يكاد يكون انفجار مرفأ بيروت، الذي وقع في الرابع من أغسطس (آب) الماضي، الحدث الأفظع في تاريخ لبنان، لا بل هو حدث العام 2020 ليس فقط على روزنامة الأحداث اللبنانية بل أيضاً العالمية.
كانت الساعة تشير إلى السادسة وست دقائق، عندما هز العاصمة اللبنانية انفجار، صنف على أنه ثالث أقوى انفجار في العالم، ووصف بأنه "بيروتشيما" تشبيهاً بما جرى لمدينة هيروشيما جراء الانفجار النووي. الانفجار الضخم حدث على مرحلتين في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، نتجت عنه سحابة دخانية ضخمة على شاكلة سحابة الفطر ترافقت مع موجة صادمة هزت العاصمة بيروت، والمناطق المحيطة على مسافة 20 كيلومتراً، انفجار بيروت الذي قال عنه مرصد الزلازل الأردني بأنه يساوي زلزالاً بقوة 4.5 درجات على مقياس ريختر، وصل صداه إلى جزيرة قبرص، وقد شعر سكانها بالهزة الارتدادية.
أكثر من 200 شخص لقوا مصرعهم نتيجة الانفجار، من بينهم 10 عناصر من فوج الإطفاء، أما عدد الجرحى ففاق ستة آلاف، والمفقودون قدروا بالعشرات، دقائق قليلة كانت كفيلة بتحويل بيروت من مدينة تعج بالحياة إلى مدينة منكوبة، 67 ألف وحدة سكنية دمرت بالكامل و16 ألفاً بشكل جزئي، ولم يبق من المرفأ الذي يعد ضمن أفضل 10 مرافئ على البحر الأبيض المتوسط، سوى رافعات تشهد على أن مرفأ بيروت كان هناك.
حجم الأضرار الناتجة عن الانفجار تجاوز وفق تقديرات البنك الدولي ثمانية مليارات دولار، واعتبرت مجموعة البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، أن لبنان يحتاج بشكل عاجل إلى أكثر من 2.5 مليار دولار لتجاوز تداعيات الانفجار والنهوض مجدداً.
تعددت السيناريوهات والنتيجة واحدة
الثابتة الوحيدة من كل الفرضيات التي قُدمت لشرح أسباب الانفجار الزلزال، هي أن 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم، الشديدة الانفجار، كانت مخزنة منذ 2014 في العنبر رقم 12، وهي كمية توازي 1800 طن من مادة الـ"تي إن تي" الشديدة الانفجار، لكن السؤال اللغز الذي بقي من دون جواب، كيف اشتعل النترات وما الذي تسبب بانفجاره؟، ومن هي الجهة التي تملك هذه الكمية الكبيرة لمادة يمكن استخدامها في صنع القنابل؟، ولصالح من وكيف ولماذا سكت المسؤولون المباشرون وغير المباشرين عن المرفأ طوال هذه المدة، ولم يبادروا إلى نقل قنبلة موقوتة موضوعة وسط العاصمة؟
في اليوم الثاني على وقوع الانفجار، أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، أن 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم كانت مخزنة منذ ست سنوات في المرفأ، تسببت بالانفجار. وفي الاجتماع الاستثنائي الذي عقدته الحكومة، بقيت الرواية الرسمية ناقصة، واكتفى البيان الرسمي برواية مختصرة تفيد، بأن هذه المواد مصادرة منذ سنوات من باخرة توقفت في مرفأ بيروت في سبتمبر (أيلول) 2013 لتحميل بضائع إضافية، من دون أي اشارة إلى المادة، أو الصاعق، الذي كان مخزناً بالقرب من النترات وأدى إلى انفجاره. لم تذكر حكومة دياب أسباب تفريغ هذه الكمية من النترات في المرفأ، ولم تكشف هوية صاحبها، ولماذا خزنت لست سنوات من دون احتياطات كافية للسلامة، ولماذا سكتت إدارة المرفأ والجمارك والجيش اللبناني والقضاء ورؤساء ووزراء سابقون وحاليون، عن قنبلة موقوتة، على الرغم من اعتراف رئيس الجمهورية ميشال عون لاحقاً، وكذلك رئيس الحكومة بأنهما كانا على علم بالنترات منذ شهر يوليو (تموز).
