بدأت العلاقة بين مصر وجنوب السودان بتطور مطّرد متجاوزة المرارات التاريخية التي ربط فيها الاستعمار البريطاني مصير جنوب السودان بعزلة عن وادي النيل بشقَّيه مصر والسودان الشمالي، اللذين كانا دولة واحدة بعد أن قام محمد علي باشا بضمّ السودان إلى مصر عام 1822، وحتى استقلاله عن الاستعمار البريطاني عام 1956 مع تطبيق قانون المناطق المقفولة على الجنوب. كما تعيش هذه العلاقة حالياً في ظل انقسامات إقليمية حادة، بينما تلوح في الأفق قضايا عالقة مثل توزيع مياه النيل ومشكلة اللاجئين الجنوبيين في مصر، إضافة إلى ملفات التعاون الاقتصادي والتنموي وفقاً للخيارات المتاحة.
حزام النزاعات
هناك نوعان من الأوضاع الجيوسياسية التي تؤطر علاقة مصر مع دولة جنوب السودان. النوع الأول ثابت وهو العلاقة الجغرافية التي تربطهما عن طريق النيل بوصفها إحدى دول حوض النيل المهمة والمشاريع المتعلقة بهذا الوجود مثل قناة جونقلي. والنوع الثاني ذو طبيعة ديناميكية ويرتبط بعلاقة البلدين مع الجوار الإقليمي وتوتراته مثل السودان الشمالي وإثيوبيا، ثم بعد ذلك علاقاتهما مع دول حوض النيل.
ركّزت الأدبيات السياسية المصرية طوال تاريخ البلاد الحديث على مسألة أمنها القومي من جهة إسرائيل، وانشغلت بذلك الوجود عما يمكن أن يشكّله جنوبها وامتداده إلى الجنوب الشرقي باتجاه مسار النيل وتفرعاته. وحتى عندما اتجهت إلى إثيوبيا ومنطقة القرن الأفريقي قبل حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، نجدها ركّزت على الحدّ من النشاط الإسرائيلي في إثيوبيا، وليس على تقوية علاقاتها معها. واهتمام القاهرة بصراعها مع تل أبيب جعلها تنظر إلى أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي خصوصاً، وتعاونها مع إسرائيل كمهدّد لأمن البحر الأحمر فقط، بينما استبعدت المخاوف بخصوص النيل. لذا فإن المجهود الكبير والمفاجئ الذي تبذله مصر عن طريق الشركات الخاصة في أعمال التنمية وتقديم الدعم الفني والتدريب وبناء القدرات للكثير من الكوادر الإدارية من جنوب السودان، سيواجهه تحدي أنها تتعامل مع دولة تسعى إلى تحقيق السلم من دون جدوى، وتمزّقت قبل أن يكتمل تكوينها.
وهنالك مشكلة أخرى هي أنه لئن توقّع البعض احتمال أن يفضي هذا المجهود إلى فوائد راسخة، فإن طبيعة المنطقة التي تضم السودان وجنوب السودان وإثيوبيا وغيرها، تقع في حزام نزاعات ذات طبيعة منبسطة لأنها تتغذى على صراعات قائمة في الأساس أو تتأثر ببعضها بعضاً. وهي مشكلات تمثّل تحدّياً للدول ولا تحلها الدبلوماسية والمنظمات الإقليمية بقدر ما تعتمد على الإدارات والمجتمعات المحلية، وهذه أيضاً شابتها أعراض الاستقطاب والمصالح القبلية.
محدّدات جيوسياسية
تتفاعل مصر مع دولة جنوب السودان في إطار بيئة ذات محدّدات جيوسياسية، فالأولى دولة مركزية وتمثّل محور التفاعلات السياسية بوصفها فاعلة ومشاركة في هذه الأحداث على مدى تاريخها السياسي، أو من خلال التطورات التي تجري من حولها. أما الثانية، فهي دولة غنية بالموارد غير المستغلة ولكنها محدودة القدرات السياسية وضعيفة التكوين، وتنبع أهميتها من أنه يمكن أن تضمن حدوث علاقات ديناميكية من حولها، خصوصاً إذا كان متوقعاً حصول تغيير في دورها الإقليمي وإمكانية صعودها، أو تبدّل في الأدوار الإقليمية من حولها.
