يرتبط الجزائريون بتاريخ طويل مع رحلة علاج رؤسائهم في الخارج، يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، بداية من الرئيس الراحل هواري بومدين (روسيا)، مروراً بالشاذلي بن جديد (بلجيكا)، وصولاً إلى عبد العزيز بوتفليقة (فرنسا وسويسرا)، قبل أن يمتد إلى الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، الموجود بألمانيا؛ إذ خلف غيابه جملة من التساؤلات عن وضعه الصحي في ظل شح المعلومات الرسمية.
ومنذ مغادرة تبون أرض الوطن نهاية أكتوبر (تشرين الأول)، يتجنب الإعلام الجزائري فتح نقاشات، أو وضع قراءات سياسية لصحة الرئيس، مكتفياً بالبيانات الرسمية التي تصدرها الرئاسة لتطمين الرأي العام، وهي في الغالب عبارة عن ردة فعل عن إشاعات تنتشر بين أوساط المجتمع، تروج لسيناريوهات وتكهنات عديدة، منها ما يتحدث عن "وجود صراع في أعلى هرم السلطة حول تسيير المرحلة".
وإن لم تصدر تعليمات رسمية إلى وسائل الإعلام بعدم تناول هذا "الموضوع الحساس"، فإن القنوات والصحف المكتوبة والإلكترونية، تدرك أن مرض الرئيس "خط أحمر"، إذ يكفي الاستناد إلى التجربة المريرة التي عايشها الجزائريون خلال السنوات الست الأخيرة من فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عندما تعرض لوعكة صحية عام 2013، غيبته عن المشهد وعن أداء مهامه الدستورية، من دون أن يجرؤ أحد عن التكلم عنها، قبل أن ينهي هذا الوضع حراك 22 فبراير (شباط) 2019، في حركة احتجاجية عارمة بعدما نوى بوتفليقة الترشح لولاية خامسة.
ومع استمرار وجود تبون في ألمانيا، يتساءل جزائريون عن تاريخ عودته، بينما تبدو الأحزاب فاقدة البوصلة، إذ يجزم متابعون للشأن السياسي بأن جل التشكيلات الحزبية حتى تلك التي تدعي قربها من القصر الرئاسي، وصناع القرار المدنيين والعسكريين، لا تملك معلومات وافية، وتترقب مثلها مثل بقية الشارع البيانات الرسمية، لأن السلطة تتعامل مع موضوع صحة الرئيس من باب "السرية الطبية"، ومن هذا المنطلق ترى أنه ليس بالضرورة أن يعرف الرأي العام كل تفاصيل الرحلة العلاجية.
التعتيم والانفتاح الخاطئ
يرجع الباحث الجزائري، عادل أورابح، التكتم المحاط حول صحة الرؤساء الجزائريين إلى "طبيعة النظام الجزائري منذ نشأته، فهو نظام قائم على السرية والتعتيم، وحتى حين يحاول أن ينفتح اتصالياً يفعل ذلك بشكل خاطئ يزيد من درجة الإبهام، ومن الطبيعي أن يشمل ذلك من يشغل هرم الدولة، أي الرئيس".
ويلفت أورابح إلى أن "حالة الرئيس السابق بوتفليقة مرجعية بالنظر إلى أنها تحيلنا إلى فشل مؤسسات رقابية أخرى في القيام بدورها، مثل المجلس الدستوري، وبالتالي يفضل من بيدهم القرار اللجوء إلى الحل الأسهل نظرياً، وهو السرية والتعتيم، على الرغم من أن ذلك يؤدي عملياً إلى مزيد من تفكك الدولة وفقدان الشرعية".
الإعلام الدولي البوصلة
في الوقت الذي تغيب فيه الأخبار محلياً، بات مرض الرئيس الجزائري مادة دسمة للإعلام الدولي، خصوصاً الفرنسي منه، نظراً إلى العلاقات التاريخية والاقتصادية بين البلدين، إذ تهتم الصحف الفرنسية على عادتها بهذا "الغياب"، وتطرح تساؤلات عن شح المعلومة من المؤسسة الرسمية المتمثلة في الرئاسة، وكذلك انقطاع الحبل بين الإعلام الداخلي الجزائري ومكتب الاتصال في الرئاسة الجزائرية.
