Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عالم لا يرحم يضع الدبلوماسية الأميركية في مرمى التحولات

دعوة من دبلوماسيين بارزين إلى إصلاح وزارة الخارجية وإعادة تشكيل دور الولايات المتحدة ليواكب عصراً جديداً  

أحد العناصر العسكرية في محيط السفارة الأميركية في بغداد (أ.ف.ب)

مع اقتراب الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة من استعادة السيطرة على البيت الأبيض، عاد ملف الدبلوماسية الأميركية إلى ساحة الجدل والتقييم، وسط تكهنات المراقبين بأن التغييرات التي أحدثها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في جسد واشنطن السياسي، سيمتد تأثيرها لعدة سنوات مقبلة، وبخاصة أن المحكمة العليا أضحت تحت قبضة الأغلبية المحافظة، في حين ما زالت فرص الجمهوريين القوية للسيطرة على مجلس الشيوخ، تكدر صفو الإدارة الجديدة برئاسة جو بايدن.

دبلوماسية ترمب تحت الهجوم

في مقالة مشتركة بعنوان "تحول الدبلوماسية، كيف ننقذ وزارة الخارجية؟"، يحذر كل من وليام بيرنز، نائب وزير الخارجية الأميركي السابق، وليندا توماس غرينفيلد، مرشحة بايدن لشغل منصب سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، من مآلات ما أطلق عليه المستشار السابق في إدارة ترمب ستيف بانون "تفكيك الدولة الإدارية"، ويشمل ذلك، بحسب الدبلوماسيين البارزين، جهود إدارة ترمب لهدم وزارة الخارجية وغيرها من المؤسسات الحكومية.

ويقول الكاتبان في مقالة نشرتها مجلة "فورين أفيرز"، إن دونالد ترمب مستغلاً انعدام الثقة الشعبية بالخبرة والمؤسسات العامة، حول الموظفين العموميين المهنيين، ومتخصصي الأرصاد الجوية الحكوميين، والصحة العامة، والمتخصصين في إنفاذ القانون، والدبلوماسيين المهنيين، إلى أهداف سهلة في الحروب الثقافية. علاوة على ذلك، باستهدافه "دولة عميقة لا وجود لها"، خلق الرئيس الجمهوري المنتهية ولايته دولة ضعيفة، وتهديداً وجودياً للديمقراطية الأميركية ومصالح المواطنين.

وبينما تدعو المقالة إلى تبني أجندة جديدة للإصلاح الدبلوماسي، بهدف إعادة تشكيل دور الولايات المتحدة في العالم بخاصة، وأن "هجمات إدارة ترمب" طيلة أربع سنوات كانت كفيلة بإلحاق ضرر عميق بالدبلوماسية الأميركية، فإنها مع ذلك تنبه إلى أن استعادة الهيمنة الأميركية ليست واردة، في ضوء صعود الصين وانتشار القوة العالمية. وهذه نظرة متشائمة ربما تصطدم مع الرؤى التي يروج لها الرئيس المنتخب جو بايدن، المناهض لسياسات ترمب الانكفائية، والداعي إلى دور أميركي أكثر قوة ونفوذاً في ملفات العالم وصراعاته التي لا تنتهي.

ووفقاً لبيرنز وغرينفيلد، فإن التحول في الدبلوماسية يبدأ من تقبل الدور المتضائل للولايات المتحدة، المحوري في الشؤون العالمية، وممارسة قدر أكبر من ضبط النفس والانضباط، على أن يعكس الموقف الأميركي الأولوية القصوى لتسريع عجلة التحديث محلياً وتقوية الطبقة الوسطى الأميركية، بالإضافة إلى استهداف الأولويات الحاسمة الأخرى، من خلال إقامة التحالفات للتعامل مع التحديات العابرة للحدود الوطنية وضمان قدر أكبر من المرونة في المجتمع تجاه الصدمات الحتمية لتغير المناخ والتهديدات السيبرانية والأوبئة، وثانياً من خلال العمل المنظم للمنافسة الجيوسياسية مع الصين.

العودة إلى العمل الكلاسيكي

بغية دعم أطروحتيهما الآتية بضرورة إعادة الدبلوماسية الأميركية إلى مسارها الصحيح، يورد المسؤولان السابقان نبذة عن تدرجهما في الحياة المهنية، فـعلى الرغم من أن وليام بيرنز وليندا غرينفيلد، انضما للخدمة للدبلوماسية منذ ما يقرب من 40 عاماً في الدفعة نفسها، فإنهما مرا بتجارب مختلفة سبقت اعتلاءهما مناصب مهمة في وزارة الخارجية. فغرينفيلد امرأة من أصول أفريقية التحقت بمهنة كانت لا تزال ذكورية جداً، بعيد نشوئها في بيئة الفصل العنصري في الجنوب. أما الآخر، فكان نتاجاً لطفولة عسكرية غير مستقرة بسبب تنقل عائلته في أرجاء الولايات المتحدة، حتى إنه مر بثلاث مدارس ثانوية عند بلوغه سن الـ17 عاماً.