وبينما تتوق دولة جنوب السودان إلى الوصول إلى الجامعة العربية، والحصول على مجال حيوي في المنطقة العربية، نجد أن النظام العربي قد ظهرت عليه بوادر تغيرات حادة بدأت قبل انفصال الجنوب عن السودان. ولكن دولة الجنوب تصرّ على إيجاد موقع فيه مستمسكةً بالميزة التي كان يحققها وضع الإقليم ضمن السودان القديم. وتركيزها على ذلك حتى تحفظ لنفسها موقعاً في نظام إقليمي مُرتقب، يجمع ما بين منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها تركيا وإسرائيل وإيران، إضافة إلى الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية وتلك التي تقع في المجال الحيوي لمنطقة الشرق الأوسط. تأسّست العلاقة بين مصر وجنوب السودان ضمن سياق تصورات القدرة على وضع ترتيبات سياسية وأمنية واقتصادية في المدى الجغرافي الذي يشمل الشريط المكوّن لمصر والسودان وجنوب السودان. وهذا من شأنه أن يمنح الدول الثلاث طابع تكتّل مرن في التعامل مع إثيوبيا. ولكن من ناحية أخرى، فإنّ تمدّد السودان وجنوب السودان ضمن حدود واسعة نبّه مصر إلى خفوت دورها في أفريقيا جنوب الصحراء، فسارعت إلى التركيز على كينيا وأوغندا وتنزانيا وهي الدول المعترضة على الاتفاقيات السابقة بخصوص مياه النيل وتطالب بتقاسمها بشكل أكثر عدلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قضية مياه النيل
هذا البعد السياسي الإقليمي لمصر مع دولة جنوب السودان تجلّى في بعد سياسي على صلة بقضية المياه التي تمثّلت في مشروع قناة جونقلي وسد النهضة. ارتبطت مدينة جونقلي، إحدى معاقل قبيلة الدينكا في جنوب السودان باسم قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق الذي ولد فيها بتاريخ 23 يونيو (حزيران) 1945. وكانت القناة مشروع دراسته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة أيوا الأميركية عن التنمية الزراعية في جنوب السودان في سبعينيات القرن الماضي. وبدأ العمل بالمشروع ولكنه توقف عام 1983 بسبب ضربات نفّذها المتمردون في حربهم مع الحكومة. وإذا أنجز مشروع القناة الذي ستشرع مصر في إحيائه، سيوفّر للسودان ومصر نحو أربعة مليارات متر مكعب من المياه والاستفادة من المياه المتدفقة التي تتعرّض للتبخّر من روافد النيل مثل بحر الغزال والزراف والبحيرات الاستوائية.
أما الفائدة بالنسبة إلى دولة جنوب السودان، فهي في أن المنطقة التي ستُقام عليها القناة هي منطقة سدود تمنع التواصل وتحدّ من قيام النشاطات الاقتصادية. وتستفيد منطقة جونقلي من المشروع بالإسراع في عملية التنمية وزراعة 210 آلاف فدان بالريّ المباشر و4 ملايين فدان بالزراعة الآلية وإقامة تجمعات سكانية وتسيير خط الملاحة النهرية للربط بين دولتي شمال وجنوب السودان. كما ينشّط المشروع وسائل النقل المختلفة مع توفير المياه النظيفة للشرب وإنشاء مشاريع كهرباء ومصانع لإنتاج السكر وغيرها.
أما بالنسبة إلى قضية سد النهضة، فعندما اندلعت النزاعات في جنوب السودان بعد انفصاله عام 2011، لم تتوانَ إثيوبيا وأوغندا عن التدخل بشكل منفرد وضمن بعثة الأمم المتحدة، بينما كانت مصر بعيدة من مسرح الأحداث. وهذا ما وضع جنوب السودان في موقف غير محدد من أزمة سد النهضة، إذ إن أديس أبابا كانت تتوقع وقوف الخرطوم وجوبا إلى جانبها.
قضية اللاجئين
بعد انفصال الجنوب، أعطت السلطات في البلدين مهلة 9 أشهر للمواطنين من الدولة الأخرى للرحيل أو توفيق أوضاعهم بحسب قوانين البلد الذي يقيمون فيه.
وفي مفاوضات أديس أبابا في 13 مارس (آذار) 2012، اتفقت حكومتا البلدين وفقاً لقانون الحريات الأربع، على السماح للمواطنين من الدولة الأخرى بالتمتع بحرّية الإقامة والتحرك والنشاط الاقتصادي وامتلاك العقارات. وفي ديسمبر (كانون الأول) الحالي، اتفقتا على وضع حلول للمهجرين قسراً في البلدين والدول الأخرى التي تستضيف لاجئين من الدولتين، ومنها مصر التي تستقبل عدداً كبيراً من المواطنين من السودان الشمالي والجنوبي.
وبينما كان هذا الملف تعلو نبرته السياسية من قبل، ويسبب مشاعر مختلطة من الاستياء والحساسية، فإن دخول "إيغاد" ومفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، بغية إيجاد عودة طوعية وتأهيلهم وتوفير فرص معيشية كريمة، أزال عدداً من المسائل الحرجة المتعلّقة بأوضاعهم.
خيارات محدودة
إن خيارات مصر وجنوب السودان ستتأثر بشكل واضح بعوامل أخرى في المنطقة، ويمكن أن تؤدي القاهرة دوراً محدوداً ومقيّداً يعتمد على تطوير علاقاتها مع القوى الإقليمية الأخرى وما يحدثه ذلك من أثر في أزمة سد النهضة. أما جنوب السودان الذي تكتنفه النزاعات الداخلية، إضافة إلى انخفاض أسعار النفط ومعاناة معظم مناطقه من انعدام الأمن والاستقرار الذي خفّض الاستثمارات الأجنبية، وتردده في الاعتماد على أوغندا وكينيا كمصادر للمنتجات الزراعية والغذائية، فإنه سيتحوّل إلى مصر التي تشجّع قطاعها الخاص على الاستثمار هناك.
إن هذه المقاربة في العلاقات بين البلدين تتميز بكونها تتفق مع الاتجاهات الإقليمية الراهنة نحو المزيد من الاعتماد المتبادل واسع النطاق. ومع الإقرار بأن النزاعات الإثنية تتصاعد في الجنوب، ومن شأنها أن تغطّي على آثار ما قد تحققه العلاقة مع مصر، فإن الالتزامات تستوجب على دولة الجنوب الحفاظ عليها مقابل ما يربطها بالشمال، ووضعها كحلقة وصل مع جيرانها في أفريقيا جنوب الصحراء، وبالمنطقة الاقتصادية لدول شرق أفريقيا.