فصولها خلف خط النار، حيث يجد ديركي ملاذاً له برفقة أبو أسامة الذي يروي له تفصيلاً من حياته الشخصية في حين يطلق الرصاص نحو الجيش السوري. يسرد أبو أسامة لديركي كيف فجأة اشتمّ رائحة ابنه وهو في معتقل صيدنايا. ثم، بعدما انتهى للتو من رواية الحكاية، أطلق النارعلى شخص فقتله.
لكم ان تتخيلوا حال الخوف التي عاشها مخرج لم يقدّم مساومات تُذكر، بل طمح إلى القفز فوق الحدود المرسومة سلفاً للفيلم الوثائقي، ناسفاً عدداً من المسلّمات والقواعد "الأخلاقية" السائدة فيه، وهذا ما أغضب بعض الـ"طهرانيين". نسي هؤلاء أن السينما تزخر بحالات مماثلة. فالغاية (الاقتراب من الجهاديين) قد تبيح الوسيلة (انتحال شخصية). وما فعله المخرج السوري الراحل عمر أميرالاي في "طوفان في بلاد البعث" (٢٠٠٣)، هو أمر مشابه وظّفه في خدمة الحقيقة.
علامات استفهام
شخصية أبو أسامة تجعلنا نطرح علامات إستفهام كثيرة: كيف يمكن رجلاً أن يكون على هذا القدر من العطف تجاه إبنه وأن يصوب مسدسه بلا رحمة في اتجاه شخص آخر؟ سؤال، في طبيعة الحال، سيبقى بلا جواب. الاقتحام هو التعبير الأدق في الحديث عن مبادرة ديركي في تصوير هذه البيئة خلال الحرب، تلك الحرب التي لا يركّز عليها هنا، فهو سبق أن خصّها بفيلم. ما يفعله ديركي هو أقصى درجات الإقتراب من الجهادية، ليس في كونه تنظيماً دينياً، بل طقساً يومياً ونمط حياة وبيئة حاضنة للتطرف. واللافت أكثر من هذا كله، هو كيف يتحول بحث الكاميرا عن الحقيقة لحظات وجدانية لالتقاط تفاصيل كثيرة من دون أي نزعة إلى التنميط.
لا يدين ديركي أحداً، يكتفي بتسليم المعطيات إلينا كي نقرر بأنفسنا رأينا ممّا نراه، ومن المصير الذي أاختاره هؤلاء لأنفسهم. واذا كان هناك شيء من الإدانة، فهذا ليس ما سعى إليه. كلما تعرفنا إلى أبو أسامة، واكتشفناه أباً ملتزماً، ابتعدنا منه رجلاً يحمل فكراً تكفيرياً ومشروعاً إجرامياً. أدرك ديركي مبكراً أن الطريقة الوحيدة لفهم عقيدة هؤلاء هي بالتجرد من أي فكر مسبق تجاههم.يمتنع ديركي عن الإلقاء بنفسه في وحول السياسة. هذا فخ يتجنبه ببراعة. عمله يتجاوز ثنائية المعارضة والموالاة ليقفز إلى همّ أعلى شأناً. ما يبحث عنه لا يجده في الانقسامات التي شهدتها المأساة السورية. يتوقّف عند النتائج ولا يبحث كثيراً عن الأسباب. بعيداً من أي حكم، يسعى إلى أن يفهم من دون أن يبرر. أدرك ديركي جيداً استحالة الإتيان بوثيقة ذات قيمة من دون إعطاء المسألة الوقت الذي تحتاجه. لذلك، يعمل على مد الجسور بينه وبين المُشاهد وهذه الشخصيات.
البيئة التي وضع فيها المصوّر قحطان حسون كاميراه تعزز احساس التصحّر والجفاف. في مقابل الخصوبة التي تعدنا بها عقيدة أبو أسامة، ثمة أرض قاحلة لا تنبت فيها إلا القسوة، وخصوصاً في غياب أي عنصر نسائي. بقعة يابسة زُجَّ فيها بأطفال لتدريبهم على الجهاد والمشاركة في تدريبات عسكرية. لا يؤمن الفيلم بالكبار فالقطار فاتهم، ولكن يحتفظ بنظرة رقيقة إلى الأولاد وهم يفقدون براءتهم على مرأى منّا. لوهلة، تبدو المأساة برمتها خارجة عن السيطرة بعدما صارت لعبة في أيدي الأطفال!
"عن الآباء والأبناء" يريدنا شهوداً على جريمة توريط الأطفال وأدلجتهم وتجنيدهم، موقظاً لدينا الشعور بالمسؤولية. ألا يمكن هذه اليد ان تلتقط هذه المأساة؟ ان تفعل شيئاً ما؟ في القانون مادة تعاقب مَن لا يساعد شخصاً في خطر. هذه حالتنا في الفيلم. مشاهدون يخرقون القانون. غير أن الفيلم يستمد أهميته من شعور العجز هذا حيال مَن تفخخت عقولهم وقد يتحوّلون في القريب إلى قنابل تفجّر في أرض المعركة.
بعد قرصنة الفيلم وعرضه على الإنترنت، دارت حوله مهاترات ونقاشات كثيرة بين سوريين. "حلفاء" الماضي صاروا فجأة أعداء. مثقفون ومعارضون كثر نبذوا "الصورة المنزوعة من سياقها" التي يقدّمها المخرج عن الجهادية السلفية. صحيح أن الكفّة بعدما بدأت تميل إلى النظام، قلب الكثيرون معاطفهم، لكنّ ديركي ليس واحداً منهم. تصويره أعداء النظام، لا يجعله مع النظام، وإن استعمله الأخير للقول: "اليكم مَن أحارب". في غضون هذا كله، مات أبو أسامة وهو يفكك لغماً، ودخلت سوريا مرحلة جديدة لم تتضح معالمها بعد. أرضها مشبّعة بحكايات تحتاج إلى سنوات لتنتقل إلى الشاشة.