اليوم قد تبدو هذه الحكاية بسيطة ومعتادة بعد ما أشبعتها السينما، وعلى خطى المسرح، وصفاً وعرضاً وسخريةً: الحكاية التي تُحلّ فتاة الليل، بسبب سوء تفاهم ما، محل سيدة البيت فتنبني على ذلك مواقف وأحداث وعلاقات تسمح خلال ساعتين من الزمن المسرحي، للكاتب وأهل الخشبة بفضح أخلاقيات مجتمع بأسره ونفاق ذلك المجتمع.
ولعل أول ما يتوجب ملاحظته هنا، هو أن مسرحية "السيدة من عند مكسيم" التي نتحدث عنها، عرفت طريقها إلى العالم، مترجمة إلى معظم اللغات الحية ومعروضة على مسارح مئات المدن ثم على الشاشات بعد ما حُوّلت إلى أفلام حققت نجاحات لا تحدّ. وما نجاحها سوى دليل على وحدة المجتمعات البورجوازية وتطابقها في معظم زوايا العالم.
خمسمئة عرض متتال
الحقيقة أن جورج فيدو كاتب هذه المسرحية التي عُرضت للمرة الأولى عند بداية عام 1899 في باريس ليتتابع عرضها خمسمئة مرة متتالية، قبل أن تعرف نجاحات مماثلة في العالم أجمع، ما كان يتوقع لمسرحيته مثل هذا النجاح. بل إنه ليس في المسرحية ما يميّزها عن عشرات سابقة لفيدو نفسه كما لأساتذته الكبار وعلى رأسهم لابيش. فهي لا تتجاوز كونها عملاً مسرحياً هزلياً محوره فتاة ليل يأتي بها طبيب باريسي إلى منزله ذات مساء صاخب وقد نسي أن له زوجاً وحياة محترمة.
وهو حين يتنبه إلى فعلته صباح اليوم التالي يكون قد فات الأوان إذ يزوره عم ريفي ثري عائد لتوه من أفريقيا، ويريد أن يدعوه إلى عرس ابنة أخيه. والعم إذ يعتقد أن فتاة الليل هي زوج الطبيب الشاب يدعوها معه. وهكذا تبدأ الحكاية. فالصبية كريفيت لا تتردد في قبول الدعوة لننتقل إلى الفصل الثاني الذي يدور في معظمه في قصر العم الريفي، حيث العرس، وحيث يُستقبل الطبيب اللامع و"زوجته" بترحاب شديد. ولكن أيضاً حيث تنتهز كريفيت فرصة وجودها في "مجتمع راق" لتمارس تصرفات متحررة، بل وقحة غير عابئة بصرامة أهل المجتمع المحيطين بها. بل على العكس من هذا، حيث إنها تُبدي من المبالغة في الجرأة ما يجعل سيدات المجتمع الريفي يعتقدن أن ما تقوم به هو "الموضة" الرائجة في باريس الآن، فلا يكون منهنّ إلا أن يقلدنها باندفاع وشغف غير عابئات بالتقاليد والأعراف الاجتماعية!
واختلط الحابل بالنابل
وعلى هذا النحو يختلط كل شيء بكل شيء وتسير أحداث واحدة من أكثر مسرحيات نهايات القرن العشرين جرأة وغرابة، لتؤسس المسرحية ليس لنمط جديد من المسرح الهزلي الاجتماعي، بل كذلك لحضور جورج فيدو القوي في ذلك المسرح، ومن هنا لن يكون غريباً أن نقرأ في عناوين الصحف الفرنسية لاحقاً وخصوصاً حين رحل فيدو: "جورج فيدو لم يطور فن الفودفيل فقط، بل إنه في حقيقة الأمر أعاد اختراع هذا الفن من جديد". أو "ليست الشخصيات التي ابتكرها جورج فيدو، شخصيات مسرحية صرفة، بل هي شخصيات حيّة ناطقة بالحياة. ولئن كان فيدو قد اختار أن يقدمها لنا في قالب هزلي، فإنه فعل ذلك تخفيفاً لوقع معاناتها علينا". أو حتى "جورج فيدو هو أعظم كاتب مسرحي هزلي فرنسي منذ موليير".
بهذه العبارات وبمثلها تحدثت الصحافة الفرنسية إذاً، عن الكاتب المسرحي الفرنسي جورج فيدو عند أوائل القرن العشرين. في ذلك الحين كان فيدو يعتبر على أي حال ثالث ثلاثي تمكن من إعادة إحياء فن الكوميديا الفرنسية، وكان ذلك الثلاثي يتألف منه، إلى جانب لابيش وبرنشتاين. ولئن كان هذان الأخيران قد نُسيا بعض الشيء في أيامنا هذه، فإن فيدو لا يزال ماثلاً في الأذهان، ومسرحياته تقدم في فرنسا، موسماً بعد موسم، ولكن خارج فرنسا أيضاً، حيث من المعروف أن مسرح جورج فيدو مترجم إلى عشرات اللغات، ناهيك عن أن السينما، الفرنسية والعالمية، قد اقتبست معظم هزليات ذلك الكاتب الفذ لتحولها إلى أفلام ناجحة كما أشرنا.
