هل هي أشكال تجريدية تنطلق من حروف عربية، أم تخطيطات تلوينية تمت بصلة مباشرة إلى نوع من "حروفية" صينية تخوض في الشكل متناسية المضمون، أم تراها، كما يقترح بعض الباحثين والنقاد، استمرارية غربية لفن الرسم المنطلق من ذهنية الزن اليابانية؟ هذه التساؤلات يمكن طرحها، بل هي تُطرح بالفعل أمام كل لوحة تعرض في مناسبة أو أخرى، من إنتاج الفنان الألماني الفرنسي هانز هارتونغ (1904– 1989). ونادراً ما يمكن لأحد أن يجيب عليها.
مصادفات تجتمع من دون اتفاق
فبعد كل شيء من المؤكد أن هارتونغ لم يعرف كثيراً من الأمور لا عن الحروفيات العربية ولا عن تلك الصينية. وهو لئن كان قد اقترب من ذهنية الزن اليابانية ذات حقبة من حياته، فإن من الصعب القول، إنه قاربها تشكيلياً... في أحسن الأحوال تعمق فيها فكرياً، من دون أن يبتغي من خلال ذلك التعمق التعبير عنها فنياً. مهما يكن فلا بد من الإشارة هنا إلى أن هارتونغ قد دنا ذات حقبة من حياته من المناطق العربية، ولكن خلفية ذلك لم تكن فنية على الإطلاق بل... حربية. فهو وكما سوف نرى بعد سطور، عندما أمضى فترة من شبابه في الشمال الأفريقي، لم يكن هناك، كما حال بول كلي مثلاً، كدارس للفنون العربية أو كباحث عن الشمس والألوان، بل كمقاتل في القوات الأجنبية الإسبانية ضد الفاشيين والنازيين. وبالتالي لم يكن لديه من الوقت ما يكفيه كي يطلع على "الحروفيات" العربية. وبالتالي لن يكون منطقياً أن نجعل تلك "الحروفيات" مصدراً أساسياً من مصادر إلهامه وتكوينه.
يوم رفضه السورياليون والتجريديون معاً
ثم إن هذه التشكيلية الغريبة التي ارتبط بها فن هارتونغ، لم تبدأ معه في سنوات الأربعين حين كان يحارب في تلك المنطقة من العالم، بل قبل ذلك بعقد ونيف من السنين حين كان في باريس يرسم ويعرض محاولاً الجمع بين التيارين الأبرز في الفنون التي كانت رائجة في العاصمة الفرنسية: التجريدية من ناحية والسوريالية من ناحية أخرى. غير أنه لم يوفق في تلك المحاولة حيث نعرف أن التيارين قد رفضاه ورفضا سعيه لدمجهما لإدراكهما ألا شيء يمكنه الجمع بينهما ولا حتى فنان حسن النية لم يدر هو نفسه كيف حدث لتلك "الشخبطات" التي راحت تشكل عماد فنه أن ولدت وباتت تبدو متطابقة مع تيارات ومدارس فلسفية وفنية بالكاد كان هو يعرف عنها شيئاً. وطبعاً لا نزعم هنا أننا في صدد تفسير ما أُغلق على صاحب العلاقة وإيجاد منطق ما لاختياراته. كل ما نرمي إليه في نهاية المطاف هو تقديم فنان لم يصبه من الشهرة ما أصاب كثراً من مجايليه، لكنه واصل مسيرته رغم ذلك متفرداً في فن يتوجه إلى البصر أكثر مما إلى الفكر التفسيري وإلى الشكل الخالص أكثر مما إلى الرسائل. والحقيقة أننا إذا بحثنا بين كبار فناني القرن العشرين عمن يتشابه، تشكيلياً على الأقل، مع هارتونغ قد لا نجد سوى بول كلي الذي ذكرناه أعلاه، حتى وإن كان هارتونغ قد أحال دائماً في الحديث عن مرجعيته التكوينية إلى فرانز مارك الذي سيقول إن لوحة له شاهدها وهو مراهق أدهشته بكون خطوطها تتماثل مع خطوط كان هو لا يكف عن رسمها على أوراقه منذ كان طفلاً فاتخذ قراره بأن يصبح رساماً وبأن يكون رسام تلك الخطوط قبل أن يكون رسام أي شيء آخر. ومن هنا تطور تفرده واتخذت لوحاته ومسيرته جوهرها.
أب شرعي رغماً عنه
ومع هذا قد يصح القول، إن هارتونغ، ومن دون أن يشاء ذلك، يمكن اعتباره أحد الآباء الشرعيين للحروفية العربية، مثله في هذا مثل بول كلي الذي كان، هو، واعياً بالطبع، بانتماء بعض لوحاته إلى آفاق الخطية والحروفية العربية مباشرة، حيث لئن كان كلي يشارك هارتونغ انتماءه إلى التيار التجريدي في الرسم، فإنه يفترق عنه في كونه عاش ردحاً من الزمن في شمال أفريقيا واطلع اطلاعاً جيداً على الفنون العربية ولوحات الخط العربي وتأثر بها خلال مرحلة أساسية من مراحل مساره الفني.
