Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخرطوم عاصمة تعانق نهرين منذ 200 سنة

ظلت المدينة على وضعها العمراني القائم منذ تأسيسها حتى جاء القرن الـ20 ليشهد أول مراحل ازدهارها

يرجع تاريخ مدينة الخرطوم كمستوطنة بشرية إلى العصر الحجري (حسن حامد - اندبندنت عربية)

تكمل الخرطوم العام المقبل، 200 سنة من اختيارها عاصمةً للسودان، في عهد الحكم التركي- المصري بقيادة محمد علي باشا، حيث اتخذ الجيش التركي، عند دخوله السودان لضمه كمستعمرة له في عام 1821، من العاصمة العتيدة معسكراً له. ثم جعلها عاصمةً لمستعمرته الجديدة آنذاك بعد أن أحكم سيطرته عليها.

ويرجع تاريخ هذه المدينة كمستوطنة بشرية، إلى العصر الحجري، حيث تم العثور على أدوات تعود إلى هذا العصر في منطقة خور أبو عنجة في مدينة أم درمان الحالية القريبة من الخرطوم، إضافة إلى بقايا أثرية لمستوطنات يرجع تاريخها إلى عهد مملكتي نبتة ومروي في الفترة الممتدة من عام 750 قبل الميلاد إلى 350 ميلادي. وترجح مصادر أخرى تاريخ تلك المستوطنات إلى القرن الـ16 الميلادي، إذ ذكرت أن مكانها الحالي كان عبارة عن أحراش وغابات. وفي الوقت ذاته أثبتت حفريات، استيطان الإنسان موقع هذه المدينة منذ 400 عام قبل الميلاد، حيث أشارت إلى أنها كانت موطن حضارة قديمة عُرفت بمملكة علوة.

وبين الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق من الناحيتين الشرقية والشمالية، والضفة الشرقية للنيل الأبيض من الغرب، شُيِّدت الخرطوم (العاصمة)، التي تقع وسط وجنوب القارة الأفريقية، فضلاً عن وقوعها شمال شرق وسط السودان بين خط عرض 16 درجة شمالاً، وخط عرض 15 درجة جنوباً، وخطَي طول 21 درجة غرباً، و24 درجة شرقاً، على مساحة تبلغ 20736 كيلومتراً مربعاً (12884 ميلاً). ويتراوح مناخها ما بين معتدل في فصل الشتاء، وارتفاع درجات الحرارة في الصيف، مع هطول أمطار غزيرة في فصل الخريف، فيما يبلغ عدد سكانها 2682431 نسمة، حيث تعد سادس مدينة في أفريقيا من ناحية عدد السكان. واكتظت هذه المدينة بجاليات أجنبية (شوام، وهنود، ويونان، وأقباط، ويهود)، دخلت مع المستعمرَين التركي والإنجليزي لكنها "تسودنت" منذ أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الـ20، حين بدأت التحولات السياسية والديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية تغيّر وجه الخرطوم، وذلك باتجاه السياسات الحكومية نحو إجراءات وقوانين أكثر أصولية ومحافظة.

خرطوم الفيل

والخرطوم في اللغة تعني الأنف من الإنسان، لكن الراجح في تسميتها على الرغم من تعدد الروايات، بأنها ترجع إلى شكل قطعة الأرض التي تقع عليها المدينة والتي يشقها نهرَي النيل (الأبيض والأزرق) ويلتقيان فيها مع بعضهما في شكل انحنائي يرسمان بينهما قطعة أرض أشبه بخرطوم الفيل. وذكر الرحّالة البريطاني الكابتن جيمس غرانت الذي رافق الكابتن جون أسبيك في رحلته الاستكشافية لمنابع النيل بأن "الاسم مشتق من زهرة القرطم التي كانت تُزرع بكثافة في المنطقة لتصديرها إلى مصر لاستخراج الزيت منها بهدف الإنارة، واستخدمها الرومان لدى غزوهم لمصر ووصولهم إلى شمال السودان، حيث عثروا على زهرة القرطم في موقع الخرطوم الحالي واستخدموا الزيت المستخرَج من حبوبها في علاج جروح جنودهم". كذلك وردت تفسيرات أخرى للاسم لا سند لها مثل "خور التوم" نسبة إلى شخص يدعى التوم.

بداية التخطيط

وظلت الخرطوم على وضعها العمراني القائم منذ تأسيسها، حتى جاء القرن الـ20 ليشهد أول مرحلة من مراحل ازدهارها عندما شُيِّدت العمارة في العهد البريطاني- المصري على النسق المعماري الإنجليزي، والذي لا يزال ماثلاً للعيان في الأبنية القديمة المنتشرة بمحاذاة نهر النيل الأزرق قبل التقائه بالنيل الأبيض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستمرت عمليات التخطيط العمراني للمدينة بشكل منتظم وفق خطة الدولة للتنمية والنهضة العمرانية لعموم مدن البلاد، حيث شهدت بداية الربع الثاني من القرن الماضي، وتحديداً في عام 1927 تشكيل أول لجنة للتخطيط العمراني للعاصمة الخرطوم، وكان أبرزها تخطيط عامَي 1946 و1950 والذي شمل توسيع الطرق والشوارع وإنشاء الحدائق العامة والميادين وبناء امتدادات جديدة في الأحياء لاستيعاب موجات الهجرة السكانية نحو العاصمة. ونتيجةً للنمو الديمغرافي والرغبة في تجميل العاصمة، شهدت المدينة عملية تخطيط في عام 1958، بخاصة في المنطقة القريبة من مقرن النيلين، وبرز نمط معماري جديد مغاير للنمط الاستعماري، كما تكررت العملية التخطيطية في عامَي 1977 و1990 في المنطقة ذاتها.