أما في المسرح العربي، فلقد كان جورج فيدو، على الدوام، صاحب حظوة، حيث من المعروف أن العديد من مسرحياته قد عُرّبت وقُدّمت منذ بدايات القرن العشرين لا سيما في مصر، ليحمل أحياناً اسمه، ولكنه في أغلب الأحيان كان يقدم من دون الإشارة إلى مؤلفه. ويمكننا أن نفترض أيضاً أن العدد الأكبر من مسرحيات فيدو قد تحول، مرة أو مرات، إلى أفلام هزلية كان بعضها الأشهر والأنجح، ربما، في تاريخ الإنتاج السينمائي المصري الهزلي.
وفي لبنان من المعروف أن مسرح شوشو، الذي نجح خلال سنوات الستين وحتى منتصف السبعينيات، قدم العديد من المسرحيات المقتبسة عن جورج فيدو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رصد للتشابه بين البشر
ما سرّ هذا النجاح العالمي لكاتب كان يمكنه ألا يكون أكثر من كاتب محلي فرنسي، خصوصاً بسبب خصوصية المواضيع التي تحملها أعماله؟ السرّ الأساسي أن فيدو تمكن من أن يحول تلك الخصوصية إلى عمومية، ومن أن يضفي على الأحداث والشخصيات التي يبتكرها طابعاً كونياً. فهو وسط مظاهر الهزل والألعاب المسرحية الخفيفة، كان يهتم أكثر ما يهتم بالعلاقات الإنسانية، وبرصد ردود فعل البشر على ما يمر بهم من مواقف.
ومن هنا كان مسرحه في الدرجة الأولى مسرح مواقف. ولما كان الناس من طبقات متشابهة، يتشابهون، في أخلاقهم وفي سلوكهم إزاء ما يحدث لهم (الحب، الغيرة، الصدمات العاطفية، المسالك الاجتماعية) كان من الطبيعي أن يكون بما يرصده مسرحه استجابة تتشابه لدى جميع الناس.
جورج فيدو الذي رحل عام 1921 عن عمر لا يتجاوز التاسعة والخمسين، ولد عام 1862 في باريس لأب كان بدوره روائياً وكاتباً معروفاً. غير أن جورج فيدو لم يستفد من مكانة أبيه، ولا من مواهبه لأن الأب مات والفتى لا يزال في الحادية عشرة من عمره. وكذلك لم يستفد جورج من أي دراسة جدية، إذ إنه ترك الدراسة باكراً وانصرف للكتابة، دون أن يحقق أي نجاحات حقيقية في أول الأمر.
معدم على الرغم من نجاحاته
منذ سنوات مراهقته بدأ فيدو يجرب حظه في كتابة المسرح معتمداً على تشجيع لابيش المبكر له. غير أن تقديم مسرح "الاتينيه" الباريسي لمسرحيتين من كتابه في عام 1883، مرّ مرور الكرام ولم يلفت نظر أحد. وفي عام 1887 كان جورج قد أضحى في الخامسة والعشرين، وسجل نجاحه الأول عبر مسرحية "خياط السيدات" التي قدمت في مسرح النهضة. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف فيدو عن الكتابة، وراحت الفرق المسرحية تطالبه بالمزيد فكتب وكتب ما معدله مسرحية في العام، وراحت أعماله تشتهر وتقدم عشرات المرات، ليصبح خلال سنوات قليلة الطفل المدلل للمسرح الفرنسي، وراح النقاد ينهالون عليه تقريظاً وإعجاباً.
صحيح أن جورج فيدو بقي على الرغم من ذلك كله شبه معدم، لا تكاد كتاباته المسرحية تقوم بأوده، غير أن ذلك لم يمنعه من أن يزيد مسرحه بريقاً وبهجة وحياة.
بشكل عام عرف فيدو بكونه راصداً جيداً لحركة المجتمع الفرنسي قبيل الحرب العالمية الأولى، أي المرحلة التي عبر عنها في أعمال مليئة بالمواقف الطريفة والحرجة، التي تنمو وتتفاعل فيها شخصيات تباغتها الأحداث، في مسرحيات مثل "السيدة من عند مكسيم" على وجه الخصوص.
ولكن أيضاً في أعمال لن تقل عنها شهرة مثل "خيط في القدم" و"الوزة" و"البقة في الأذن" و"خللي بالك من إميلي" التي لا شك أنها كانت الأساس الذي بنت عليه السينما المصرية واحداً من أشهر أفلامها: "خللي بالك من زوزو". كما في أعمال أقل شهرة مثل "المرحومة أم السيدة" و"إياك أن تتمشي عارية"، وكلها أعمال صاغها جورج فيدو "كما يصنع الجوهرجي الساعات الثمينة" بحسب تعبير أحد النقاد.
عرف جورج فيدو كيف يقدم صورة حية وصادقة للبورجوازية الفرنسية الصغيرة التي برزت بأخلاقياتها الغربية وترددها ومخاوفها، خلال المرحلة التي فصلت بين زمن "الكومونة" واندلاع الحرب العالمية الأولى. وهو حقق في هذا أكبر نجاحاته، النجاحات التي رصدها العالم كله واستعادها ولا يزال يفعل حتى الآن.