القليل الذي كشف أضاف على الغموض غموضاً، فقيل عن السفينة المشبوهة المعروفة باسم "روسوس" بأنها مملوكة من مولدوفا، وهي كانت متجهة إلى موزمبيق لإفراغ حمولتها لصالح مصنع متفجرات، وهي رست في بيروت بعد أن أبلغت عن مشكلة في المحرك، وبحسب الرواية الرسمية فإن المسؤولين اللبنانيين منعوا السفينة من مواصلة رحلتها، مشيرين إلى مخاوف تتعلق بالسلامة من قبل ضباط مراقبة الميناء، وأُعيد معظم أفراد الطاقم الأوكراني إلى وطنهم على أساس أنهم كانوا في "خطر وشيك" بسبب المواد الموجودة على متن السفينة، وتم التخلي عن السفينة في نهاية المطاف من قبل أصحابها، لكن على الرغم من كل ذلك، بقي النترات مخزناً ست سنوات في مرفأ بيروت داخل العنبر رقم 12.
هل تراجعت فكرة الاعتداء؟
من موقع الجريمة استبعد المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم فرضية المفرقعات النارية، التي قيل إنها كانت مخزنة قرب النترات، وكشف عن وجود مواد متفجرة في العنبر نفسه مصادرة منذ زمن، وعندما سئل لمن هذه المواد، تحفظ في الإجابة، ولأن "حزب الله" هو الجهة الوحيدة التي يمكن أن تخزن مواد متفجرة في المرفأ من دون حسيب ولا رقيب متذرعاً بحق "المقاومة" في امتلاك الأسلحة، بدأ الحديث في العلن عن رابط يجمع بين الحزب وانفجار مرفأ بيروت بشكل أو بآخر، وشكلت إفادة وزير العدل السابق أشرف ريفي الذي شغل سابقاً منصب المدير العام لقوى الأمن الداخلي، نقطة ارتكاز في هذا الاتجاه، وكشف أن نترات الأمونيوم أرسلت إلى لبنان من قبل الحرس الثوري الإيراني لصالح "حزب الله" واستعمل جزء منها من قبل النظام السوري وجزء آخر استخدمه الحزب.
وفي السياق ذاته، كان وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق أول من كشف عن أن كمية النترات التي تسببت بالانفجار لم تكن هي الكمية المخزنة منذ 2014، وهو ما كشف لاحقاً في تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي "FBI " الذي تحدث عن أن الكمية التي انفجرت هي 500 طن فقط، ما يعني أن أكثر من 2200 طن قد اختفت منذ تاريخ التخزين حتى يوم الانفجار. هذه المعلومات أعادت إلى الأذهان توقيفات طالت عناصر من "حزب الله" في دول غربية على خلفية اقتنائهم مادة النترات، وهو ما حصل 2012، عندما أوقف أحد عناصر الحزب في قبرص بعد مصادرة 8.4 طن من مادة النترات في منزله، كما أوقف 2015 في الكويت ثلاثة عناصر من الحزب مع كمية كبيرة من المادة نفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الشكوك باتجاه علاقة الحزب بالنترات وبالمواد المتفجرة المخزنة طرحت بقوة فرضية الاعتداء قبل الإهمال، وكثر الكلام عن استهداف المرفأ بصاروخ إسرائيلي شكل الصاعق التفجيري للنترات، وفي وقت وجه سياسيون في لبنان أصابع الاتهام باتجاه تل أبيب، وتحدث كثيرون عن تحليق للطيران الإسرائيلي قبل الانفجار، كانت المفارقة أن رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي لم يسقط في أول تصريح له سيناريو الاعتداء، عاد وركز لاحقاً على إهمال المسؤولين، ونفى في حديث صحافي أن يكون الانفجار ناجماً من وجود أسلحة لـ"حزب الله" في المرفأ، معتبراً أن الحزب لا يحتاج إلى تخزين أسلحته هناك، وقال "الفرضية التي تربط الانفجار بأسلحة للحزب كانت مخزنة في ميناء بيروت هي فرضية مستحيلة".
