كان معروفاً منذ سنوات أن المخرج كوينتن تارانتينو سيحقق يوماً فيلماً عن الجريمة الجماعية التي حدثت في هوليوود عام 1969، وأدت إلى مقتل النجمة شارون تيت، زوجة المخرج رومان بولانسكي، وعدد من أصدقائها في دارتها الهوليوودية على يد عصابة طقوسية ستعرف باسم زعيمها تشارلز مانسون. مثل هذه الجريمة الرهيبة، التي زاد من همجيتها كون شارون حاملاً، ما كان في إمكانها طبعاً أن تفلت من كاميرا تارانتينو. ومن هنا، انتظر كثر بلهفة تحقيقه قبل عامين ونيّف فيلمه الأخير حتى ذلك الحين "حدث ذات مرة في هوليوود"، وهم واثقون من أن الجريمة ستكون موضوع الفيلم، وهو أمر عززته تصريحات صحافية ومقالات متفرقة وتسريبات.
خيبات الوهلة الأولى
في نهاية الأمر حين أنجز تارانتينو فيلمه وعرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، استمتع المشاهدون بما لا يقلّ عن ساعتين سينمائيتين مدهشتين، لكنهم ذهلوا في النهاية، إذ بعد تمهيد للجريمة شغل مدة عرضه منذ لقطاته الأولى، توقّف الفيلم عند باب دارة النجمة قبل دقائق من حدوث الجريمة وانتهى على جار متخيّل لها وهو يدخل بيتها ضيفاً طارئاً ليصبح في الأخبار الحقيقية وليس في الفيلم، ذلك القتيل الإضافي الذي "أكمل العدد"، رافعاً عدد ضحايا الجريمة.
كعادته إذاً، فاجأ تارانتينو متفرجيه، لكنه لم يغيّر سياق التاريخ هنا كما فعل مثلاً في "أوغاد سيئو السمعة"، فرتّب مؤامرة ناجحة لاغتيال هتلر ومعاونيه النازيين في صالة سينما فرنسية. كل ما في الأمر أنه في الفيلم الجديد، استنكف عن تصوير الجريمة التي حدثت فعلاً، تاركاً لمخيّلة مشاهديه أن تربط الجريمة بمرتكبيها وليس بضحاياها.
ونعرف أن الفيلم قد سحر كثراً وأضاف إلى رصيد تارانتينو عملاً آخر مبهراً يضاف إلى لائحة إنجازاته التي يختلط فيها عادة الواقع التاريخي بالخيال المحض، والمناخ المرح بأقصى درجات العنف، والصدف المبتكرة بالأحداث المدوّنة تاريخياً، ناهيك عن اختلاط المواقف المضادة للعنصرية في سياق أفلامه، بإدانته لكل أنواع الكراهية بين الشعوب وفي طريقه للحظات مفصلية في التاريخ الأميركي وربما التاريخ العالمي أيضاً. والحقيقة أننا إذ نقول هذا، نفكر بأفلام مميّزة لتارانتينو كـ"ثمانية أوغاد" و"دجانغو طليقاً" وطبعاً، مرة أخرى تحفته التي لا تنسى "أوغاد سيئو السمعة".
في مواجهة تاريخ هوليوود
من هنا، إذا كان الاهتمام قد بدا كبيراً بـ"حدث ذات مرة في هوليوود"، بحيث جابه المخرج السينما وتاريخها مباشرة وبإقدام لا يخلو من جرأة، ولكن ليس كما كان متوقعاً، من خلال الحكاية التي كان يمكن أن تكون رئيسة لدى غيره، حكاية شارون ستون، وإنما من خلال حكايات متعددة تدور حول تلك الجريمة وتستبقها، ولكن كذلك من حول نجم هوليوودي ليوناردو دي كابريو وبديله براد بيت. ومع هذا، لا يبتعد سياق الفيلم كثيراً عن الجريمة الأساسية المرتبطة بحياة شارون تيت ونجوميتها ومأساتها. فتارانتينو ما كان في إمكانه أن يخيّب إلى هذه الدرجة توقعات جمهور عريض لا يستطيع أن ينسى الجريمة على الرغم من مرور نصف قرن على اقترافها.
ففي تاريخ السينما الأميركية كلها طوال القرن العشرين، كان موت النجوم على الدوام يثير الجماهير العريضة ويؤثر فيها. ولكن ثلاث ميتات لثلاثة نجوم تمكّنت على مدى ذلك التاريخ من الوصول بحجم التأثر إلى درجات لم يسبق لها مثيل: موت جيمس دين في حادث سيارة، وموت مارلين مونرو انتحاراً، وأخيراً مقتل شارون تيت.
