تفاءل كثيرون خلال الشهور الأخيرة عندما شهدت الأزمة الليبية العديد من جولات الحوار التي رعتها القائمة بأعمال مبعوث الأمم المتحدة ويليامز في المغرب وتونس ومصر والداخل الليبي. وفي الحقيقة إن هذه التوقعات المتفائلة كانت بحاجة إلى أسابيع قليلة لتظهر عدم واقعيتها، التي ربما كشفت عن إدراك الأطراف المتصارعة عدم قدرتها على تسوية الصراع عسكرياً في المرحلة الراهنة، وربما أيضاً أن الأطراف الخارجية الكبرى لا تريد هزيمة كاملة لأطراف الصراع الإقليميين كل لحسابات مختلفة ومعقدة للغاية، وربما تكون هذه الأطراف الخارجية الدولية والإقليمية تدرك حجم الصعوبات وعدم التأكد من إدارة هذا الصراع، ومع أن التفاعلات لا تزال مستمرة، فإنه يمكن إثارة بعض النقاط والملاحظات التي تستحق الانتباه وتتعلق بقواعد التفاوض الناجح وشروطه.
إشكالية التمثيل
كان مؤتمر برلين قد حدد آلية (5 + 5)، بحيث يقدم كل من الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر خمسة يتفاوضون مع خمسة من العسكريين الموالين لحكومة الوفاق، التي واجهت إشكالية تتعلق بمدى قدرة حكومة الوفاق ورئيسها فايز السراج على تشكيل وفد عسكري يكون قادراً على فرض إرادته على الفصائل المسلحة غرب ليبيا والمنضوية في تحالف هش خلفها ضد المعسكر الآخر.
وكما هو معروف عقدت جولات قليلة وغير ناجحة في جنيف خلال النصف الأول من العام وسط الصراع العسكري وتقدم الجيش الليبي في محيط العاصمة طرابلس، ثم انهارت هذه المحاولات مع اشتداد المعارك العسكرية، وحدثت التطورات المعروفة من تدخل تركيا وتراجع جيش حفتر إلى المنطقة الشرقية، ودفعت تركيا بقوات وميليشيات متطرفة سورية وغيرها من الجبهة السورية لتغير التوازنات العسكرية وحاولت التقدم شرقاً إلى سرت، فجاء التدخل المصري وإعلان سرت والجفرة خطاً أحمر، وتوقف الزحف (التركي – الوفاق).
مع تأكد اللاعبين من عدم إمكان الاستمرار، بدأت العملية السياسية، من خلال جولات تفاوضية ربما كانت أهمها في المغرب، لكن لم يفهم أحد بالضبط من يمثله هؤلاء المتفاوضون، فالمنطق الذى قادته ويليامز كان في ما يبدو يريد إعادة سيناريو الصخيرات، وتطبيق جمعية تأسيسية من شخصيات ليبية غير معروف مدى تمثيلها للشعب الليبي. وفي الوقت نفسه استؤنفت عملية (5 + 5) بقدر كبير من الغموض، بمعنى آخر هل ما جرى جزء من المسار التفاوضي الرئيس، أم أن الاجتماعات الجديدة هي مسار تسوية مختلف؟ وفي جميع الأحوال كان التساؤل حول مدى التمثيل الحقيقي للوفود المشاركة في جولات الحوار مطروحاً ومحل تساؤلات ليبية وغير ليبية.
أجندة تفاوضية ملتبسة
ناقشت جولات الحوار العديد من النقاط المهمة والضرورية لإخراج تسوية سياسية، على رأسها عقد انتخابات تشريعية، وقيل رئاسية أيضاً وتحدد لها إطار زمني مع نهاية العام المقبل، وفي حركة درامية مسرحية أعلنت حكومة الوفاق دعماً مالياً للجنة الانتخابات بنحو مليون دولار، يبدو تشغيلياً لهذه الآلية المتعطلة.
وذكرت التقارير أن النقاش الأكبر كان حول تقسيم مناصب الدولة، مع رؤيتين، واحدة بتقسيم المواقع الرئيسة بين قيادات المعسكرين الحاليين، والثانية بطرح شخصيات جديدة، غير أنه لم يُتّفق على أي خيار من الاثنين، وأثار البعض اعتراضاً على اهتمام المتفاوضين بتقسيم الغنائم وليس التوصل إلى تسوية متكاملة، مع أن النقاش كان تحت ضغوط شديدة من التيار الإخواني بغرض الحصول على أكبر حصة ممكنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أعلن أحد قادة الجيش الليبي أنه اتُّفق على 3 مراحل؛ الأولى فتح طرق سرت شرقاً وغرباً، والثانية إجلاء المرتزقة الأجانب والقوات الأجنبية، والأخيرة تفكيك الميليشيات المسلحة.
