تكاد حاله أن تكون غريبة بين فلاسفة زمنه وفلاسفة كل الأزمان، فلئن كان يعتبر الأب الشرعي للتفكير الفلسفي إلى درجة أن كل المفكرين والمتفلسفين الذين سبقوه يحملون لقباً إجمالياً هو "الما قبل سقراطيين"، وتمكن تاريخ الفلسفة من أن يجد في تراث كل واحد منهم شذرات وكتابات فلسفية باقية، تنم عن الدور الذي لعبوه في تاريخ هذا النشاط الفكري الإنساني الذي سيصطلح على تسميته فلسفة، فإن سقراط لم يخلّف لنا أي نص كتبه بنفسه أو حتى أملاه.
كل ما بقي لنا منه سيرته وشذرات فكرية دوّنها آخرون من المستحيل طبعاً اعتبارها من صياغته حقاً، ومن هنا تنوّع تلقيه وتنوّعت سيرته، فلم يقيّض لنا أن نعرفه إلا من خلال الآخرين. فاعتبره بعضهم (الفرنسي موريس كلافيل مثلاً) "ذلك اليهودي الذي ساهمنا جميعاً في قتله"، بحسب عنوان كتاب له، ورأى فيه الفلاسفة المسلمون من الكندي إلى الرازي إلى مبشر بن فاتك، مؤمناً حنيفاً، واجدين له، بحسب البروفسور في جامعة القدس العبرية إيلاي آلون أكثر من 900 مقطوعة نسبوها إليه. بينما رأى فيه كثر آخرون شخصية درامية، فرسموه في لوحات ولحنوا من حول حياته وموته أعمالاً أوبرالية، كما فعل بايزيليو وغوارديني وحتى إريك ساتي في زمن أقرب إلينا، وتطول هذه اللائحة طبعاً.
لم يكتب شيئاً
كل هذا ولم يعرف التاريخ أي نص لسقراط. ما عرفه نمى من طريق أفلاطون، في معظم محاوراته التي عبرت التاريخ عبوراً رائعاً، أو بقلم كزينوفون من طريق نصوص ومحاورات هو الآخر، من دون أن ننسى استهزاء أريستوفان به، ولا سيما في مسرحيته "السحب"، وما كتبه عنه أرسطو معارضاً في بعض نصوصه.
وهكذا منذ ديوجين اللايرسي متبعاً خطى أفلاطون وصولاً إلى الباحث الإنجليزي ويستون المعاصر لنا، والذي أسس مجلة منتظمة الصدور ووضع دراسات لا تنتهي، كي ينسف "أسطورة" سقراط، كان ثمة، ولا يزال ما يمكن تسميته "الحالة الغريبة لسقراط" في تاريخ الفكر الكوني. لكن سقراط الذي كان لا يتوقف عن دعوة إخوته في البشرية إلى معرفة أنفسهم وهو القائل، بالتأكيد هذه المرة، أن كل ما يعرفه كان أنه لا يعرف شيئاً، يحتل مع ذلك مكانة المؤسس لتفكير الإنسان في كينونته كإنسان.
لغز في تاريخ الإنسان
هل هو في نهاية المطاف لغز في تارخ البشرية؟ هل تراه وُجد حقاً أم هو من اختراع العقل الإنساني من منطلق أن سقراط كان حاجة لو لم يوجد على هذه الأرض، لكان من الضروري اختراعه؟ هل كان استجابة لحاجة الإنسان منذ وعى ذاته، إلى اختراع ما يمكننا تسميته فكر الحكمة الذي لا شك في أن كل الحكايات التي تجعل منه بطلها، توصل إليه؟ الحقيقة أننا هنا في قلب مشكلة فلسفية وتاريخية قد يكون من غير الممكن تجاوزها بالقول الراديكالي، كما يفعل البعض، بأن سقراط لم يوجد أصلاً.
فمن الأقرب إلى المنطق أنه وُجد فعلاً ذات يوم، وكان له وجود ومحاكمة ومأساة موت، طوعي على الأغلب، لا يمكن أن تكون قد اخترعت. يبقى المهم الوصول يوماً إلى حل تلك الألغاز التي ربما يقف في مقدمها لغز فحواه: ما الذي قاله سقراط حقاً؟ فبعد كل شيء لا بد لنا في انتظار ذلك أن نتكل بخاصة، ليس على مجمل الحكايات التاريخية سواء كانت مناوئة لسقراط أم مناصرة له، وليس بالطبع على الصور المتعددة له كما وردت في الإبداعات الفنية والأدبية، بل تحديداً على ذلك المصدر الوحيد الذي يمكننا الوثوق فيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أفلاطون ومحاوراته، ولا سيما تلك الرئيسة التي "يلعب" فيها سقراط الدور الرئيس، أو بالأحرى، يتولى فيها طرح تلك الأسئلة التي يتوخى خلالها استفزاز الآخرين للإجابة عنها، شحذ تفكير هؤلاء وجعلهم يدركون أن المعرفة بشكل خاص لا تُعلّم، بل هي موجودة في داخلهم، كالجنين الموجود في رحم أمه، يحتاج فقط إلى تلك القابلة القانونية التي يقال إن أمه، أم سقراط، كانتها، لإخراجه من الرحم. ونعرف أن هذا هو جوهر "السقراطية" التي مكنت سقراط نفسه من أن يقول أنه هو بدوره "قابلة قانونية"، يساعد في ولادة الأفكار.
