من أسرار الصحراء التي لا تتكشف إلا لأبنائها، بينما تبقى لغيرهم لغزاً محيراً وخيوطاً من سراب، انطلقت الكاتبة الإماراتية وداد خليفة في روايتها الأحدث "خبايا اللال" (دار العين – القاهرة 2020) في رحلة يشي عنوانها بالتصاق وثيق بالبيئة المحلية ومحاولة حثيثة لسبر أغوارها.
اخترقت الكاتبة الزمن عائدة إلى منتصف القرن الماضي، لتعيد إنتاج ما حدث ليحدث من جديد في سرد أفقي وضعت كل مقاليده في يد الراوي العليم، لتوثق عبر رحلتها تاريخاً مفصلياً من حياة الشعب الإماراتي قبيل وأثناء ظهور الذهب الأسود، وترصد تداعيات اكتشاف النفط وما جلبه من مطامع أجنبية ونزاعات حدودية راحت ضحيتها أرواح كثيرة ونالت من صفاء الصحراء وسلامها.
بدأت الرحلة بعنوان محفز على الاكتشاف، نصفه الأول يثير التساؤلات عن المخبوء، بينما يثير النصف الثاني تساؤلات عن دلالة "اللال"، وهي مفردة فصيحة تعني سراب الصحراء، استخدمها واحد من أقدم الشعراء الإماراتيين، المايدي (الماجدي) بن الظاهر، في قوله، "ومن ترك الماء على شوف لال... فلا زاده إلا هلاك السبيل". ثم ما لبثت الكاتبة أن غاصت في واقع بيئتها المحلية لتنسجم مع الظاهرة الأدبية الإماراتية، التي تعنى في عمومها بهذه البيئة وترصد همومها وقضاياها، ماضيها وحاضرها، تحدياتها وأصالتها، فاختارت صحراء الإمارات فضاء للأحداث، لا سيما "البريمي" لخصوصية هذه المنطقة المتنازع عليها في تلك الحقبة ولاحتوائها على النفط، المحرك الرئيس للأحداث.
الاستباق والصراع
في حيلة استباقية بدأت الكاتبة (على لسان الراوي) بالإشارة إلى موت "سعيد" وندم "هزّاع" الذي دفعه لمغادرة ديار عشيرته "المجادية" والارتحال إلى طريف للعمل في شركة البترول البريطانية. وهكذا ظل التوق لمعرفة حقيقة مقتل "سعيد"، وسر ندم "هزّاع" يخيم على النص حتى تكشّف في مرحلة متأخرة من السرد، ليتجلى خيط من خيوط "اللال"، ويدرك "هزّاع" أن ظناً أنفق سنوات من عمره لحمايته والتستر عليه، وألقى به طوعاً إلى جحيم فراق الأحبة، لم يكن سوى وهماً ودرباً من سراب.
وعبر هذا الخيط من النسيج يبرز شكل من أشكال الصراع الداخلي، فـ "هزّاع" أحد الشخصيات المحورية، يعيش صراعه النفسي بين بعضه المفتون بالياذية بنت ذياب "الحرة"، وبعضه الآخر الذي يجلده لهيامه بها، ويدفعه للنأي عنها على رغم ما يكابده من شوق. وليس "هزّاع" وحده من سقط في شرك الصراع الداخلي، بل إن كل الشخوص جسّدته بشكل وبآخر. وبدت أزمة الشخوص وصراعها الداخلي نتيجة واقعية تتسق مع التغيرات التي طرأت على مجتمعهم مع تدفق النفط وانتقالهم من حياة الزهد والترحال خلف الماء إلى واقع جديد من ترقب الثروة والمطامع الخارجية في بلادهم، وتوالي النزاعات وتسلل المستعمر متستراً خلف ادعاءات يخفي بها حقيقة أطماعه، وإن لم يخف ظلافته وتعاليه. فشيوخ القبائل يعيشون انقساماً بين عدم قبولها بوجود الأجنبي داخل أراضيهم وبين الرضا بوجوده تحت الضغط والتهديد، والوعود بالثروة، و"نايع بن عوشانة" يعيش صراعاً بين ولائه لعمله وقائده "الميجور لويس" وبين هواجسه وقرائن تدعوه للحذر.
