بدت فترة الأعياد في لبنان محطة مفصلية في مسار مكافحة كورونا في البلاد. فكان عدّاد الفيروس يسجّل ارتفاعاً في معدل الإصابات قبلها، لكن قرار فتح البلاد في هذه الفترة من جهة، واستهتار اللبنانيين وعدم تقيّدهم بالإجراءات الوقائية من جهة ثانية، رسم مشهداً كارثياً في مرحلة ما بعد الأعياد. ارتفاع مخيف في عدد الإصابات ومرضى على أبواب المستشفيات لا يجدون مكاناً لهم لعدم توافر أسرّة شاغرة ولا أجهزة تنفس تنقذ حياتهم.
أمام هذا المشهد المرعب، سادت حالة من الهلع بين المواطنين. ومع بدء دعوات الأطباء إلى اقتناء "الأكسيميتر" لمراقبة معدل الأكسجين في فترة المرض للحد من مخاطر مضاعفاته، تهافت الناس على شراء الجهاز والأكسجين. وكما في أزمات سابقة، ونتيجة ازدياد الطلب على أجهزة التنفس، وقع المواطن ضحية الهلع الذي أصابه وأيضاً ضحية طمع التجار واستغلالهم كل ظرف قد يحققون أرباحاً من خلاله.
مع الشح في أجهزة التنفس و"الأكسيميتر" والأكسجين وغيرها من المستلزمات التي يحتاج إليها مريض كورونا، أصبحت تباع في السوق السوداء، فكانت النتيجة ارتفاعاً جنونياً في أسعارها وأزمة جديدة في وجه المواطن.
جهاز قد ينقذ الحياة
منذ قرابة الشهر، بدأت الحملات المكثفة حول أهمية جهاز "الأكسيميتر". فبحسب الأطباء، من خلال مراقبة معدل الأكسجين واللجوء إلى المستشفى في الوقت المناسب، يمكن الحد من الأضرار الناتجة من انخفاض معدلاته، على الدماغ والجسم ومن مضاعفات المرض الطويلة المدى ومن احتمال حصول وفاة لاحقاً بسبب تدهور الحالة. لكن هل على الكل اقتناء "الأكسيميتر" تحسّباً؟ بحسب الطبيب الاختصاصي في الأمراض الجرثومية الدكتور بيار أبي حنا، ففي حال الإصابة بكورونا، يُنصح من تظهر لديه أعراض متطورة للمرض باقتناء الجهاز لمراقبة معدل الأكسجين. كذلك "ينصح من هم من الفئات الأكثر عرضة لمضاعفات كورونا، كمن يعانون أمراض قلب أو رئة أو غيرها من المشكلات الصحية، باقتناء الأكسيميتر لمراقبة معدل الأكسجين تجنباً لتداعيات انخفاضه".
في الوقت ذاته، يشير أبي حنا إلى حالة الانخفاض الصامت لمعدل الأكسجين بحيث لا تظهر أعراض واضحة. تبرز هنا الخطورة إذا لم يتم التدخل الطبي السريع في الوقت المناسب. فيمكن أن يتدهور وضع المريض عندها وتفشل محاولات المعالجة أحياناً.
أما معدل الأكسجين الذي يستدعي استشارة متخصص، فهو 94 وما دون بحسب أبي حنا، الذي اعتبر أن الطبيب حينها ينصح بالفحوص والسكانر لتحديد الإجراءات الواجب اتخاذها.
أنواع كثيرة فأيّها أفضل؟
من الطبيعي أن تكون هناك أنواع فضلى وأكثر فاعلية من أجهزة "الأكسيميتر"، فمع ازدياد الطلب عليها، أصبحت تتوافر في الأسواق أنواع لا تعدّ ولا تحصى منها، وأخرى لا تدعو إلى الثقة، بغض النظر عن الأسعار التي قد تكون مرتفعة أحياناً من دون مبرر لذلك. ينصح أبي حنا بتجربة الجهاز أولاً على شخص لا يعاني أية مشكلة، فإذا كان معدل الأكسجين 90 مثلاً، يعني ذلك أن نوعيته ليست جيدة وأن ثمة مجالاً للخطأ فيه.
"في كل الحالات، ننصح بالأكسيميتر لمريض كورونا، لكننا لا ننصح الجميع باقتنائه، لأن من يفعل، يحرم شخصاً هو بأمسّ الحاجة إليه. فالتضامن الاجتماعي ضروري اليوم للخروج من الأزمة يداً بيد".
فوضى في التسعير والبيع
عندما بدأ تهافت المواطنين على اقتناء الجهاز وأيضاً نتيجة عدم توافر أسرّة شاغرة في أقسام كورونا في المستشفيات أو أجهزة تنفس، بدأت ملامح الأزمة تتضح. فخوفاً من عدم قدرة المواطن على تأمين جهاز تنفس له في المستشفى، بدأ التهافت على شراء هذه الأجهزة الطبية التي دخلت كما سابقاتها نفق السوق السوداء، علماً أن سعره يراوح رسمياً بين 70 و200 دولار أميركي، بحسب نقيبة مستوردي الأجهزة والمستلزمات الطبية سلمى عاصي.
