قد لا يكون الرسام الفرنسي غوستاف كوربيه الأكثر شهرة بين رسامي القرنين الأخيرين، حتى وإن كانت لوحته التي رسمها لجامع لوحات تركي ثري يُعرف باسم خليل بيه، وعنوانها "أصل العالم" واحدة من اللوحات الأشهر والأكثر إباحية في تاريخ الفن، لكن كوربيه وبالتأكيد هو المشاكس الأكبر في الفن الفرنسي، ليس فقط بسبب هذه اللوحة وغيرها من اللوحات الإباحية التي كان يرسمها بين الحين والآخر، بل تحديداً بسبب مواقفه السياسية من ناحية، ومن ناحية أخرى وبصورة خاصة، بسبب تصرفاته وإفراطه في الاعتداد بنفسه، بالتالي بسبب المشاكل التي كان يقحم نفسه فيها وغالباً بشكل مجاني. فمثلاً، حين انضم إلى كومونة باريس الثورية عام 1970 ليصبح بسرعة مفوضاً للفنون فيها إضافة إلى خوضه القتال في صفوفها، سرعان ما وجد نفسه على خلاف، بل على تنازع مع كثر من رفاقه الثوار أنفسهم، ليتركهم بعد حين مفضلاً نزعته الفردية على التناغم معهم.
واقعية مفرطة
بشكل عام كان كوربيه، انطلاقاً من واقعيته المفرطة في لوحاته التي عرف كيف يصور في معظمها أحوال المجتمع في زمنه، وصولاً إلى تركيزه على الأبعاد الذهنية والنفسية للنماذج التي يرسمها، كان كمن يود أن يكون المعادل التشكيلي لإميل زولا في تعبيره عن النزعة الطبيعية في ما يتجاوز الواقعية نفسها. وهو في هذا الإطار عرف، على أي حال، كيف يعامل نفسه في بعض لوحاته تعامله مع الآخرين، مدركاً أنه في تلك اللوحات إنما يصور خير تصوير أحواله النفسية والذهنية في لحظات معينة من مساريه الحياتي والفني. ولعلنا نجد في واحدة من أشهر لوحاته ما يصور كلامنا هذا خير تصوير.
اللوحة التي نعنيها هنا هي تلك التي أعطاها هو نفسه عنواناً "تقنياً" محايداً هو "اللقاء" لكن النقاد والمؤرخين تجاوزوا اختياره ذاك، ليعطوها عنواناً يبدو لائقاً بها أكثر، وإن كان لا يفوته أن يحمل شيئاً من حس سخرية على الطريقة الفرنسية، "صباح الخير يا سيد كوربيه". لكن المتلقي بحاجة إلى أن يعرف خلفية المشهد، لكي يدرك ما في ذلك العنوان المقحم من سخرية حتى وإن كانت نظرة سريعة إلى اللوحة تكفي لوضعه على تماس مع شخصية الرسام الذي يشغل المكانة الرئيسة من اللوحة.
في هذه اللوحة التي حققها كوربيه عام 1854 ويبلغ ارتفاعها 129 سم مقابل عرض لا يقل عن 149، المعلقة الآن في متحف فابر بمدينة مونبيلييه في الجنوب الفرنسي، تطالعنا ثلاث شخصيات مرسومة في منطقة ريفية على خلفية سماء شبه صافية، تلتقي عند مفرق طرق. أول هذه الشخصيات الرسام نفسه الذي يشغل وحده بقامته الشامخة، التي تزداد شموخاً بفعل المنظور الذي يلتقط قامة الرسام من أسفل، ما يجعل تلك القامة مسيطرة على المشهد تماماً، حتى ولو كانت الشخصيتان الأخريان ملتقطتين مواجهة تقريباً لتشغلا معاً النصف الأيسر من اللوحة إلى جانب كلب مرافق لهما.