وكذلك اليازية التي تتصارع قناعتها وشعورها بأطماع البريطانيين وبين ما وجدته في الميجور "بن ديانة" من نبل ومروءة وانتصار للإنسانية مهما كان موطنها. كذلك عاش الميجور لويس صراعاً بين قناعته بالأهداف الخبيثة لحكومة بلاده وبين التزامه وواجبه العسكري الذي يقتضي الامتثال لما يصله من تعليمات، وإن لم توافق قناعته، ثم يتجاوز الصراع العوالم الداخلية للشخوص منطلقاً إلى خارجها، فيشتعل بين القبائل التي يغير بعضها على بعض، وبين الجيران الذين يتنافسون على المناطق الواعدة بالنفط، وبين شركات النفط الأميركية والبريطانية التي تزكي بدورها الصراع بين الدول المتجاورة، وبين المستعمر وأصحاب الأرض، وبين قيم الزهد والطمع، وبين بساطة الصحراء وتعقيد المدينة.
التناظر والتنافر
رصدت الكاتبة في مساحة واسعة من نسيجها الروائي خصائص البادية، ثقافتها، وحياة سكانها البسيطة الأقرب إلى الزهد، حيث تكون القهوة مبلغ رفاهيتهم وتحتكر الإبل كل منابع سعادتهم وسرورهم حد الإيمان بأن مَن ملَكَ ناقة أصاب الدنيا من أطرافها. فليست الإبل سوى جزء من عوائلهم تشاركهم الحزن والفرح، والارتحال، وعشق الوطن، ينادون كل فرد منها باسم، تكريماً لها، يوفون لها كما حالها في الوفاء لهم ويذرفون حين فقدها الدمع والألم. ولا يتشارك البدو والإبل حياة الصحراء القاسية وذاك الرباط الوثيق والفريد من نوعه وحسب، وإنما يتشاركون الصفات نفسها وتجمعهم شيم الشهامة والإباء، ما دفع الكاتبة لاستخدام تقنية التماثل والتناظر بين البعير وساكن البادية، فكلاهما تستنفره الإهانة وتفتح أبواب الانتقام على مصراعيها. تأبى الجِمال ضربها بالعصي وتسعى للانتقام والثأر ممن ينال منها أو يهينها، وهذا ما فعله بعير الشيبة مبارك، حين سعى للانتقام من "طرفوش" (الذي أسرف في ضربه في سباق الإبل)، وكان ليقتله لولا فطنة شيخ القبيلة بما ينويه بعيره ووعيه بلغة الإبل وصفاتها ما أتاح له إنقاذ "طرفوش" من انتقام البعير. كذلك هم البدو أيضاً، يفزعون لصون كبريائهم ويثأرون ممن يمسها، وهذا ما فعله "هزّاع" في موقع الحفر فعدم قبوله غبن البريطانيين وتعمد إهانتهم للعمال دفعه لمواجهة بعد أخرى معهم، وهذا ما لم يكن محموداً عند المستعمر المتعالي الساعي إلى نهب خيرات البلاد والاستهانة بأصحابها، فكانت هذه الاستهانة الشرارة الأولى التي فكت عقال الوعي، وأيقظت لدى شباب العشائر وشيوخها صيحة تدفعهم إلى عدم التفريط في حقوقهم.
ومثلما لجأت الكاتبة إلى تقنيات التناظر، عمدت إلى استخدام ما يقابلها من تقنيات التنافر، التي بدت في مقارنات ضمنية بين الشرق "سلوك أصحاب الأرض"، والغرب "سلوك المستعمر". فبينما يزهد البدوي في كل مظاهر الترف ويجود بكل ما لديه لإكرام ضيفه، يشح الإنجليزي ويمنعه طمعه من أن يمنح العمال حقوقهم ليتجلى الكرم والإيثار، أمام الشح والطمع والغبن. البساطة والشهامة والفطرة التي لم تتلوث أمام المدنية وتعقيداتها وقيمها الاستهلاكية، وكانت هذه المقارنات الضمنية في معظمها انتصاراً للصحراء على رغم قسوتها، على المدينة على رغم رغدها.