والحقيقة أن شارون تيت لم تكن، فنياً أو من ناحية الشهرة وارتباط الجمهور بها، من طينة جيمس دين أو مارلين مونرو. بل كانت لا تزال تعتبر يوم رحيلها المفجع، مجرد نجمة ناشئة تجتاز أولى خطوات المجد تحت إشراف ورعاية زوج كان يعتبر في ذلك الحين من أكثر المخرجين الشباب وعداً في تاريخ السينما العالمية، هو الآتي منشقّاً عن وطنه الأصلي بولندا ليغزو هوليوود، ونعني به، بالطبع، رومان بولانسكي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذاً، إن كانت شارون تيت تقلّ في نجوميتها كثيراً عن مارلين مونرو كما عن جيمس دين، لماذا تراها برحيلها أثارت كل ذلك الاهتمام الشعبي؟ بل لنقل بالأحرى، لماذا أثارت ذلك الرعب الذي أثارته بين أوساط الجمهور، وكذلك في أوساط هوليوود وعالم النجوم ذاتها؟
بكل بساطة لأنها قتلت بطريقة مرعبة واستثنائية. قتلت بطريقة عبّرت عنها الصحافة يومها من خلال خبر في سطور عدة منذ اليوم الأول لاكتشاف جثتها: "الفاتنة شارون تيت، زوجة المخرج رومان بولانسكي وبطلة فيلمه حفلة الغيلان وجدت مقتولة بطريقة وحشية، مع أربع ضحايا آخرين في فيلا فخمة كان رومان بولانسكي قد استأجرها في حي بلير الفاخر".
ضحايا بالجملة
هكذا لم تقتل شارون تيت وحدها يومذاك، بل قتلت مع أربعة آخرين هم جاي سيبرنغ وأبيغابل فولغر، البالغان من العمر 26 سنة لكل منهما، ويوتيك فريكوفسكي، ذو الأصل البولوني وستيفن إيرل بارنت، 18 سنة، إضافة إلى "الجار"، الذي يبدو أنه أثار اهتمام تارانتينو في استعادته بدايات الحكاية أكثر من الضحايا الباقين.
ولقد تبيّن أن كل الجثث تحمل آثار طلقات نارية وضربات خناجر، ما يكشف عن عنف القاتل، أو القتلة، وهو عنف ركّز عليه تارانتينو على أي حال في فيلمه، مستبقاً الجريمة الكبرى نفسها. أما اكتشاف الشرطة لكون الكهرباء والهاتف قد قطعا عن الفيلا، فكان يعني أن الجناة قد رتّبوا جريمتهم بشكل مسبق، وأن ليس ثمة أي قسط من العفوية في الأمر. وشارون تيت نفسها، كانت نصف عارية تقبع قرب حبل بلاستيكي وقد غطّي وجهها بقناع. والأدهى من هذا أن تلك الفاتنة الهوليوودية كانت يومها حاملاً في الشهر الثامن.
ولفت أنظار المحققين يومها أن الجناة قد كتبوا على باب الفيلا كلمة "خنازير" بدم الضحايا. وهذا ما دفع إلى الاستنتاج منذ البداية بأن الجريمة جريمة طقوسية وقع هؤلاء الناس ضحيتها. وبدأت الشكوك تحوم حول عدد من متشرّدي الجوار، بعدما قبضت الشرطة أولاً على حارس الفيلا الشاب ويليام غارستون.
بعد ذلك بفترة، راحت تفاصيل الجريمة تتكشف تباعاً، وتبيّن أن الجاني يدعى تشارلز مانسون، قام بفعلته بمساعدة ثلاثة من أنصاره هم أعضاء في "طائفة شيطانية" أسسها وتولّى زعامتها مطلقاً على نفسه اسم "الشيطان". وكان الثلاثة الآخرون، الذين اعتبروا مثله شركاء في الجريمة: باتريشيا كريفنكل ولسلي فان هوتن وسوزان أتكنز. واتضح أن الأربعة، أي الزعيم مانسون ومساعداته الثلاث، كانوا يراقبون فيلا شارون تيت منذ زمن وقرروا قتلها وقتل ضيوفها لأن هؤلاء، في عرف جماعة مانسون، كانوا فاسقين يستحقون القتل.
وكان هذا ما أرعب أميركا كلها يومها، إذ للمرة الأولى راح الناس يتحدثون عن تلك الطوائف والجماعات الصغيرة التي لئن كان بعضها يكتفي بالتعبّد وممارسة طقوس غريبة من دون أن يؤذي الآخرين، فإن الآخر بدأ يكشّر عن أنيابه ويفرض حضوره في الحياة الاجتماعية، مسنداً إلى نفسه دور يد العدالة التي تعاقب من لا يروقها.
القاتل أهم من ضحاياه
إذاً، لم تكن ثورة ورعب الناس بسبب شخصية القتيلة على الرغم من حبهم لها كنجمة صاعدة، بل بسبب شخصية القاتل ورفيقاته. صحيح أن الأربعة قد حوكموا وحكم عليهم بالإعدام في الأول من أبريل (نيسان) 1967، غير أن إعدامهم لم يضع بالطبع حدّاً لتفاقم ذلك النوع من الظواهر في أميركا وخارجها. ولئن اعتبر تشارلز مانسون منذ ذلك الحين رمزاً لانحراف وضلال يهيمنان على المجتمع الأميركي كله، فإنه كان في الوقت ذاته المؤشر الأول إلى ما ستعرفه الولايات المتحدة لاحقاً، وبلغ ذروته في الأعوام الأخيرة عبر حادثة أوكلاهوما، التي اقترفتها طائفة متطرفة أميركية، تبدو ممارسات مانسون وجماعته إزاءها كلعبة أطفال.
صحيح أن هذا الجزء الأخير من الحكاية لم يهمّ تارانتينو كثيراً، ولكن من الواضح أنه جعل من فيلمه انطلاقة مثلى للتفكير فيه واستعادته من قبل جمهور كان من الواضح أن العقود الخمسة التي انقضت على الجريمة لم تنسِه إياها ولا أنسته تفاصيلها التي وجد تارانتينو أنه لا يحتاج إلى تصويرها.