والتحق بيرنز وغرينفيلد، ضمن 32 شخصاً بفصل للسلك الدبلوماسي في يناير (كانون الثاني) عام 1982، ضمن مجموعة انتقائية ضمت متطوعين سابقين في فرق السلام (برنامج تنمية تديره الحكومة من أهدافه مساعدة الناس خارج الولايات المتحدة على فهم الثقافة الأميركية، والعكس)، ومحاربين قدامى في الجيش، وموسيقي روك فاشلاً، وكاهناً كاثوليكياً سابقاً. ومن خلال تجربتهما، فإن ما تعلماه في وقت مبكر، وما اعتبراه صائباً طوال مسيرة حياتيهما المهنية، هو أن "الاستثمار الذكي والمستدام في الناس هو مفتاح الدبلوماسية الجيدة"، لافتين النظر إلى أن جهود الإصلاح حسنة النية أصيبت طيلة السنوات الماضية بالشلل لأسباب منها ضغوط الميزانية، والعسكرة المفرطة للسياسة الخارجية، والبيروقراطية المتعثرة في وزارة الخارجية، والأهم من ذلك كله، عدم الاهتمام برأس المال البشري.

ومن الممارسات القائمة في وزارة الخارجية، بحسب بيرنز وغرينفيلد، تهميش الدبلوماسيين المهنيين (الموظفين الذين يتدرجون في السلم الوظيفي ولا يعينون بقرار سياسي) بشكل منهجي واستبعادهم من الوظائف العليا في واشنطن على نطاق غير مسبوق. والصورة في الخارج قاتمة بالقدر نفسه، في ظل العدد القياسي للسياسيين المعينين سفراء مقابل نوعيتهم السيئة في كثير من الأحيان، حيث يستشهد الكاتبان بالسفير الأميركي الأخير لدى ألمانيا، ريتشارد غرينيل، الذي بدا عازماً على استعداء أكبر عدد ممكن من الألمان، ليس فحسب من خلال محاضراته، ولكن أيضاً من خلال دعمه الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة، بالإضافة إلى السفير المعين لدى بودابست، ديفيد كورنستين، الذي "طور حالة من الزبائنية" على حد وصفهما.

وتحمل المقالة الإدارة الحالية مسؤولية التشويه الذي تعرضت له سمعة الموظفين العموميين المهنيين الذين عملوا في واشنطن على القضايا المثيرة للجدل أثناء إدارة أوباما، ما أدى إلى خروج حياتهم العملية عن مسارها. ويزعم الكاتبان أن كثيراً من المسؤولين المهنيين تعرضوا للهجوم المستمر والاستخفاف، ومن ثم تم إغراؤهم بالمضي قدماً لتحقيق الانسجام، معتبرين أن ذلك لا يسهم في تقويض الروح المعنوية فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى تقويض العملية السياسية التي تعتمد على المتخصصين غير السياسيين الذين يبثون آراء معارضة، غير متسقة مع توجهات القادة المعينين سياسياً. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولا تستغرب المقالة اليوم انخفاض الإقبال للعمل في وزارة الخارجية في معدل هو الأكبر منذ أكثر من عقد، كما تستنكر التقدم البطيء في إحلال التنوع، بالنظر إلى أن أربعة فحسب من السفراء الأميركيين البالغ عددهم 189 في الخارج يتحدرون من أصول أفريقية. ولذا تتجدد الدعوة إلى بث التنوع في العمل الدبلوماسي، وإيجاد جهد يوازن بين الطموح وحدود الممكن في وقت تتزايد فيه الصعوبات في الداخل والخارج، لكن ينبغي ألا يكون الهدف من هذا التحول استعادة قوة وغايات الدبلوماسية الأميركية كما كانت من قبل، ولكن إعادة اختراع الدبلوماسية الأميركية لتواكب عصراً جديداً           ، وهو الأمر الذي يتطلب جهداً إصلاحياً مركزاً ومنضبطاً.

ويشدد بيرنز وغرينفليد على ضرورة إحياء "الدور المميز للخدمة الخارجية الأميركية، المتمثل في العمل الكلاسيكي لإقناع كبار القادة الوطنيين بسد الانقسامات الطائفية والسعي إلى نظام سياسي أكثر شمولاً والدفاع عن حقوق الإنسان". هذا الدور تضاءل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وحاجة الإدارة إلى التأقلم للمساعدة في الحرب على الإرهاب، والعمل على تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار في أفغانستان والعراق، جنباً إلى جنب مع مهام أصغر، ولكنها معقدة من جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا. بسبب تلك المتغيرات، نشأ جيل من "ضباط الخدمة الخارجية" يجوب مناطق الصراع، وسرعان ما أصبح الدبلوماسيون لاعبين ثانويين في الجيش، منشغلين بنوع من "أنشطة بناء الدولة" التي تفوق قدرة الأميركيين على إنجازها.