ونفي الرئيس عون جاء بعد موقف الأمين العام للحزب حسن نصر الله، الذي أعلن ألا علاقة للحزب بالانفجار، ولا علم لديه بالمواد التي تحتويها عنابر التخزين.
وفرضية الاعتداء التي تلاشت تدريجاً في الداخل اللبناني، كان السباق إليها الرئيس الاميركي دونالد ترمب، قبل أن يتراجع هو نفسه عنها بانتظار التحقيقات، ترمب قال في مؤتمر صحافي عقده في الرابع من أغسطس، "يبدو أنه اعتداء"، علماً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل ساعات على الانفجار كان نصح "حزب الله" بأخذ العبرة من رد الجيش الإسرائيلي على التطورات العسكرية الأخيرة على الحدود بين لبنان وإسرائيل، واتهم الحزب باستخدام لبنان ومواطنيه كدروع بشرية بعد عرض خرائط لمخازن أسلحة تعود للحزب داخل الأحياء السكنية.
هل اتصل وفيق صفا بدياب وطلب منه إلغاء زيارته إلى المرفأ؟
ركزت التحقيقات التي تولاها قاضي التحقيق الأول فادي صوان، على إهمال الموظفين والمسؤولين المباشرين على المرفأ، مسقطاً الشقين المتعلقين أولاً بهوية الجهة التي أحضرت النيترات إلى بيروت ولصالح مَن؟ وثانياً أسباب حصول الانفجار وكيف؟ واكتفت السلطات القضائية والسياسية بتبني رواية "ملفقة" عن تلحيم في العنبر وشظاياه المسببة بالحدث الكبير.
في المقابل كشفت مصادر سياسية مطلعة على الملف لـ"اندبندنت عربية"، أن مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في "حزب الله" وفيق صفا هو الذي اتصل برئيس الحكومة المستقيل، ناصحاً إياه إلغاء زيارته إلى المرفأ التي كانت مقررة لتفقد النيترات المخزَّنة في العنبر رقم 12 بعد تبلغه بادئ الأمر بوجود مواد متفجرة في المرفأ. هذه المعلومات نفاها دياب لـ"اندبندنت عربية"، مؤكداً أنها "غير صحيحة" وأنه بالأصل لا يعرف صفا. أما "حزب الله" فرفضت أوساطه التعليق على ما وصفته بالمعلومة غير الصحيحة.
في المقابل خرج دياب عن صمته بعد مرور 5 أشهر على الانفجار وردّ على الاتهامات التي طاولته، موضحاً أمام وفد من الإعلاميين أسباب عدم زيارته المرفأ. وقال "السبب هو إبلاغي بـ 3 معلومات مختلفة على مدى ساعتين في 3 يونيو (حزيران)، الأولى وصلتني من الأجهزة الأمنية بالصدفة وتفيد بوجود 2000 كيلوغرام من مادة "تي أن تي" المتفجرة، وأثناء التحضيرات الأمنية لزيارتي تبيّن أن هناك معلومات مغايرة تفيد بأن المواد هي نيترات بكمية تبلغ 2500 طن، ولم نكن نعرف عنها شيئاً، سوى أنها سماد كيماوي، وأنها مخزّنة منذ 7 سنوات، فطلبت استكمال التحقيق لأزور المرفأ على بينة". لكن دياب لم يكشف مَن زوده بالمعلومتين الثانية والثالثة والتي عدل على أساسها عن زيارة المرفأ.
