Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 اجتياح الكابيتول أخطر سياسياً من اعتداءات 11/9

على الرغم من كل ما قيل عن وحدة البلاد في حفل التنصيب، فإن أميركا منقسمة على نفسها عرقياً واجتماعياً إلى حد يصعب معه شد أواصرها

بعض أعضاء مجموعة "براود بويز" اليمينية المتطرفة يتجمعون أمام مبنى الكابيتول الأميركي (رويترز)

لطالما انتابني القلق في كل مرة كان عليّ أن أدخل فيها المنطقة الخضراء في بغداد، في وقت كانت تتعرض فيه مداخلها إلى هجمات متكررة يشنها انتحاريون كانوا يقودون سيارات محملة بالمتفجرات.

لم يكن التعرض إلى تفجير ينفذه تنظيم "القاعدة" في العراق هو الخطر الوحيد الذي يهددنا. فالجنود الذين كانوا يحرسون نقاط التفتيش الخارجية في المنطقة الخضراء كانوا متوترين، بشكل من الممكن فهم أسبابه، ما جعلهم على أهبة إطلاق النار على أي آلية، إذا شعروا أنها اقتربت منهم أكثر مما ينبغي. وقد اضطررت ذات مرة إلى الارتماء وراء حاجز خراساني طلباً للحماية، فيما كان حراس يطلقون النار على سيارة قديمة متهالكة تعطلت أمام موقعهم مباشرة.

 وتذكرت المنطقة الخضراء القديمة إياها في بغداد هذا الأسبوع، بينما كان 25 ألفاً من الحرس الوطني يقيمون منطقة محمية للغاية تحمل الاسم نفسه، في وسط واشنطن. كان الغرض المعلن من إنشاء هذه المنطقة هو توفير الحماية لحفل تنصيب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، وكانت الوكالات الأمنية الأميركية التي فاجأها غزو مبنى الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني)، منهمكة في إغلاق المنطقة بعد وقت طويل من انتهاء أزمة الغزو تلك.

يريد الديمقراطيون ووسائل الإعلام التي تمقت ترمب أن يصوروا أولئك اليمينيين المتطرفين، الذين قاموا بأعمال الشغب على أنهم "إرهابيين محليين" ممن نفذوا محاولة "تمرد" فاشلة بهدف منع بايدن من تولي منصبه. من الواضح أن بعض الرعاع المشاركين في أحداث الشغب  كانوا يريدون أن يفعلوا ذلك، غير أن الأمر لم يكن "انقلاباً" بمعنى المحاولة المنظمة للاستيلاء على السلطة، وذلك على الرغم من الانطباعات التي تتركها كل أشرطة الفيديو المروعة والصادمة. والإشارة إلى أن عاصمة الولايات المتحدة قد واجهت تهديداً يشبه من قريب أو بعيد ما واجهته المنطقة الخضراء في بغداد قبل 15 عاماً، هي مجرد مبالغة سخيفة.

إن ما نراه حالياً هو عبارة عن مشاهد من المسرح السياسي، وهو أمر يبدو بالكاد مدهشاً، باعتبار أننا لم نكد نرى سوى مشاهد من هذا النوع خلال السنوات الأربع التي قضاها دونالد ترمب في البيت الأبيض. ولا يشذ عن السياق هذا أن نهاية ولاية ترمب الرئاسية شهدت حدثين اثنين يتأرجحان بين المسرح وبين الواقع الحقيقي، وهما غزو مبنى الكابيتول والاستجابة العسكرية المبالغ بها لهذا الغزو.

لكن على مستوى معين، ما يبعث على البهجة، رؤية الجمهوريين الذي اقتربوا كثيراً العام الماضي من الفوز بالانتخابات الرئاسية من خلال الادعاء أن احتجاجات "حياة السود مهمة" كانت عبارة عن تمرد "إرهابي"، يزعمون اليوم أنهم المدافعون عن عين الحقيقة ويعربون بإخلاص عن ضيقهم بمغامرة الديمقراطيين الآن بتهديد الوحدة الوطنية. إن هذا الموقف يمثل حالة كلاسيكية من تعرض المعتدي إلى اعتداء مماثل لما ارتكبه ومن تفشي النفاق.