والآن لتوضيح ذلك كله لا بد أن نذكر أن الشخصين اللذين يواجهان كوربيه في اللوحة، هما تاجر اللوحات ألفريد برويّا، الذي كان قد اعتاد لثرائه وحبه للفن أن يكون راعياً لكوربيه وممولا لبعض لوحاته، وهو هنا في رفقة خادمه وكلبه يلتقون الرسام عند مفترق الدروب الريفية. فما الغريب والاستفزازي في الأمر؟
لقاء متخيل وهدف خفي
أولاً لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا اللقاء لم يحدث في الواقع، وأن كوربيه وبرويّا لم يلتقيا أبداً في تلك المنطقة الريفية. بل إنهما في الزمن الذي رُسمت فيه اللوحة كانا على خلاف فشلت كل الجهود التي بذلها أصدقاء الطرفين لتذليله بالنظر إلى أن كوربيه كان قد وضع شروطاً اعتبرها برويّا مهينة له، مع أنه كان من ناحيته تواقاً للصلح مع الرسام. ولننتقل هنا إلى اللوحة لنقول على الفور إنها إنما تعبّر في خيال كوربيه عن تمسكه بشروطه، فهو صور نفسه هنا في موقف استعلائي يشمخ برأسه ناظراً بكل ترفع الى مموله وراعيه، فيما صور الأخير مصالحاً يرفع قبعته في موقف دوني مذعن، وهو يقف سواسية مع خادمه وكلبه يتعاملون مع الرسام كسيد من كبار السادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحسبنا أن نتمعن في النظرة التي يلقيها كوربيه على ذلك "الثلاثي" كي ندرك فوقيته، المتخيلة على أي حال، تجاه تاجر اللوحات. كان من الواضح أن ثمة عملاً فنياً يحمل موقفاً متكاملاً جعل منه الرسام أداته للثأر من راعيه بل إنذارا منه بقطيعة أكثر حدة. ومن هنا يحمل العنوان الذي أعطاه النقاد للوحة، "صباح الخير يا سيد كوربيه" حس السخرية المضمر في انتقاد مباشر لموقف الرسام وفي فضح لاستعلائه الكاذب. وهو استعلاء كاذب بالتأكيد لأن فناناً يحمل موقفاً استعلائياً حقيقياً من شخص آخر، ما كان من شأنه أن يكرس للقاء متخيل معه، لوحة بأسرها. ففي نهاية الأمر، لم يكن لمثل هذه اللوحة أن تُفهم إلا كنوع من التعبير عن "حرد" غايته تسجيل نقاط قبل الوصول إلى تفاهم.
لوحة فابتسامة فرسالة
مهما يكن من أمر، على رغم كل ضروب التفسير التي طاولت اللوحة، بدا موقف برويّا بادي التفهم والتسامح، إذ نجده بعد أن عُرضت اللوحة يبتسم بطيبة ومن ثم يرسل إلى الرسام بطاقة يكتب فيها، "صباح الخير أيها السيد كوربيه. ما رأيك أن نحول اللقاء إلى لقاء حقيقي"؟ وهكذا لعبت هذه اللوحة دور "قاضي الصلح" في العلاقة بين الرجلين.
أما خارج إطار البعد الذاتي المزدوج في هذه اللوحة، فإن النقاد سيلاحظون أنها كانت بداية لتعبير غوستاف كوربيه عن اكتشافه المدهش لشمس الجنوب الفرنسي المشرقة، ما سينعكس لاحقاً على عديد من لوحاته ويخرجه، إن لم يكن من مواضيعه الواقعية بل المفرطة في واقعيتها أحياناً، فمن المشاهد الداخلية المعتمة التي كانت سيطرت على أعماله المبكرة، لكنه سوف يعود إليها لاحقاً على أي حال.
عندما رسم كوربيه ذلك "الموقف" المصالح بعد كل شيء، كان في الثالثة والثلاثين من عمره، وكانت لا تزال أمامه حياة طويلة سيعيشها ويبدع خلالها أعمالاً صورت كما أشرنا مشاهد ومقتطفات اجتماعية تعكس إلى حد ما نوعية المجتمع، الذي عاش فيه وتحرك خلاله وناضل من أجل تقدمه، معبراً عن احتفاله به وبناسه أحياناً، وأحياناً عن خيبة أمله فيه. غير أنه عرف كيف يبقى دائماً كما حال كل فنان أصيل، على هامش ذلك المجتمع. بيد أن ذلك لم يمنعه من تكريس معظم لوحاته للحياة الاجتماعية مصوراً إياها من داخلها وليس من خارجها.
رسائل إلى الألمان
ولد غوستاف كوربيه عام 1819 في منطقة أورنان الريفية، التي سيمضي فيها لاحقاً فترة طويلة يرسم خلالها بعض لوحاته الأكثر إشراقاً. وهو درس في بيزانسون لكنه للتدرب على الرسم التحق باكراً بمحترف لأحد تلامذة الرسام دافيد، ما طبعه بواقعيته الراسخة. ولقد قبلت أول لوحة له في صالون عام 1844، ما مكنه خلال مرحلة تالية من السفر إلى بلجيكا وهولندا للاطلاع على تقدمهما في الفنون والتأثر بملوّنة كبار فنانيهما. وهو منذ تلك الفترة سيتوزع وقته بين العمل في باريس وأورنان، والتجول في دول الجوار الأوروبي ناهلاً من فنونها ساعياً إلى تعميق علاقته بالمواضيع والألوان، ما جعله سنوات إثر سنوات واحداً من نجوم الصالون السنوي، على رغم الاشمئزاز العام منه ومن تصرفاته الحياتية، لا سيما من نظرته إلى الآخرين.
يذكر أن كوربيه الذي كان يعرف ألمانيا والألمان معرفة جيدة، توجه خلال الصراع (الألماني - الفرنسي) من حول الكومونة التي كان جزءاً منها، بخطابات إلى الشعب الألماني والجنود الألمان، يحرضهم فيها ضد سلطات بلادهم داعياً إياهم إلى مساندة الأخوّة بين البشر. وهو ما ظل عليه موقفه بعد انهيار الكوميونة، وحتى رحيله بعد ذلك بسنوات عام 1877.