سياسي يتجول في الأزقة
لكن سقراط لم يكن هذا فقط، بل كان أيضاً مناضلاً سياسياً قد نجد في مساعيه وأفكاره اليوم نقضاً لما نسميه ديمقراطية. وآية ذلك أن الحكم بإعدامه ودفعه إلى تجرّع السم القاتل وهو في سجنه، لم يتما تحت حكم رجعي في أثينا، بل في عز ازدهار حكم ديمقراطي كان هو على أية حال يرفضه. وربما يكون هذا الرفض الدافع المباشر إلى التخلص منه، لا التهمتان الأخريان اللتان اتهم بهما، وحوكم على أساسهما: إفساد شبيبة أثينا، والكفر بآلهتها. ولا "التهمة الثالثة" التي استند اليها أريستوفان وهو يكيل له في مسرحية "السحب"، كونه سوفسطائياً، أي كونه على غرار جورجياس وبروتاغوراس، واحداً من أولئك الذي يحملون أفكارهم الفلسفية ويدورون في الطرقات ليبيعوها لمن يحب أن يشتري!
مهما يكن من أمر، يبقى لدينا في مجال تفسير السقراطية وبخاصة الاستناد إلى محاورات أفلاطون، تلك الفكرة التي تقول إن سقراط إنما كان بعد كل شيء يمثل الوعي الذي منذ هوميروس إلى آناكسا غوراس، كان يسعى دائماً إلى تفسير، أو حتى مجرد فهم، السبب الذي يجعل الفضيلة على الدوام متناقضة مع السعادة. فلماذا يا ترى، ينبغي دائماً على العادل أن يكون متهماً ومداناً ومحكوماً بالإعدام حتى الموت؟ لماذا من الصعب على المرء أن يعيش فكره؟ ولماذا يحاط المرء دائماً بخطر عيش فكره، واعتقاده بما يؤمن به حقاً؟ لماذا هو ممنوع من أن يعيش إيمانه؟
ولادة "الأنا"
من الواضح أن تلكم هي الأسئلة الأساسية التي طرحها سقراط على نفسه وزمنه، ومن ثم على الأزمنة جميعاً، ثم رضي بأن يموت لمجرد أن يجعل موته أمثولته وتطبيقه لمبادئه. كان يعرف أن موته على تلك الشاكلة، وآلى على نفسه أن يرفض الاعتذار أمام حكام أثينا، وبعضهم كما نعرف من مريديه وتلامذته، هو الذي يعطي معنى لحياته، وجوهراً للأسئلة التي عاش حياته وهو يطرحها.
من هنا نقول بأن اللحظة السقراطية لم تكن، سواء صدقنا حقيقة سقراط أو أنكرناها، سوى لحظة "ولادة الأنا" في تاريخ الإنسان، السؤال الجوهري: لماذا لا نعرف أنفسنا؟ فللمرة الأولى في التاريخ الإنساني انتقل حيّز تساؤل الإنسان عن ذاته، من "ملكوت الخارج، المجهول، الآخر" إلى "ملكوت الداخل" وفي يقيننا أن تلك هي "الجريمة الحقيقية التي ارتكبها سقراط ودفعت "ديمقراطية" أثينا إلى قتله، فالديمقراطية تؤمن بالجمع، بالعدد. أما هو فجاء ليقول لها: لا، لا بد أن نبدأ من داخلنا. لا بد للفرد من أن يعرف ذاته بذاته، لا بالتلقين.
ضد التلقين
كان سقراط أول من حوّل الفلسفة إلى أسئلة تولد بفعل المعرفة والمعرفة إلى أفكار استفزازية لا علاقة لها بالتلقين، لا تتولد في تتابعها إلا من بعضها، ولم يكن في وسع ديمقراطية أثينا أن تتقبل فكراً يقول إن الإنسان لا يحتاج إليها ليقرر مصيره. يحتاج فقط إلى أن يفكر ويستخلص بنفسه دروس تفكيره.
بقي أن نذكر أن سقراط التاريخي، أي الذي لا شك أنه قد وجد حقاً في أثينا وولد حوالى العام 470 قبل الميلاد، ليعدم بعد ذلك بنحو 71 سنة في العام 399 قبل الميلاد، كان ما إن شب عن الطوق وقرر رفض اتباع مهنتي والديه المزعومتين، (النحت لدى أبيه وتوليد النساء لدى أمه)، حتى راح يجعل من التساؤل والسعي إلى المعرفة الذاتية، ومعرفة الذات جوهر حياته وفكره، فراح يمضي جل وقته متجولاً في الأسواق طارحاً على كل من يلتقيهم أسئلة تستفزهم وتحرك فكرهم. وهذا على أي حال ما يمكننا أن نستخلصه من أفلاطون الذي بنى معظم محاوراته انطلاقاً من هذه الصورة التي سواء كانت حقيقية أم مختلقة، يمكننا اعتبارها المنطلق الحقيقي لكل فكر فلسفي في تاريخ البشرية.