أما التقاء "حروفية" هارتونغ بالحروفية العربية، فقد يكون آت عن طريق يشبه الصدفة، أو بالأحرى عن طريق التشابه بين تشابكات الحروفية العربية والحروفية الصينية، علماً أن حروفية هارتونغ تنتمي مباشرة إلى الحروفية الصينية.
طفل موهوب
هانز هارتونغ الذي سيحمل الجنسية الفرنسية منذ أواسط سنوات الأربعين، ولد ألمانياً، في مدينة لايبزيغ في 1904. وكان أول دخوله عالم الفن التشكيلي بعد اندفاعاته الأولى عند سن الصبا كطفل موهوب، في عام 1916 حين قيض له، للمرة الأولى، أن يشاهد لوحة فرانز مارك. فهزته تلك اللوحة. وهو حين بدأ يرسم، بصورة تجريدية وتلقائية، في عام 1922 كان من الواضح أنه لا يزال واقعاً تحت تأثير لوحة فرانز مارك. وبعد ذلك دخل جامعة لايبزيغ حيث درس تاريخ الفن والفلسفة في آن معاً، وبعد تخرجه بدأ تجواله الطويل في أوروبا، وهو تجوال دام نحو عشرة أعوام، وكانت باريس محور تحركه خلاله، حيث كان قد آلى على نفسه أن يعود ليعيش فيها، لكنه في انتظار ذلك، عاش سنوات في جزر البالايار الإسبانية حيث فتنته الطبيعة وألوانها، وبدأ يحقق هناك أولى لوحاته التي لفتت أنظار النقاد حقاً، وكانت لا تزال في تلك الآونة لوحات ملونة، وإن بدأت ترهص بالأشكال الحروفية التي ستطغى على أعماله بعد ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هارب من النازيين
حين عاد هارتونغ إلى ألمانيا في أواسط سنوات الثلاثين وجدها تبدلت كثيراً، وإن النازيين قد سيطروا عليها مما لا يدع أي مجال لممارسة أي فن تجريبي، حيث إن النازيين كانوا يطلقون لقب "فن الانحطاط" على أي فن لا يتلاءم مع أذواقهم الكلاسيكية. ولذلك بارح ألمانيا نهائياً، وقد قرر ألا يعود إليها، وتوجه إلى فرنسا حيث انصرف أول الأمر لفنه وللتجديد فيه، وبدأ يرسم لوحات جعلت له مكانة في الحياة الفنية الفرنسية. غير أن الحرب سرعان ما فاجأته، فما كان منه بسبب عدائه الكلي للنازيين، إلا أن انخرط في "الفرقة الأجنبية الفرنسية" متطوعاً وبدأ يخوض المعارك الحربية. غير أن هزيمة فرنسا أمام الألمان دفعته للهرب إلى إسبانيا في عام 1943 حين انضم لـ"الفرقة الأجنبية" مجدداً. وفيما كان يخوض إحدى المعارك في أفريقيا الشمالية، أصيب بجراح خطرة استوجبت قطع رجله. وهكذا ترك الجيش والحرب، ثم ما إن انتهت هذه الأخيرة حتى عاد إلى باريس واستأنف الرسم بعد ست سنوات من الانقطاع عنه. وكان أول ظهور جديد له في الساحة الفنية في 1946 حين شارك في معرض "مركز البحوث" في وسط باريس.
أول "حروفي" حقيقي
ومنذ ذلك الحين، وإثر المقالات النقدية التقريظية التي بدأت تكتب عنه، راح هارتونغ يقيم المعرض تلو الآخر، ووصل إلى ذروة شهرته حين حقق عنه المخرج آلان رينيه فيلماً في 1947. وراحت الجوائز وضروب التقدير تتوالى، وكانت أولاها جائزة غوغنهايم في 1946، وأهمها الجائزة الأولى في "بينالي البندقية" في عام 1960. وبدا هارتونغ انطلاقاً من ذلك كله قيمة حقيقية ومؤكدة في الفن التشكيلي المعاصر، خصوصاً أنه كان في عرف الحركة النقدية "أول رسام حقيقي حاول وتمكن من أن يعبر عن نفسه بأسلوب حروفي"، وهو أسلوب لن يتخلى عنه هارتونغ حتى رحيله عام 1989. غير أن هارتونغ لا يعتبر فقط الأب الشرعي للحروفية الحديثة، بأشكالها الصينية الأصل المرسومة بالأسود على مسطحات بيضاء، والمرتبط من ناحية ما بتأثيرات الزن الياباني، بل يعتبر كذلك أول من فتح الطريق أمام أسلوب "الهابننغ" الأميركي، وأسلوب "الفن الحركي". ويرى الناقد آلان جوفروا أن لوحات هارتونغ يمكن مقارنتها بصراخ عال صاخب، حيث إن أول شعور يخامر المرء وهو وينظر إلى لوحاته، أن ثمة في خلفيتها رجلاً يحاول أن يصرخ: "لا".