انتقل الوضع اللبناني إلى مرحلة جديدة من الفوضى السياسية وانسداد أفق المعالجات لأزمته الاقتصادية المالية الخانقة، في ظل استمرار الفراغ الحكومي المرشح للامتداد، وانطلاق مواجهات سياسية أخذت طابعاً طائفياً إسلامياً مسيحياً، على خلفية ادعاء المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت الكارثي في 4 أغسطس (آب) الماضي على رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء، إثنان منهم من الطائفة الشيعية، بتهمة التقصير والإهمال والتسبب بالقتل.
سجال مباشر بين عون والحريري
وزاد الطين بلة سجال علني حصل للمرة الأولى بين الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، الاثنين 14 ديسمبر (كانون الأول)، كشف فيه كل منهما معطيات حول خلافهما على تشكيل الحكومة، فخاطبا بعضهما بعضاً في شكل مباشر حول المسؤولية عن تأخيرها، بعدما كانا اتفقا منذ تكليف الحريري في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على حصر البحث بينهما وتجنب التسريبات والإبقاء على أجواء إعلامية هادئة في معالجة التباينات.
انطلق السجال من رسالة وجهها المستشار الرئاسي الوزير السابق سليم جريصاتي عبر جريدة "النهار" إلى الحريري، طالبه فيها بأجوبة عن الطرح الذي قدمه إليه عون خلال لقائهما الأسبوع الماضي، فرد المكتب الإعلامي للحريري مؤكداً أن الأجوبة موجودة لدى الرئيس عون، موضحاً أنه يريد حكومة اختصاصيين غير حزبيين تنفذ الإصلاحات وإعادة الإعمار. أما عون فيطالب بحكومة من الأحزاب السياسية سواء التي سمت الرئيس المكلف أو تلك التي اعترضت على تسميته، ما سيؤدي إلى الإمساك بمفاصل القرار وتكرار تجارب حكومات تحكمت فيها المحاصصة والتجاذب".
وعاد المكتب الإعلامي لعون فرد على الحريري واصفاً ما ذكره بـ "المغالطات" مؤكداً أن اعتراضه "قام على طريقة توزيع الحقائب الوزارية على الطوائف وعلى تفرّد الحريري بتسمية الوزراء وخصوصاً المسيحيين"، متهماً إياه بأنه كان في كل مرة يأتي بتصور مختلف، نافياً أن يكون طالب بحكومة حزبيين أو سلم لائحة للرئيس المكلف، بل طالب بحكومة منسجمة والتشاور مع الكتل النيابية. ولمّح إلى "عناد وتحريف للحقائق"... لكن الحريري رد على الرد فأسف للسجال، مؤكداً الوقائع التي أوردها بيانه الأول رداً على جريصاتي. وأشار إلى مطالب عون ومنها "توفير الثلث الضامن لإحدى الجهات الحزبية". ودعا الرئاسة إلى "إعطاء توجيهاتها بوقف التلاعب في مسار تأليف الحكومة".
لودريان و"التايتانيك"
الانسداد السياسي سبق أن دفع وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى القول لصحيفة "لو فيغارو" في 13 ديسمبر إنّ "الانهيار السياسي والاقتصادي في لبنان يشبه غرق سفينة التايتانيك". وأضاف: "بالنسبة إلي لبنان هو التايتانيك من دون الأوركسترا. واللبنانيون في حالة إنكار تام لأوضاعهم ولا توجد حتى موسيقى". وأكّد لودريان "أن لا أحد يريد أن يلتزم بتمويل لبنان إلى أن ينفذ إصلاحاته".
بالإضافة إلى تراكم أجواء التوتر الناجمة عن خلاف عون والحريري على صيغة الحكومة الجديدة، وتبادل الاتهامات بين الجانبين بتأخير ولادتها، شكل رفض القيادات السنية، أي الحريري ورؤساء الحكومات السابقين نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة، تمام سلام، ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان التهمة الموجهة إلى دياب من القاضي فادي صوان معتبرين أن الهدف منها المس بالموقع السني الأول في الدولة.
الأجواء التي سبقت ادعاء القاضي صوان على دياب ووزيري حركة "أمل" السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر، ووزير تيار "المردة" الموالي لسليمان فرنجية (على خصام شديد مع عون)، في انفجار المرفأ، أرخت بظلها على تفاعلات هذا الادعاء.