قد يرى البعض أن المفاوضات ناقشت أغلب البنود الرئيسة للأزمة، لكنها لم تمتد حقيقة إلى أمور؛ مثل، كيفية نزع سلاح الميليشيات المسيطرة على أي انتخابات مقبلة، وعدم تكرار ما حدث في السابق، وآليات تنفيذ هذا.
العرقلة التركية
ربما كانت تركيا هي الطرف الخارجي الوحيد الذى أبدى اعتراضه منذ بدايات الجهود التفاوضية. وقراءة التصريحات والبيانات الصادرة عن أنقرة تكشف حجم التجاوزات منذ البداية، إذ لم تقتصر على التشكيك، بل كانت تتحدث بوقاحة شديدة، وكأن معسكر (مجلس النواب – الجيش الليبي) يحتل أراضي تركية، وأنه لا يمكن التفاوض في ظل وجود حفتر، وعكست مواقفها منذ البداية استحالة التوصل إلى اتفاق، واستكمالاً لهذا المنطق نشرت وسائل الإعلام الليبية أن أنقرة وبّخت بشدة رجلها وزير داخلية الوفاق فتحي بشاغا على زيارته مصر. كما أنها لم تتوقف عن مواصلة تدعيم وجودها العسكري. صحيح أن تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان تشير إلى أنها أعادت آلاف المرتزقة السوريين إلى بلادهم خلال الأسابيع الأخيرة، لكن لا يزال قرابة سبعة آلاف مقاتل منهم في ليبيا. الأهم، أنها لم تتوقف عن إرسال أسلحة إلى ليبيا وتدريب ميليشياتها، مع عنصر آخر لا يقل أهمية وخطورة، وهو تأكد تهريب أسلحة إيرانية، منها صواريخ دهلوي المضادة للدبابات إلى مصراتة، وفقاً لما كشفته الأمم المتحدة، في خرق للحظر على ليبيا، وحظر تصدير إيران للسلاح، ما يكشف مدى تعقد العلاقات التركية – الإيرانية، والدعم المشترك لاختراق النظام العربي من ناحية، وتدعيم مشروعات الإسلام السياسي في المنطقة على الرغم من تناقض المشروع الشيعي عن السني بهذا الصدد.
يضاف إلى هذا، مواصلة أنقرة دعم طهران في الحظر المفروض عليها وتحقيق مصالح اقتصادية لها. واستكمالاً لدورها المعرقل قدمت الحكومة طلباً السبت الماضي إلى البرلمان لتمديد بقاء قواتها في الأراضي الليبية 18 شهراً أخرى، ومن المنتظر أن ينظر فيه بعد مناقشة الميزانية في 18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. معنى هذا أن تركيا لا تعرقل المفاوضات فقط، بل تخطط لوجود طويل الأجل في ليبيا.
دور أممي مذبذب وهش
قادت مبعوثة الأمم المتحدة ويليامز جولات التفاوض العديدة السابقة الذكر بدعم دولي واسع تقريباً، باستثناء أنقرة، التي أبدت تشككها وعرقلتها العلنية للتسوية، معبرة صراحة عن رغبتها في تمكين معسكرها في ليبيا من السيطرة الكاملة على البلاد والقضاء على المعسكر الآخر، وهو موقف يتسق مع كون هذا الصراع ذات طبيعة استراتيجية ومباراة صفرية لأردوغان في مشروعه السياسي الذي يستخدم الإسلام السياسي غطاء أيديولوجياً لتوسيع نفوذه ومكانته الإقليمية ومكاسبه الاقتصادية.
في الحقيقة، إن ما كان غائباً ومعوّقاً بشكل دائم لأي تسوية، هو أنه لم يطرح أي آلية جادة لتنفيذ أي اتفاقية أو تسوية سياسية للصراع، وفي كل السوابق التاريخية للصراعات المسلحة المتعددة الأطراف، وحيث تتعدد صور التدخل الخارجي وبعضها مباشر كالتدخل التركي، لا بد أن تصدر خطة التسوية بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبإشراف دولي لضمان الترتيبات الخاصة بإخراج المرتزقة ونزع سلاح الميليشيات، وتنظيم الانتخابات، وهو ما لم يحدث حتى الآن، وكان يجب تحضير هذه الخطوات لضمان جدية التفاوض ومخرجاته، ما يعني أن هذه الجهود لا تزال بعيدة عن التبلور بشكل جاد، وأن هناك مخاطر لاستئناف العمليات العسكرية أو تطوير حالة من الجمود السياسي والعسكري لبعض الوقت بانتظار تحولات دولية وإقليمية، وبالنهاية تعود الأزمة إلى المسار الدائري من جديد.