وفي كلام رئيس حكومة تصريف الأعمال، المدعى عليه، اتهامات طاولت الأجهزة الأمنية الذي حمّلها مسؤولية ما حصل، كونها كانت على علم بالموضوع، كما قال، منذ وصول السفينة إلى المرفأ. وكشف دياب أن المجلس الأعلى للدفاع عقد منذ توليه رئاسة الحكومة 20 جلسة ولم يخبر الأمنيون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أي شيء عن النيترات. لكن دياب الذي كان كشف نقلاً عن تقرير الـ"أف بي آي" (مكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي) أن كمية النيترات التي انفجرت كانت 500 طن فقط، ما يعني أن 2200 طن من النيترات اختفت، متسائلاً مَن أخذ البقية؟ عاد وتراجع عن كلامه على اعتبار أن هذه المعلومات يمكن أن يُستنَد إليها لتأكيد الكلام الذي صدر من أكثر من جهة سياسية والذي يتهم "حزب الله" باستخدام النيرتات طوال السنوات الفائتة، بهدف صنع المتفجرات. وصدر عن المكتب الإعلامي لرئيس حكومة تصريف الأعمال بياناً توضيحياً أكد فيه أن دياب استند في كلامه إلى معطيات غير رسمية منسوبة إلى الـ"أف بي آي"، وأنه لم يتلق تقريراً رسمياً في هذا الخصوص من مكتب التحقيق الفيدرالي الأميركي. كما نفى المكتب الإعلامي ما كان كشفه رئيس الحكومة للإعلاميين أيضاً عن أن الانفجار في المرفأ نتج من تفجير صاعق عبر جهاز للتحكم عن بُعد.
التحقيقات والادعاءات تثير عاصفة سياسية
وعلى الرغم من مطالبة أكثر من فريق سياسي بتحقيق دولي بانفجار مرفأ بيروت تجنباً لتمييع التحقيق وتهرباً من محاسبة المسؤولين، إلا أن رئيس الجمهورية و"حزب الله" والتيار الوطني الحر رفضوا ذلك. وقد تحجج الرئيس عون بالتمسك بالسيادة لرفض مطلب التحقيق الدولي، في وقت بقي وعد دياب بكشف الحقيقة خلال خمسة أيام، حلماً.
وبعد أكثر من خمسة أشهر على الانفجار، عجز قاضي التحقيق الأول فادي صوان المكلف بالملف عن الوصول إلى الحقيقة، والتوقيفات اقتصرت على 25 شخصاً بينهم مدراء عامون وضباط كبار وموظفون في المرفأ، وفاجأ صوان الجميع بخطوة غير مسبوقة قد تؤدي إلى تنحيه عن القضية، ففي قرار مفاجئ ادعى القاضي صوان على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء، هم وزير المال السابق علي حسن خليل ووزيرا الأشغال السابقان غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، وشكل ادعاؤه نقطة تحول في مسار التحقيق المستمر منذ أشهر، وأثار زوبعة سياسية وقضائية نجحت في حرف مسار التحقيقات، واستبعاد أي إمكانية في التوصل إلى الحقيقة، بعد دخول الملف في متاهات السياسة وتنحي القاضي والاتفاق على قاض جديد لمتابعة القضية.
قرار القاضي صوان بالادعاء على رئيس حكومة سني أثار انتفاضة طائفية، وسارعت قيادات سياسية ومرجعيات دينية في مقدمها رؤساء الحكومات السابقون والمفتي عبد اللطيف دريان، إلى التضامن مع موقع رئاسة الحكومة، منتقدة ما اعتبرته انتقائية في قرار الادعاء، محاولة تطويق مفاعيله كي لا يشكل مدخلاً لملاحقات مماثلة قد تطال رؤساء ووزراء وقضاة ومسؤولين، لا سيما أن صوان أشار إلى أن لائحته الادعائية لن تقتصر على الأسماء الأربعة، وفي وقت اعترض رؤساء الحكومات عن أسباب الانتقائية في قرار القاضي صوان، ولمحوا إلى عدم استجوابه رئيس الجمهورية وباقي الوزراء، رفض دياب أن يستجوبه القاضي صوان بصفة مدعى عليه ورفض استقبال القاضي، متسلحاً بدعم سني أعاده إلى حضن الطائفة، التي لم تعترف به ممثلاً لها عند تكليفه رئاسة الحكومة.