التسريبات عن استهداف عون لبري والحريري وجنبلاط
الأسابيع الماضية شهدت سباقاً بين أولويتين: تشكيل الحكومة الذي يسعى إليه الحريري، لأنها المدخل الوحيد للمعالجات الاقتصادية والإصلاحات ومن ثم الحصول على المساعدات المالية الخارجية من جهة، والخطوات القضائية لمكافحة الفساد وكشف فضائحه التي يشدد عليها عون، في ظل تبادل الاتهامات بحماية الهدر في مؤسسات الدولة والانتفاع من مشاريعها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهي اتهامات تشمل الفريق الرئاسي أيضاً ورئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل وصهره الذي يطمح إلى أن يخلفه في رئاسة الجمهورية في العام 2022، لا سيما في وزارة الطاقة التي تولاها "التيار الوطني الحر" طوال 10 سنوات. شملت السجالات حول ما نقل عن لسان الرئيس عون من تسريبات، بأنه سيلاحق ملفات الفساد والهدر، لا سيما تلك المتهم بها من ينتمون إلى 3 زعامات سياسية هي رئيس البرلمان نبيه بري، زعيم "المستقبل" سعد الحريري ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط. وتتهم بعض أوساط الزعامات الثلاث عون وباسيل بالترويج لدى الدول الغربية التي تلح على الإصلاحات، وعلى تشكيل الحكومة الجديدة بسرعة، وخصوصاً فرنسا، بأن من تريد باريس أن تتعاون معهم في تسريع تأليف الحكومة هم المتهمون بملفات الفساد، أي الجهات الثلاث المذكورة.
وتضمن بعض التسريبات أيضاً كلاماً منقولاً عن عون خلال لقائه رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى في 8 ديسمبر بأنه ذكر أمامهم أن ملفات الفساد يجب أن تُتابع ونسب أحد المواقع الإلكترونية إليه قوله إن بري وجنبلاط يجب أن يدخلا السجن، فسارع إلى نفيه بسرعة واصفاً إياه بأنه "كاذب ومحض اختلاق ولا أساس له من الصحة"، بعد أن تردد أن ثمة من نقل إلى بري كلاماً من هذا النوع، ما أثاره فشن هجوماً عنيفأً على عون. وسبق هذه الأجواء إشاعة أنباء بأن إصرار عون على التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان يستهدف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بهدف إقالته، ومن ورائه الحريري الذي يدعم سلامة.
الريبة من ادعاء صوان واستثناء عون
سيطرت الأجواء المحمومة على ادعاء القاضي صوان على دياب والوزراء الثلاثة الآخرين على الرغم من أنهم ليسوا من السنة (بل من خصوم باسيل وعون) بسبب شكوك القيادات السنية التي أثارها حول ضغوط يمارسها عليه رجالات القصر الرئاسي لينحو هذا المنحى. فالمحقق العدلي كان بعث برسالة إلى البرلمان في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) طالباً إلى بري إجراء المقتضى للتحقيق بشبهة تقصير وإخلال بالوظيفة من قبل نواب ووزراء سابقين وحاليين.
وهذا يعني اتخاذ إجراءات وفق الدستور برفع الحصانة عن هؤلاء والتمهيد لوضع المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب المشكل من قضاة ونواب يده على القضية. لكن بري رد بأن أي إجراء يجب أن يستند إلى ادعاء قضائي وإلى ملف تفصيلي يمكّن البرلمان من ملاحقة القضية واتخاذ القرار في شأنها. إلا أن رسالة صوان تضمنت أسماء رؤساء الحكومة الذين تولوا المسؤولية منذ العام 2013، تاريخ وصول الباخرة المحملة بنيترات الأمونيوم التي جرى تفريغها في العنبر الرقم 12 في العام 2014، والتي سببت الانفجار الهائل في المرفأ، وهم نجيب ميقاتي، تمام سلام، الحريري، دياب، إضافة إلى وزراء الأشغال العامة والعدل... واعتبر رؤساء الحكومات أن ادعاء صوان على دياب، على الرغم من أنه لم يتضمن أسماء ثلاثة منهم، يترك الادعاء عليهم للظرف المناسب.
كما أن الادعاء لم يشمل وزراء العدل الذين تضمن أسماءهم كتاب صوان إلى البرلمان، لأنهم من الموالين لعون، لا سيما سليم جريصاتي (مستشار حالي في القصر الرئاسي) المتهم بأنه يدبج المخارج القانونية للرئاسة، والتدخل في شؤون وزارة العدل، تنفيذاً لتوجهات "غرفة سوداء" بحسب المعارضين لعون، تهيّء الملفات من أجل ملاحقة المعارضين قضائياً، والوزيرة الحالية للعدل ماري كلود نجم، المنتمية إلى الفريق الرئاسي. كما أن ادعاء صوان لم يشمل الرئيس عون، الذي مثله مثل دياب كان تلقى كتاباً ينبئه بوجود المواد المتفجرة في المرفأ، والذي كان علق عليه بعد أيام قليلة على الانفجار بالقول إن لا سلطة لديه لاتخاذ الإجراءات، وإنه أحال الكتاب الذي تلقاه من جهاز أمن الدولة عن تخزين المواد الخطرة في المرفأ إلى المجلس الأعلى للدفاع.