أما سعر الأكسجين، فحوالى 500 دولار كما ذكرت عاصي في حديثها معنا، لكن وسط شح الأجهزة في الأسواق اللبنانية، بدأت المتاجرة بصحة المواطنين وحياتهم في سبيل تحقيق المكاسب من قبل البعض. هذا ولا تقتصر المتاجرة بالأرواح على رفع الأسعار، إنما أيضاً يُستبدل الأكسجين بالهواء، فقد "أصدرنا كنقابة لائحة بالشركات التي يمكن الوثوق بها بهدف الحد من استغلال المواطن، وإن كان من الصعب منع ذلك بشكل تام. كما أننا سعينا مع هذه الشركات إلى تأمين الأجهزة التي يحتاج إليها المواطن بأرخص الأسعار. نحاول ضمن المعقول، أما في ما يتعلّق بالمتاجرة في السوق السوداء والشركات التي تتلاعب بالأسعار، فلا حيلة لنا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودعت عاصي المواطنين إلى عدم التهافت على شراء هذه الأجهزة ما لم تكن هناك حاجة إليها، لأنهم بذلك يتسببون بانقطاعها من الأسواق، ما يفقد المرضى الذين هم بأمسّ الحاجة إليها، فرصة الحصول عليها، علماً أن نسبة 70 في المئة من الطلبات على هذه الأجهزة من أشخاص ليسوا مرضى، إنما يشترونها لاستخدامها عند الضرورة.
في إحدى صيدليات بيروت، يباع "الأكسيميتر" بمبلغ 100 دولار أميركي وهو الصنف الوحيد الذي لا يزال متوافراً، فيما كانت هناك أنواع يوصى بها ويصل سعرها إلى 230 دولاراً، لكنها فُقدت. تهافت الناس على شراء الجهاز أسهم في انقطاعه وارتفاع ثمنه، فازدادت الصعوبات في تأمينه من الشركات.
وارتفع الطلب بنسبة 60 في المئة على هذه الأجهزة الطبية، خصوصاً "الأكسيميتر" والأكسجين بحسب صاحب إحدى الشركات التي تبيعها الياس بدوي الدويهي، فكان ذلك السبب الأساسي للأزمة. بدا الحل بالنسبة إليه في طلب وصفة طبية ممن يرغب في شراء الأكسجين، حرصاً على الاستمرار في تزويده لمن يحتاجون إليه بشكل ملحّ بسبب المرض ولإنقاذ الأرواح. ويشير الدويهي إلى أنه حرص على الحفاظ على مستوى الأسعار ذاته في ظل الأزمة التي تمر بها البلاد والتي يبدو التضامن فيها ضرورياً. لكن المشكلة في التجار الذين لا يرحمون والذين تخلّوا عن إنسانيتهم، فيستغلون صحة الناس لتحقيق الأرباح بزيادة أسعار الأجهزة بين يوم وآخر.
بدأت الأزمة تشتد بحسب مدير أحد المراكز الطبية في بيروت حسين الهق في الأيام العشرة الأخيرة وازدادت صعوبة تلبية الطلبات كلّها. "لم يعد الأكسيميتر متوافراً لدينا. أما الأكسجين، فالطلب عليه كبير ولم نعُد نبيعه إلا بناء على وصفة طبية أو نتيجة فحص PCR إيجابية لضبط الأمور".
استغلال القدرة الشرائية
في ظل الطلب المتزايد، تنتظر الشركات المعلن عنها من قبل النقابة شحنات تصل قريباً إلى البلاد لتلبية الطلبات كافة، آملة أن تعمل وزارة الصحة على تسهيل دخولها. فيطمئن رامي أنطونيوس، صاحب إحدى الشركات الكبرى في بيروت لبيع الأجهزة الطبية أن شحنة أولى تصل في نهاية الأسبوع الحالي وأخرى الأسبوع المقبل. "استطعنا تأمين الطلبات كافة وحرصنا على عدم زيادة الأسعار، علماً أن الشحنيتن محجوزتان. وصلت أسعار الأكسجين في السوق السوداء إلى أكثر من 2500 دولار أميركي وهذا استغلال للظروف الصعبة التي نمر بها".
ويتوافر جهاز "الأكسيميتر" الصيني الصنع ذات النوعية الجيدة الذي تستورده الشركة بسعر 230 دولاراً أميركياً، بحسب أنطونيوس. أما سعر الجهاز الأميركي الصنع، فيتخطى 900 دولار. ويجب أن يحرص المواطنون على شراء هذه الأجهزة من شركات كبرى مشهود لها لضمان الحصول على نوعية جيدة. حتى إن الأسعار في هذه الحالة مناسبة أكثر ومنطقية.
يقع اللوم على المواطنين الذين يتهافتون في كل مرة على شراء بضائع معينة، فيصبحون ضحايا حالة الهلع التي تصيبهم. لكن ذلك لا ينتج إلا من انعدام الثقة بالدولة التي لم تضع استراتيجيات واضحة استباقية لمواجهة الأزمات. فالعالم يواجه كورونا منذ عام ولم تجهّز البلاد لهذا الارتفاع الكبير في الأعداد على الرغم من أنه كان متوقعاً. يجد اللبناني نفسه في كل مرة في مواجهة الأزمة، فيغرق في تداعياتها التي لا مخرج لها.