وبحسب الدبلوماسيين السابقين، على الرغم من أن تحول وزارة الخارجية الأميركية إلى مؤسسة أكثر سرعة ورشاقة كان أمراً صحياً في كثير من النواحي، فإنه كان أيضاً مشوهاً، إذ ارتبطت عملية التحول باستراتيجية معيبة تركز بشكل ضيق للغاية على الإرهاب، ومنغلقة في القوة المفترضة للولايات المتحدة في تحويل المناطق والمجتمعات. وبالتالي أولت وزارة الخارجية القليل من الاهتمام للمشهد الدولي سريع التغير، حيث كانت المنافسة الجيوسياسية مع الصين وروسيا الصاعدتين، تتسارع، بينما تلوح في الأفق تحديات عالمية هائلة مثل تغير المناخ.

الاستثمار البشري وتعزيز التنوع

منذ عام 2017، غادر ما يقرب من ربع كبار السلك الدبلوماسي، منهم 60 في المئة من السفراء المهنيين، ووفقاً لدراسة مسحية لوجهة نظر الموظف الفيدرالي فإن قرابة ثلث الموظفين الحاليين في وزارة الخارجية يفكرون في المغادرة، أكثر من ضعف الحصة في 2016. من هذا المنطلق، تؤكد المقالة أهمية الاستثمار في الموارد البشرية، إذ إن المقياس النهائي لأي جهد إصلاحي هو ما إذا كان يجذب المواهب ويستثمرها، وتلفت إلى ضرورة الاستماع إلى الأشخاص الذين يقودون الدبلوماسية الأميركية، وهم موظفو الخدمة الخارجية الذين يتنقلون بين الوظائف حول العالم، وموظفو الخدمة المدنية الذين تدعم خبراتهم الإدارة في الوطن، والموظفون الأجانب الذين يديرون كثيراً من أعمال السفارات والقنصليات الأميركية.

وتتمثل الأولوية الرئيسة الأخرى في الحاجة إلى التعامل مع نقص التنوع في السلك الدبلوماسي باعتباره أزمة أمن قومي، إذ إن نقص التنوع لا يقوض قوة نموذج الولايات المتحدة فقط، وإنما يخنق الإمكانات الدبلوماسية التي تتمتع بها البلاد. ويشير الكاتبان إلى أن المراتب الأربع الأولى في السلك الدبلوماسي أصبحت "أكثر بياضاً" اليوم مما كانت عليه قبل عقدين، ولا يوجد إلا 10 في المئة فحسب من الملونين، و7 في المئة فحسب من إجمالي السلك الدبلوماسي يتحدرون من أصول أفريقية، وسبعة في المئة فحسب من أصل لاتيني. ومن أمثلة نقص التنوع الأخرى، خفوت التمثيل النسائي، بالتزامن مع تراجع إدارة ترمب عن مسعى استمر أكثر من ربع قرن في تعيين مزيد من السفيرات. ولا يزال التمثيل النسائي الإجمالي في السلك الدبلوماسي اليوم هو نفسه تقريباً، كما كان في عام 2000، أي لا يزال أقل بنسبة 25 في المئة من تمثيل الإناث في القوة العاملة الأميركية.

التكنولوجيا الجندي الجديد

وفي ظل سيل من الهجمات الإلكترونية التي تتعرض لها الولايات المتحدة، يؤكد الكاتبان أن التكنولوجيا لم تعد ترفاً بالنسبة للدبلوماسية، إذ تتزايد الحاجة إلى تحول ثقافي لإنشاء مؤسسة أكثر استقامة وشجاعة ورشاقة، مع قدر أكبر من التسامح مع المخاطر وعملية صنع القرار المبسطة واللا مركزية. وتسلط المقالة الضوء على ضرورة الاستثمار في التكنولوجيا التي تتيح للعاملين في السلك الدبلوماسي تطوير قدراتهم، نظراً إلى افتقار كثير من الدبلوماسيين إلى الوصول إلى الأنظمة والتكنولوجيا السرية، ما يجعلهم عرضة للاختراق من قبل الاستخبارات الأجنبية وغير قادرين على مواكبة وكالات الأمن القومي الأخرى.

قانون لتحقيق الاستدامة

وفقاً لوليام بيرنز وليندا غرينفيلد، فإن التحول الجاد في الدبلوماسية مهمة صعبة، لكنه ضروري لمستقبل الديمقراطية الأميركية في عالم لا يرحم. مع وضع أساس راسخ للإصلاحات، ستكون الخطوة التالية هي تدوينها في أول تشريع رئيس للكونغرس يمس الدبلوماسية الأميركية منذ 40 عاماً. وسيكون القانون الجديد حاسماً لتحقيق استدامة الإصلاحات، وسيساعد في تشكيل أسلوب دبلوماسي مناسب لمشهد دولي تنافسي، ومجهز بشكل أفضل لخدمة أولوية الإصلاح المحلي.

المزيد من تقارير