رؤساء الحكومات: لا حصانة لنا ولا لأي شخص
عزز اقتصار الادعاء على دياب، قناعة الفرقاء الرافضين له والمرتابين بنية استهداف رؤساء الحكومات السابقين من دون رئيس الجمهورية، بسبب نهج يعتقدون أن عون دأب عليه منذ زمن يقضي بإضعاف موقع رئاسة الحكومة. فالريبة دفعت هؤلاء إلى التصالح مع دياب، والحريري إلى زيارته تضامناً، بعد قطيعة منذ تشكيل حكومته مطلع العام. وأعقب ذلك صدور بيان عن رؤساء الحكومات السابقين شددوا فيه على أن التحقيقات القضائية وبخاصة في مثل هذه القضايا الخطيرة، لا ينبغي أن تكون عرضة للتجاذبات الشعبوية والسياسية حتى لا تخرق سريتها وأكدوا أن الدستور تحصر صلاحية الملاحقة بالمجلس النيابي إذا كان الجرم ناشئاً عن ممارسة المهام الدستورية.
وأعلن الرؤساء الأربعة السابقون أن "لا حصانة لهم ولا لأي شخص في هذا الخصوص من أعلى الهرم إلى أسفله ولا احتماء من ملاحقة، بطائفة أو مذهب أو حزب، أما خرق الدستور بصورة متعسفة فإنه يخشى أن يؤدي إلى خلل كبير في الركائز التي يقوم عليها الكيان اللبناني". لكن انضمام "حزب الله" إلى التشكيك في ادعاء صوان، لا سيما أنه يشمل الوزيرين الشيعيين، جعل رد الفعل إسلامياً وليس سنياً فقط. فالحزب اعتبر الادعاء "استهدافاً سياسياً طال أشخاصاً وتجاهل آخرين من دون ميزان حق، وحمل شبهة الجريمة لأناس واستبعد آخرين بلا مقياس عدل".
الراعي يأمل في ألا تعطل ردود الفعل التحقيق
لكن التعليقات على رد فعل الرموز السنية على ادعاء صوان ورفض دياب استقبال الأخير للتحقيق معه كمدعى عليه يوم الاثنين، ثم رفض الوزيرين خليل وزعيتر ذلك أيضاً، عمقت الانطباع باتخاذ القضية منحى طائفياً، مع أن مصدر بعض هذه التعليقات هو منظمات المجتمع المدني مثل نقابة المحامين ولجان أهالي المناطق المنكوبة ونواب هم أقرب لانتفاضة 17 أكتوبر التي دعم رموزها القضاء في تحركه لكشف المسؤولين عن انفجار 4 أغسطس. وشارك نواب حزب "القوات اللبنانية" في تشجيع القاضي صوان على مواصلة ادعائه وتحقيقاته، وأن لا يخضع للضغوط السياسية، من دون إغفال بعض المواقف لمطلب اللجوء إلى تحقيق دولي لتجنب قصور القضاء اللبناني عن معرفة الحقيقة في انفجار المرفأ.
فالبطريرك الماروني بشارة الراعي أمل في "أن لا تعطل ردود الفعل السياسية والطائفية والقانونية مسار التحقيق في انفجار المرفأ". وهو أكد في معرض رده على المفتي دريان، "الحرص على موقع رئاسة الحكومة وسائر المواقع الدستورية والوطنية والدينية"، وأن "مناعة هذه المواقع هي من مناعة القضاء". لكنه لم يفُته الإشارة إلى شكوك حول قرار الدولة التصدي للفساد، بالقول: "أقلقتنا طريقة مكافحة هذا الفساد، إذ بدت كأنها صراع بين مؤسسات الدولة وسلطاتها ومواقعها على حساب الشفافية والنزاهة فارفعوا أياديكم عنه أيها السياسيون والطائفيون والمذهبيون ليتمكن هو من تشذيب نفسه والاحتفاظ بالقضاة الشرفاء والشجعان فقط، الذين يرفضون العدالة الكيدية والمنتقاة والانتقامية أو العدالة ذات الغرف السوداء. المعنية بتدبيج ملفات وتمريرها إلى هذا وهذه وذاك". فالراعي كان بدوره نصح قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي بعدم المثول أمام التحقيق بتهمة الإثراء غير المشروع مع 7 ضباط آخرين لأن إثارة ملفه حصلت لأسباب كيدية. أي أن المرجعيات الروحية تؤمن الحماية لشخصيات تتعرض للمساءلة القضائية، من كل الاتجاهات.
وكان جنبلاط قال إن "التحقيق في انفجار المرفأ يجب أن يشمل الجميع فوق كل اعتبار طائفي أو سياسي أو دستوري... وحافظوا على القضاء واستقلاليته".
لم يقف الأمر عند حدود السجال، بعدما رفض الرئيس دياب استقبال المحقق صوان. فالأخير أصر على استجواب رئيس حكومة تصريف الإعمال في اتصال أجراه بالسراي الكبيرة لإبلاغ دوائرها بأنه سيزور دياب يوم الجمعة 18 ديسمبر لهذا الغرض وحدد مواعيد للوزراء الثلاثة المدعى عليهم تمتد من الأربعاء 16 ديسمبر حتى يوم الجمعة.