النمط المعماري

ولا تتميز الخرطوم بنمط معماري معيّن أو لون طلاء محدد، فهي تضم مختلف الأشكال والأنماط والألوان في مبانيها، لكنها تتميز بخطوط معمارية واضحة في طراز الأبنية من حيث تاريخ بنائها، ففي المنطقة الشمالية المطلة على النيل الأزرق يظهر النمط الكولونيالي الذي يعود إلى القرن التاسع عشر والعصر الفيكتوري وما قبله، بينما يظهر فن العمارة المملوكية الإسلامية في مباني الوزارات والدواوين الحكومية القديمة التي بناها الأتراك ومن بينها سراي الحكمدار (القصر الجمهوري القديم) الواقعة في المنطقة المحاذية للنيل الأزرق، والتي تم تخطيط شوارعها في عهد كتشنر على شكل العلم البريطاني (الصلبان المتقاطعة رأسياً وأفقياً وعرضياً) مستنداً في تخطيطه بشكل عام على مخطط واشنطن الأميركي مع إدخال بعض العناصر العسكرية كبناء ثكنات الجنود (داخليات جامعة الخرطوم حالياً). وفي عام 1908، تم تنفيذ مخطط ملكين وهو بمثابة تعديل لتخطيط كتشنر متأثر بتخطيط غاردن سيتي في القاهرة.

النهضة الحديثة

في حين يسود المنطقة التي تليها جنوباً، معمار خمسينيات وستينيات القرن الـ20، ومن أبرز أمثلته امتداد فندق السودان الواقع على النيل الأزرق، حيث كلما أبتعدنا جنوباً من النيل أو اتجهنا نحو أطرافه الشمالية في منطقة المقرن، نجد نماذج لأنماط العمارة المعاصرة مثل قصر المؤتمرات (مبنى قاعة الصداقة الحالي) الذي بناه الصينيون في سبعينيات القرن الماضي، وهو شبيه بمباني "ميدان السلام الأبدي" في بكين، فيما تتمثل العمارة الحديثة في فندق كورينثيا الذي تم تشييده على شكل بيضة نعام ضخمة، فضلاً عن مبنى بنك السودان المركزي الجديد ذي الواجهة الزجاجية، وعدد من الأبراج الجديدة التي تتركز في وسط الخرطوم ومنطقتي المقرن وبري، مثل برج الاتصالات "سوداتيل" المكوَّن من 29 طابقاً، وبرج شركة بترودار وإدارة الخطوط الجوية، وأبراج القوات المسلحة المصمم أحدها في شكل بارجة، والآخر على شكل طائرة، وهي من المباني التي تأحذ أشكالاً هندسية وفقاً لدور المؤسسة التي انشأتها كمقر لها.

معالجة الأخطاء

ويشير نائب المدير العام لمصلحة المساحة السودانية صديق مكي، في حديثه إلى أن "موقع الخرطوم المتميز بين نهرَي النيل الأزرق والنيل الأبيض، جعلها من أكثر العواصم تميّزاً في العالم والإقليم، لكن للأسف على الرغم من تأسيسها بطريقة علمية وفق الخرائط الهيكلية منذ خمسينيات القرن الماضي، والتي تضع تصوراً للسنوات المقبلة وفق عدد السكان والخدمات التعليمية والصحية وغيرها، إلا أنه مع نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الـ20 بعد اجتياح البلاد موجة من الجفاف والتصحر، أدت إلى نزوح أعداد كبيرة من المواطنين في الأرياف إلى العاصمة، قامت السلطات المختصة بتقنين مناطق سكنهم العشوائي على أطراف المدينة، من دون التزام بالتخطيط السليم من خلال لجان فنية متخصصة، أو اعتبار لتضاريس المنطقة، وهو ما أدى إلى مشكلات عدة تعاني منها الخرطوم حالياً في مختلف المجالات".

وتابع مكي "لدينا الآن رؤية لتطوير العاصمة ومعالجة الأخطاء والمشكلات التي تواجهها سواء في الطرق والتخطيط وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات وغيرها من المرافق والخدمات، من خلال المرجع الجيوديسي، وهو نظام عالمي متجدد لإنشاء الخرائط وقياس إحداثيات أي نقطة على سطح الأرض، حيث يعالج كل الأخطاء الموجودة ويتعامل معها بطريقة مسؤولة، وذلك بالتنسيق مع الوزارات والجامعات والهيئات ذات العلاقة". ولفت إلى أنه "ليس مستحيلاً الوصول إلى الحلول التي تعاني منها الخرطوم، وإصلاحها بطريقة عملية مستدامة، لكن الأمر يتطلب سنّ وتفعيل التشريعات المختصة بجوانب التخطيط والخدمات والمرافق، وتوافر الإرادة الحقيقية الجادة، حتى تنهض العاصمة ومتابعة عمليات تنميتها وتطويرها مستقبلاً على النهج العلمي الصحيح".

المزيد من تحقيقات ومطولات