في الواقع، إن قيادة الجهوريين تشعر بالهلع من فكرة تحول غزوة "6/1"  إلى هجمات "11/9" (الحادي عشر من سبتمبر) جديدة، ما سيؤدي إلى شيطنة حزبهم بصورة دائمة ويزرع الشقاق في صفوفه. وفعلاً بدأت بوادر هذا الانشقاق تتضح، فمثلاً حملت لوحة إعلانات في إحدى المناطق الريفية المؤيدة انتخابياً لترمب في ولاية تكساس، عبارات كُتبت لشجب من تعتبرهم "الخونة" من "الجمهوريين الاسميين" ظاهراً وليس فعلاً، ممن رفضوا دعم ادعاء ترمب بأنه خسر الانتخابات من خلال التزوير.

وعلى الرغم من كل ماقاله بايدن عن الوحدة، فإن الفرصة سانحة حالياً للديمقراطيين لاستنزاف دماء الجمهوريين السياسية، ولن يفوتوا هذه الفرصة. وإذا لعب الديمقراطيون الأوراق التي في أيديهم حالياً بصورة صحيحة، لاستطاعوا استغلال الغزو المخزي لمبنى الكابيتول لسنوات عدة، تماماً بالطريقة التي استغل فيها الجمهوريون اعتداءات 11/9. صحيح أن الخسائر في الأرواح تختلف اختلافاً كبيراً، ففيما سقط 5 ضحايا في السادس من يناير، وصل عدد القتلى في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) إلى2977 قتيلاً، لكن يشترك الحدثان بسمات مهمة من حيث مقاربة كل منهما.

كان كل من الحدثين بارزاً للغاية حتى بمعايير التغطيات الإخبارية على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، فصورة الطائرتين اللتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك انطبعت في أذهان الأميركيين جراء إعادة بثها مرة تلو الأخرى. وعلى نفس الشاكلة، فإن كل تفاصيل الاستيلاء على مبنى الكابيتول باتت معروفة للمشاهدين في أنحاء العالم، وذلك لأن الثوار المفترضين قد أمضوا كثيراً من الوقت وهم يصورون أنفسهم أثناء الغزو. كانت السياسة على الدوام شكلاً من أشكال المسرح (العرض أمام عامة الناس)، إلا أن الفضائيات وشبكة الإنترنت جعلت من العالم برمته خشبة لعروض السياسة المسرحية هذه.

اضطر الديمقراطيون للتعامل مع ظروف صعبة، بيد أن هذا أمر من السهل المبالغة فيه. وعلى المدى الطويل، حققت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر نجاحاً أكبر بكثير مما كان  أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة يأملان فيه، وذلك لأنها أثارت الرد المبالغ فيه على نحو كارثي، الذي أقدم عليه الرئيس جورج دبليو بوش حين واصل ما أسماه "الحرب على الإرهاب"، فشن حربين كارثيتين في أفغانستان والعراق، وأضفى صبغة قانونية علنية على استخدام أميركا لطرق التعذيب وإرسال المشتبه فيهم لاستجوابهم وتعذيبهم في دول أخرى لا تطبق فيها قوانين صارمة تمنع ذلك.

وعلى المنوال نفسه، فإن المبالغة برد الفعل على أحداث 6/1 بهدف تحقيق مكاسب سياسية سريعة، قد يؤدي إلى نتائج معاكسة، إذ استهدف قطاعاً واسعاً من الجمهوريين. إن مناورة أنصار ترمب السابقين على شاشة فوكس نيوز، تتمثل في الادعاء بأن الـ74 مليون أميركي كلهم ممن أعطوه أصواتهم في الانتخابات، يتعرضون للشيطنة على نحو غير منصف. وربما كانت الشركات الكبرى تسارع للنأي بنفسها عن ترمب و"الـترمبية"، إلا أن نفورها هذا قد لا يطول، لأن طبقة الأثرياء تتذكر أفضاله عليها من طريق خفض الضرائب وإلغاء القيود.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وليس من المؤكد أن يستطيع ترمب نفسه قيادة صحوة "الترمبية" من جديد، بعدما  تقاعس عن اتخاذ الإجراءات اللازمة خلال الجائحة، ووقف موقف المتفرج مثل نيرون (حين كانت روما تحترق)، علاوة على أنه لن يفلت بسهولة من العواقب المتفجرة للغوغائية العداونية، التي خاطب بها أنصاره قبل أن يمضوا في طريقهم لاقتحام مبنى الكابيتول.