النمطية وكسرها
اتسق حضور بعض الشخوص مع الصورة النمطية المعهودة عنها إمعاناً في واقعية السرد وصدقيته. فكان لـ"كلايتون"، مدير شركة البترول ذات الصورة البغيضة عن المستعمر الطامع المتعجرف، وكان لأغلب أفراد القوات البريطانية الصورة نفسها التي تجعلهم لا يتحركون إلا وفقاً لمصالحهم ومصالح حكومتهم، بعيداً من قيم الإنسانية. غير أن الكاتبة أرادت كسر هذه النمطية لتحقيق الغاية نفسها من صدق وواقعية السرد، فكان الميجور لويس الذي أطلق عليه الشيبة مبارك اسم "الميجر بن ديانة" مثالاً مختلفاً لشخصية الغربي الذي يتحلى بالمروءة، ويعلي من قيم الحب والإنسانية والسلام، على رغم كونه أحد أفراد القوات البريطانية الحامية في الإمارات، وكذلك كان المهندس بيتر، أحد مهندسي شركة البترول، مختلفاً عن الإنجليز العاملين في الشركة، قريباً من العمال المحليين ومتضامناً معهم ورافضاً ما يقع عليهم من ظلم، ومُقراً لأفضليتهم في فهم طبيعة أرضهم وذكائهم الذي لا ينقصه سوى التعلم والتدريب.
أما حضور المرأة فكان مميزاً وبعيداً كلياً عن التنميط، فشخصية "اليازية"، وهي أهم شخصية في النص، كانت قوية، صلبة، تجالس الرجال وتدلي بدلوها في شؤون العشيرة وتتحمل مسؤوليتها، وربما أرادات الكاتبة عبر هذه الشخصية تصحيح مفاهيم سادت حول نظرة العرب الدونية لنسائهم، فها هي البدوية تشارك بكل رجاحة عقل في قرارات تمس الأرض والعشيرة وتنصح "بن عوشانة" بعدم ترك العمل في القوات البريطانية ليظل عيناً عليهم، وتتقصى أمر الرجال الذين غابوا في سرية لتستدرك الخيانة وتحمي عشيرتها من تبعاتها. ولم يكن حضور "اليازية" أو كما اعتادت عشيرتها تسميتها بـ"الحرة" وحده، تكريماً للمرأة فقد حرصت الكاتبة على رصد صور أخرى تعبر عن هذا التكريم، فأوردت تفاخر قومها بها إذ يتباهى أبناء قبيلتها بأنهم "خوو الحرة"، ويتفاخر شيخ القبيلة بأنه "جد الحرة". كما أن العشيرة حين أرادت أن تعلي من شأن الميجور لويس، وتعلن عن محبتها وثقتها به لقبته باسم أمه ليتحول من الميجور لويس إلى "الميجور بن ديانة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تكتف الكاتبة بكسر نمطية الشخوص وحسب، وإنما كسرت أيضاً نمطية الثنائية المتصارعة بين الشرق والغرب عبر مشاعر الحب، التي فاض بها قلب الميجور بن ديانة الإنجليزي تجاه اليازية البدوية، التي لم تبادله حبه سوى بالإعزاز والإجلال بينما كان قلبها متعلقاً بابن قبيلتها. وربما حوت هذه العلاقة إسقاطاً وإشارة ضمنية حول طبيعة العلاقة بين الغرب والشرق، التي وإن وسمها الحب والافتتان فلا ينبغي أن يستحيل إلى امتلاك، فأرض العرب لا ينبغي إلا أن تكون لأصحابها.
الوصف والرصد
أسهبت الكاتبة في وصف مفردات البيئة المحلية الإماراتية خلال حقبة مفصلية في تاريخها، ما وشى بإخلاصها الشديد لأصالتها، فنقلت عن بيئتها أسراراً لا يمكن إدراكها إلا عبر ما ترصده ذاكرة الأدب وكانت لغتها شديدة المشهدية، ما أحال السطور إلى مجموعة من الصور تبدو خلالها الإبل والنوق، وبيوت الشعر، و"الدقة واللكشة"، وآبار الماء، وغارات القبائل، وارتحال العشائر، عادات الكرم. واستدعت كثيراً من المفردات المحلية داخل النص، وكانت لمحة شديدة الذكاء تتيح للأدب قوته الناعمة في التقريب بين الشعوب، الذي يتأتى عبر فهم لهجتهم، وعاداتهم، وثقافتهم. ولم تكتف باستدعاء مفردات البيئة المحلية وحسب، وإنما أبرزت كثيراً من صور التناص المباشر عبر الاستدعاء الصريح للفلكلور والشعر الإماراتي داخل النص. وفي توثيقها لتاريخ تلك الحقبة سياسياً واجتماعياً، لم تغفل الكاتبة إبراز دور إذاعة "صوت العرب" المصرية كقوة ناعمة، أسهمت في زيادة الوعي العربي بأطماع المستعمر وأهمية القومية العربية، هذا الوعي الذي يعد استنفاره ضرورة في كل حقبة، وهذه القومية التي ستظل حلم الشعوب الذي لا ينتهي ولا يندثر ولا ينقضي بالتقادم.