وكما دياب كذلك وزيرا "حركة أمل" حسن خليل وزعيتر المقربان من رئيس مجلس النواب نبيه بري، امتنعا عن تبلغ الادعاء والمثول أمام القاضي صوان، وحده فنيانوس وزير "تيار المردة" حضر، لكن القاضي لم يستجوبه، وانتفض رئيس مجلس النواب مذكراً بأصول محاكمة الرؤساء والوزراء، التي لا تتم إلا عبر المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وبإدانة من ثلثي مجلس النواب، وطلب استرداد الادعاء والاطلاع على المعطيات التي بنى عليها صوان ادعاءه.
ولم تنجح تظاهرات الدعم أمام منزل القاضي صوان، ولا بيانات التأييد من قبل نادي القضاة ومجلس القضاء الأعلى في إبقاء مسار التحقيقات على ما أراده صوان، فتقدم حسن خليل وفنيانوس بطلب تنحيه عن القضية بسبب "الارتياب المشروع" وعلقت على إثرها التحقيقات بانتظار قرار محكمة التمييز في طلب التنحي، وعلّق معها أي احتمال في إمكانية معرفة الحقيقة في أبشع جريمة شهدت عليها العاصمة بيروت.
تصفيات مشبوهة تسبق الحقيقة
قبل تعليق التحقيقات، كان كل ما في شأنها يشير إلى قطبة مخفية في هذا الملف، والملفت أن التحقيقات التي حصلت من قبل جهات خارجية فرنسية وأميركية وغيرها، لم يكشف حتى الساعة عن مضمونها، باستثناء القليل الذي سُرب، وتحدث عن انفجار مفتعل.
مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، الذي أعلن أنه لم يتمكن من التوصل إلى نتيجة قاطعة في شأن سبب الانفجار، شدد على حاجته إلى توجيه أسئلة أخرى إلى السلطات اللبنانية بصفتها جهة التحقيق الرئيسة، أما الفرنسيون وبخلاف ما أشيع عمداً في بعض وسائل الإعلام اللبنانية، فتبين أنهم سلموا القضاء اللبناني صور الأقمار الصناعية، وقد أعلنت الرئاسة الفرنسية، أنها سلمت لبنان الصور التي ترصد موقع المرفأ قبل انفجار الرابع من أغسطس، وشدد مسؤول في الرئاسة الفرنسية على وجوب أن تكشف الحكومة اللبنانية عن نتائج التحقيق في الانفجار و"تظهرها علناً".
والمريب والمستغرب في قضية المرفأ، سلسلة الأحداث الغامضة التي توالت بعد الانفجار، ففي أول أسبوع من شهر ديسمبر (كانون الأول)، عثر على العميد المتقاعد في الجمارك منير أبو رجيلي جثة داخل منزله في قرطبا قضاء جبيل (جبل لبنان)، مصاباً بضربات على رأسه بآلة حادة. الحادثة أعادت إلى الأذهان حادثة مماثلة حصلت 2017 مع صديقه العقيد في الجمارك جوزف سكاف، وفي وقت ذكرت مصادر أمنية أن القتل كان بدافع السرقة، أكدت مصادر مقربة من العائلة أن أبو رجيلي قد استدعي إلى التحقيق منذ فترة وأدلى بمعلومات مهمة عن الباخرة التي كانت محملة بالنترات، وقد كشفت مصادر أنه أعطى أسماء على علاقة بجهة حزبية نافذة على المرفأ.
أبو رجيلي كانت تربطه علاقة صداقة بالعقيد جوزف سكاف، الذي توفي 2017 في ظروف غامضة، علماً أن العقيد سكاف، بحسب عائلته، كان سبق وكتب رسالة في فبراير (شباط) 2014 إلى مصلحة التدقيق والبحث عن التهريب التابعة لوزارة المال، طالب فيها بإبعاد الباخرة "روسوس" المحمل على متنها 2750 طناً من نترات الأمونيوم إلى خارج الرصيف 11 في مرفأ بيروت، وطالب بوضع حمولتها تحت الرقابة، لأنها تشكل خطراً على السلامة العامة.