وبصرف النظر عن مدى تحريضه لهم، من المفترض أن يبلغ المحامون موكليهم ممن شاركوا في الاقتحام، أن من مصلحتهم الادعاء بأنهم إنما فعلوا ما فعلوه على سبيل إطاعة أمر مباشر أصدره الرئيس نفسه، ولولا ذلك لما كانوا أقدموا على ما يخالف القانون.

واعتقد أن تحقيق صحوة "ترمبية" سيكون بالغ الصعوبة، نظراً للخطر الذي يمثله بالنسبة إلى أشخاص كثيرين للغاية، وهو ما جرى إثباته بشكل ملموس على امتداد السنوات الأربع الماضية. لم يعد يتمتع بالقدرة على مفاجأة الجمهور ومن يعارضونه من الجمهوريين والديمقراطيين الذين يستخفون به. ولاتزال مهارته العظيمة تكمن في إتقانه استخدام وسائل الاتصالات الحديثة،  لا سيما "تويتر" والتلفزيون. بيد أن سجله الحافل بالأدلة على عدم الكفاءة في أداء وظيفته يؤكد أنه لم يتعلم شيئاً سوى استعمال أدوات الاتصال بنجاح.

وقد وصل حكمه الفوضوي إلى ذروته في التعامل على نحو كارثي مع جائحة كوفيد -19، ما أدى إلى وفاة 400 ألف أميركي. ومع ذلك، فحتى حين أخطأ بهذا الشكل، خسر الانتخابات فحسب، الأمر الذي يدل على حجم الدائرة الانتخابية التي يتوجه إليها.

وإذ ينسحب من الميدان عائداً إلى منتجعه "مارلاغو" في بالم بيتش في ولاية فلوريدا، فإن ترمب يبقى أشبه بهاجس بالنسبة إلى أميركا والعالم كله. ولحسن الحظ فإن احتمالات انتعاشه سياسياً باتت أقل مما كانت عليه قبل بضعة أسابيع حين بدا أن في وسعه أن يؤسس محطته التلفزيونية الخاصة، وينظم تظاهرات شعبية ضخمة ويدعي أن الرئاسة قد سُرقت منه. والأرجح أن عدد أعدائه الأقوياء ممن يمسكون بمقاليد الحكومة كبير، ما يحول دون عودته إلى الصدارة.

ومع ذلك، فإن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي أدت الى صعود ترمب، لا تزال ماثلة. ويمكن القول بشكل عام، إن الاقتصاد النيوليبرالي المهيمن منذ عصر رونالد ريغان ومارغريت تاتشر قبل أربعين عاماً، أدى إلى ترسيخ التفاوت الاجتماعي (غياب المساواة). وهذه ليست ظاهرة أميركية فحسب. ففي الحقيقة، ترامب هو فقط النسخة الأميركية  من سلسلة من القادة المستبدين القوميين الشعبويين، الذين استولوا على السلطة حول العالم، من البرازيل إلى  تركيا، ومن هنغاريا إلى الفيليبين.

كانت أميركا على الدوام منقسمة عرقياً وطبقياً انقساماً عميقاً على قدر لم يدركه معظم الأميركيين وتقريباً جميع الأجانب. والنداءات المتكررة واليائسة إلى حد ما، من أجل الوحدة التي تخللها حفل تنصيب بايدن، لا تؤدي إلا إلى تأكيد الانقسامات. ونظراً إلى أن الأحقاد والمخاوف عميقة الجذور، من المدهش أن البلاد لم تشهد مزيداً من العنف.

برز الاضطراب في أميركا في ستينيات القرن الماضي على صورة التظاهرات وأعمال الشغب، لكن أكبر تجلياته كانت الاغتيالات، وهذا ما لم نره بعد هذه المرة. وإذ تحدث بايدن عن وضع حد لهذه "الحرب غير الحضارية"، فإن عناصر الخلاف والفرقة تبقى كامنة بعيداً تحت سطح الحياة الأميركية منذ الاستقلال، وهي لن تنتهي الآن.  

© The Independent

المزيد من متابعات