وفي الآونة الأخيرة تطرقت عدة تقارير فرنسية إلى الوضع الصحي لتبون، منها صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، من خلال روبورتاج حمل عنوان "الجزائر بعجلات حرة دون رئيس"، تحدثت فيه عما وصفته بـ"حالة القلق التي تسكن الشارع الجزائري، على خلفية مرض الرئيس عبد المجيد تبون، ومخاوفهم من العودة إلى فراغ السلطة في أثناء فترة الرئيس السابق بوتفليقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضحت الصحيفة، أن "هذا التخبط يظهر في التسريبات التي تنقلها وسائل إعلام ثم يظهر صحتها لاحقاً عبر البيانات الرسمية التي تصدرها رئاسة الجمهورية"، مع العلم أن "لوفيغارو" أول صحيفة خصها الرئيس الجزائري بحديث عقب تسلمه السلطة في ديسمبر (كانون الأول) 2019.
وتفاجأ الجزائريون بعدها بتصريحات على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في حوار مع مجلة "جون أفريك"، قال فيه إنه سيفعل "كل ما أمكن" من أجل مساعدة الرئيس تبون "الشجاع"، بهدف "إنجاح العملية الانتقالية" في الجزائر. وأضاف في المقابلة المطولة التي نشرت الجمعة أن "أفريقيا لا يمكنها النجاح ما لم تنجح الجزائر".
وأثارت تصريحات ماكرون ردود فعل سياسية، أولها صدر على لسان محسن بلعباس رئيس "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، الذي اتهم في منشور على صفحته الرسمية "فيسبوك"، الرئيس الفرنسي بالتدخل في الشأن الجزائري، وذهب إلى حد القول إنه "هو من يدير خريطة الطريق في الجزائر".
جانب غير مقبول
على الجهة المقابلة، يذكر المحلل السياسي محمد سي البشير، أنه "حتى في البلدان الغربية تبقى صحة الرؤساء من الأسرار الطبية، وكمثال على ذلك الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران الذي صعد للرئاسة عام 1981، واستمر في حكمه إلى 1995 دون أن يعلم أحد بذلك، حتى كشفت وسائل الإعلام الفرنسية النقاب عن مرضه".
ويضيف "الجانب المتعلق بالسر الطبي الخاص بصحة الرئيس مقبول، لكن الأمر غير المقبول هو التعامل الغامض والضبابي في تسيير الشؤون السياسية، خصوصاً مؤسسة الرئاسة، لأن الجميع يبحث عن إجابات حول صحة الرئيس وآخر التطورات".
ورداً عما يثار حول تخوفات من انسداد سياسي في حال طول مدة مكوث الرئيس عبد المجيد تبون خارج البلاد، يعتقد محمد سي البشير، أن "الساحة السياسية في الأصل تعاني تصحراً منذ توقف المسار الانتخابي في يناير (كانون الثاني) 1993، وازداد الوضع سوءاً في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عندما اختزل الممارسة السياسية في شخصه وأحزاب التحالف الرئاسي". ويضيف "عند اندلاع الحراك حاولت بعض الأحزاب التموقع، لكنها فشلت في ذلك حتى الآن".
وفي ظل هذه المستجدات، يبقى ملف صحة رئيس الجمهورية، من أكثر الأمور التي تشغل الرأي العام الجزائري في الوقت الراهن، لا سيما أن وجود تبون خارج البلاد تزامن مع عدة قرارات تنتظر التوقيع عليها، منها تعديل الدستور الذي جرى في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، وكذلك قانون المالية (الموازنة) للعام 2021، المصوت عليه من طرف البرلمان الجزائري قبل أيام.