وقبل خمسة أشهر على انفجار المرفأ، وفي سلسلة الحوادث الغامضة المشبوهة، تعرض منزل الرائد في أمن الدولة جوزف النداف إلى إطلاق نار من قبل مجهولين، والرائد النداف الذي كان مسؤولاً عن نقطة أمن الدولة في مرفأ بيروت كان تم توقيفه بعد الانفجار، وهو سبق ورفع تقريراً إلى المعنيين عن شحنة نترات الأمونيوم محذراً من خطورتها، حتى أن شكوكاً رافقت اغتيال المصور جو بجاني، قبل أيام، أمام منزله في الكحالة (جبل لبنان) وسرقة هاتفه الخلوي، لوجود صور قيل إن بجاني التقطها في المرفأ.
وكل هذه الأحداث المترابطة والمثيرة للجدل، تضاف إليها معلومات كشفت خلال التحقيقات عن تعطيل كاميرات المراقبة في مكان الانفجار قبل حصوله، عززت أكثر فأكثر فرضية عدم التوصل إلى الحقيقة، فيصبح مصير ملف انفجار المرفأ كغيره من الملفات المتعلقة بالاغتيالات والانفجارات، التي حصلت في لبنان، والتي بقيت فارغة لا ورقة فيها ولا دليل ولا حقيقة.
الكونغرس الأميركي يوصي بتحقيق دولي
عرقلة التحقيق المحلي والصعوبات التي تواجهه جراء التدخلات السياسية، دفع بحزب "القوات اللبنانية" إلى التمسك بمطلب تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية، وقد لجأ الحزب إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمساعدة في تحقيق ذلك.
في الموازاة، برز قرار صادر عن الكونغرس الأميركي تضمن دعوة صريحة لإشراك محققين دوليين محايدين في التحقيق في كارثة المرفأ، وكان لافتاً في قرار الكونغرس الذي صادق عليه مجلس الشيوخ تلميح السلطة التشريعية العليا في الولايات المتحدة إلى تحميل "حزب الله" مسؤولية الانفجار، إذ جاء في نصه، "لدى حكومة الولايات المتحدة مخاوف منذ مدة طويلة بشأن استخدام "حزب الله" مرفأ بيروت، ومن نفوذه فيه، كنقطة عبور وتخزين لمنظمته الإرهابية".
قرار مجلس الشيوخ الذي يحمل الرقم 682 اتخذ بإجماع أصوات أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين والجمهوريين، وهو يعكس موقف الكونغرس مجتمعاً من القضايا التي ذكرها المتعلقة بلبنان.
وبحسب مصدر مطلع على سياسة الإدارة الأميركية، فإنه، على الرغم من أن القرار لا يفرض إجراءات، مثل العقوبات على سبيل المثال، ولا يتطلب توقيع الرئيس، وهو على عكس "مشروع القانون" الذي يصبح قانوناً، إلا أنه يكتسب أهمية لأنه يعبر عن شعور الكونغرس وموقفه، ويمكن أن يطلب إجراءات من قبل حكومة الولايات المتحدة.
وقُدّم هذا القرار الخاص بلبنان في 13 أغسطس، بعد انفجار المرفأ من قبل عضو لجنة الشؤون الخارجية لمجلس الشيوخ السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس السيناتور جايمس رايخ. أما النقاط المهمة فيه فهي:
1- لبنان خال من التدخلات الإيرانية و"حزب الله" هو في مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة.
2- أدى الفساد وسوء الإدارة إلى انهيار اقتصادي في لبنان.
3- الشعب اللبناني يطالب بتغيير في القيادة السياسية اللبنانية ومساءلة الحكومة والشفافية.
4- يدعم جهود الحكومات الأميركية لتقديم المساعدة للبنان.
