فجّر القانون الجديد حول "الحريات الشاملة" في فرنسا الذي أقرّه البرلمان قبل أسبوع تقريباً، أزمة سياسية استفزت الرأي العام واستنفرت المعارضة، كما امتدت تداعياتها إلى داخل صف الغالبية الحاكمة.
ووضع هذا القانون بناء على رغبة وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، في حماية عناصر القوى الأمنية من الاستهداف عن طريق نشر تسجيلات فيديو وصور تسيء لهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
البند 24
ومن حق دارمانان حماية عناصر الأجهزة التابعة لوزارته، خصوصاً أنهم مستهدفين فعلاً، تارة عبر اعتداءات إرهابية وتارة أخرى عبر هجمات انتقامية تُشنّ ضدهم إثر فورات غضب تشهدها ضواحي المدن الفرنسية وتؤدي إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوفهم. لكن هذا القانون، تحديداً البند 24 منه، أثار حفيظة جزء من الرأي العام والإعلام الفرنسيَين وتلقّفته المعارضة لتنهال على الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته بالنقد، ما دفع عشرات آلاف الفرنسيين إلى الشوارع في مدن عدة للتنديد به والمطالبة بالعودة عنه.
وينص البند 24 من قانون "الحريات الشاملة" على عقوبة السجن لمدة عام ودفع غرامة قدرها 45 ألف يورو لمَن ينشر صوراً تظهر وجوه رجال الأمن أثناء أدائهم لعملهم من منطلق سوء النية. إلا أن الغموض الذي يكتنف مضمون البند المذكور، نظراً إلى عدم توفّر معايير لتحديد وجود "سوء نية" من عدمه، انعكس بشكل بالغ السلبية على الفرنسيين الذين يضعون دائماً مسألة صيانة الحريات العامة في طليعة اهتماماتهم.
أما الإعلام، فوجد في ذلك البند تضييقاً على حرية العمل الصحافي كونه يلزم الإعلاميين بتمويه وجوه رجال الأمن قبل بث صورهم، فيما وجدت فيه المعارضة المشرذمة فرصة للظهور على مسرح الأحداث السياسية في البلاد.
الوقت غير مناسب
إضافة إلى ذلك، أتى طرح هذا القانون في وقت غير مناسب، إذ تزامن مع حالة تذمّر يعيشها الفرنسيون بسبب إجراءات الحجر الناجمة عن جائحة كورونا وما يواكبها من ضائقة اجتماعية واقتصادية وقلق على المستقبل الوظيفي ومستقبل الحياة عموماً.
ومن هذا المنطلق شكّل هذا القانون المثير للجدل، ما يشبه المحرّض على تفجير النقمة الكامنة لدى الفرنسيين، ودفعهم إلى التعبير عن غضبهم حياله، خصوصاً بعدما تزامن مع نشر صور قاسية لعملية إخلاء عنيفة نفذتها الشرطة لتجمّع مهاجرين غير شرعيين في إحدى الساحات الباريسية.
وتبع هذه الحادثة، نشر صور لواقعة أخرى مروّعة لرجال أمن ينهالون بالضرب على شخص تبيّن أنه منتج موسيقي يدعى ميشال زكلير، ما أدى إلى إصابته بجروح بالغة، وذلك خلال عملية التدقيق في هويته.
وجوبهت هذه الصور بحملة تنديد شاملة، ألزمت ماكرون نفسه على الإدلاء بردّ فعل، وحملته على وصف ما تعرّض له زكلير بـ"الأمر غير المقبول"، ودعوة الحكومة إلى تقديم اقتراحات تعيد نسج الثقة بين الفرنسيين ورجال الأمن المكلفين بحمايتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"تورية العنف"
وكان بديهيّاً أن ينتج من الصدمة التي أثارتها هذه الصور المتعاقبة شعور مفاده بأن وزير الداخلية دارمانان لا يسعى من خلال قانون "الحريات الشاملة" إلى حماية رجال الأمن من الاستهداف، بقدر ما يسعى إلى تورية العنف المفرط الذي يعتمدونه أحياناً وتماديهم في ممارسة صلاحياتهم.
وعلى الرغم من إحالة أفراد الأمن الذين تعرّضوا لزكلير وأيضاً الذين أخلوا تجمّع المهاجرين غير الشرعيين، إلى التحقيق والتلويح باتخاذ إجراءات عقابية بحقهم، لا يزال دارمانان عرضة لحملة تطالب باستقالته وبسحب القانون الذي طرحه وتسليط الضوء كاملاً على التجاوزات التي تُقدم عليها أحياناً العناصر الأمنية.
وتبدو الحكومة الفرنسية اليوم في مواجهة أزمة سياسية جديدة تضاف إلى الأزمات المتعددة التي يتعيّن عليها التعامل معها لكن الخطير في الأمر هو أن هذه الأزمة لم توفّر كتلة نواب الغالبية الموالية لماكرون.
محاولة إيجاد مخرج
وبالعودة إلى جلسة الاقتراع على البند 24، اتضح أن عدد نواب الغالبية الذين صوّتوا لصالحه يقتصر على 103 نواب من أصل 271 نائباً يشكّلون الكتلة البرلمانية لحزب "الجمهورية إلى الأمام" الحاكم، ما يعبّر عن عمق المعضلة القائمة.
وفيما يدافع نواب الغالبية عن القانون، لا ينفك معارضوه عن انتقاده علناً. وحاول رئيس الحكومة جان كاستيكس إيجاد مخرج ينهي الانقسام القائم، مقترحاً في هذا الإطار تشكيل لجنة تعيد صياغة البند 24 المثير للجدل، لكن مبادرته لقيت اعتراضات من جانب مؤيدي القانون
الذين رأوا أن ذلك سيؤدي إلى الانتقاص من هيبة النواب والبرلمان الذي صادق على هذا البند.
ويرتدّ هذا الاضطراب والانقسام في صفوف الغالبية سلباً بالطبع على دارمانان، الذي أظهر عبر طرحه القانون بشكل وُصِف بـ"المتسرّع"، عن سوء تقدير تام لدقّة الوضع في البلاد وقراءة خاطئة لمزاج الفرنسيين الذين يعتبرون أصلاً إجراءات الحجر المترتبة على وباء كورونا، تقييداً لحريتهم.
كما أن الاضطرابات في الشارع، ترتدّ سلباً على ماكرون نفسه في الساحة الداخلية وسط أوضاع تلزمه العمل على استرضاء الفرنسيين عبر إجراءات مالية تفاقم مديونية البلاد بشكل بالغ، وأيضاً في الساحة الدولية حيث يعرف أن الرئيس الفرنسي مثله مثل أسلافه، لا يوفّر أي مناسبة في لقاءاته مع نظرائه الأجانب للتأكيد على احترام حقوق الإنسان.
الواضح حالياً هو أن المخرج من هذه الأزمة ليس في متناول اليد اليوم، وقد يكون مرتبطاً بما يقرره ماكرون بهذا الصدد، إلا إذا كان الرهان قائماً كما يتردد، على المجلس الدستوري المخوّل الاعتراض على البند 24 وردّه.