5- يطلب تسليم المساعدات مباشرة للشعب اللبناني وليس للحكومة اللبنانية.
6- يدعو خبراء دوليين محايدين ليكونوا جزءاً من التحقيق في الانفجار.
"حزب الله" يستبق التحقيق ويدعي على من يتهمه
في خطوة غير مألوفة في أسلوب "حزب الله"، ومفاجئة في توقيتها ومضمونها، أقدم الحزب على رفع دعوى ضد كل من اتهمه بانفجار المرفأ بالمباشر أو بغير المباشر، وادعى على الوزير السابق أشرف ريفي والنائب السابق فارس سعيد وموقع "القوات اللبنانية"، ولجأ للمرة الأولى إلى القضاء اللبناني، مستبقاً في الوقت نفسه قرار القضاء في قضية انفجار المرفأ.
وتعليقاً على الدعوى، غردت الوزيرة السابقة مي شدياق وكتبت، "حزب الله وقاحة ما بعدها وقاحة، ضربني وبكى سبقني واشتكى، لا يحق لك الشكوى أمام القضاء بالافتراء في وقت يعرف القاصي والداني ارتكاباتك".
أما سعيد فغرد في حسابه على "تويتر" قائلاً، "اتخذ حزب الله صفة الادعاء الشخصي ضدي وتقدم بدعوى وجاهية أمام قاضي التحقيق، الرد: سنرفع مع جميع الوطنيين وصاية إيران عن لبنان".
ولفت موقف رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، محملاً عبر مكتبه الإعلامي "حزب الله" مسؤولية ما قد يتعرض له النائب السابق سعيد من مخاطر أمنية.
أما الوزير السابق أشرف ريفي، فكرر موقفه محملاً الحزب مسؤولية ما حصل، وقال، "كما قلت في إفادتي أمام القاضي صوان، أعود وأكرر أن نترات الأمونيوم أرسلت إلى لبنان من قبل الحرس الثوري الإيراني لصالح حزب الله، واستعمل جزء منها من قبل النظام السوري وجزء آخر أرسله الحزب إلى مجموعاته الإرهابية في قبرص والكويت وألمانيا وغيرها"، وأكد ريفي أن "الأمنيين يعلمون أن حزب الله يسيطر على مرفأ بيروت في التهريب واستيراد المواد المتفجرة، مكرساً وجود مربع أمني ومربع جمركي في المرفأ".
وأكدت مصادر عسكرية أن الجيش اللبناني قام حتى اليوم بالكشف عن 645 مستوعباً في مرفأ بيروت، من أصل 682 حيث وجد فيها ملابس قديمة وأحذية ومواد تجميلية ومأكولات فاسدة منذ العام 2005، وقطع سيارات ومواد صناعية، إضافة إلى أربعة مستوعبات تحتوي على مواد قابلة للاشتعال مثل الأسيتون والإيثانول، وأشارت المصادر نفسها إلى أن هناك 37 مستوعباً متبقياً، لم يُكشف عليها من أصل هذا العدد، وهناك عدد منها لم يُعثر عليها، وقد تكون اختفت بفعل الانفجار.
وأكدت المصادر، أن الجيش سينتهي خلال أسبوع من جرد هذه المستوعبات ليبني على الشيء مقتضاه في ما يتعلق بكيفية إتلاف المواد أو التخلص منها، لا سيما وأنه لا يمكنه معالجة أو إتلاف بعض المواد التي تسمى خطرة، والتي تحتاج إلى شركات متخصصة، كما أن بعض المواد بحاجة إلى موافقة من وزارات الصحة أو البيئة أو الأشغال، كما أن القرار أيضاً عند وزارة المالية للتصرف بها.
ولفتت المصادر إلى أنه تم التواصل مع بعض أصحاب المستوعبات، لكنهم رفضوا استلامها لأسباب متعددة، أما في ما يتعلق بالسفن الغارقة في المرفأ، فإن أصحابها، وبعد التواصل معهم، أشاروا إلى انتظار شركات التأمين ليبنى على الشيء مقتضاه.