بين مدّ وجزر تراوحت العلاقات العراقية السعودية، نتيجة عوامل كثيرة في غالبيتها خارجية، وتماس مصيري يتطلب الحذر بحكم المشاركة في الإقليم وتداخل المصالح في بيئة متقاربة حدّ الاندماج العشائري والقبلي والتنوع الحضري والشراكة الطويلة بين البلدين، تجمعهما وحدة الأصل، وتفرّقهما بعض المواقف السياسية الطارئة.
علاقات ومصالح تاريخية بين البلدين
بين توخّي الحكمة والتريّث الحذر في اتخاذ القرار السعودي، والآمال العراقية الممتدة إلى قبائل واحدة، شاءت الظروف المتنوعة تفريقهما على ضفتي أرض الجزيرة العربية وأرض السواد الممتدة طبيعياً نحو البحر جهة البصرة ومدينة الزبير التي تجول بينهما القبائل في تماس وتفاعل تاريخي مستمر.
وطريق طويل موغل في القدم يربط بغداد بمكّة اسمه "درب زبيدة"، عبّده الخليفة هارون الرشيد وسمّاه باسم زوجته الأثيرة السيدة زبيدة التي كانت تحظى بتقدير كبير في الثقافة العراقية والعربية، حين كانت السيدة الأولى التي يخاطب زوجها الرشيد الغيمة "أينما تكوني، فإن خراجك لي"، كناية عن سعة الإمبراطورية العباسية وعاصمتها بغداد. والرشيد حجازي الأصل قرشي النسب، حكمت دولته العباسية العراق وأمصاره أربعة قرون، فالمسافة تبقى صفراً بين أهل مكة، الأدرى بشعابها، والعراق الذي توزعت قبائل الجزريين العرب نحوه لتبني أهم حاضرتين فيه، البصرة والكوفة، وتوطّن العرب هناك، وانطلقوا من مثابة العراق لينشروا الدين الحنيف وأسسوا لتجارتهم مع الشرق، ومعظم قادتهم قريشيون وعرب من ثقيف وتميم وخزاعة والمناذرة وسواهم، ممن كانوا طلائع الفتح في عصور الفتوحات.
تنشيط الدورة الاقتصادية بين البلدين ضرورة
وحين تعاد اليوم دورة تنشيط العلاقات السعودية العراقية، فإن الأمر غير مستغرب، بل المستغرب أن تتلكّأ تلك الوشائج بين "شعب واحد في بلدين"، كما يحلو وصف العلاقة لمعظم العرب العراقيين، الذين تظل عيونهم مشرئبّة على أهلهم الذين تفاعلوا معهم في محن شتى، والتقارب الأخير، فتح ملفات كثيرة تضمنها البيان المشترك الذي أنتجه الاجتماع المرئي بين الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي عهد المملكة ورئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الذي جرى فيه استعراض أعمال الدورة الرابعة لمجلس التنسيق السعودي العراقي، لتفعيل مذكرات التفاهم المتعددة التي تهدف إلى وضع أطر عملية للتعاون والتفاهم بين البلدين الشقيقين، تكفل عملاً مشتركاً مجدياً لهما، لا سيما أن العراق أحوج ما يكون إلى إعادة شاملة لاقتصاده المدمر بالحروب والحصارات التي شهدها خلال السنوات الأخيرة، وهو يلمس بثقة يد تمتدّ إليه لإعادة نمو اقتصاده بمشاريع مثمرة في مجالات الطاقة والصناعات التحويلية التي بدأت بها بغداد في السبعينيات لكنها هُدّمت في الحروب الثلاث منذ عام 1980، سنوات الحرب مع إيران، فغزو الكويت وانسحاب الجيش إلى القصف الأميركي الذي أثّر بشكل كبير في مرتكزاته الصناعية والعلمية في آن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكذلك الاهتمام في المشتركات السياسية والأمنية والعسكرية التي تشكل تحدياً كبيراً للبلدين لا سيما بعد حقبة "داعش" وتهديده المستمر لأمن المنطقة عموماً، وتوالد عناصره بدفع إقليمي ودولي معروفين، فقد حظي هذا الملف باهتمام القيادتين وتفهّمهما للمخاطر المشتركة التي تتطلب مزيداً من آليات التعاون وفتح خطوط المعرفة المشتركة للتحديات وتفعيل الخطوط الخضراء عند الضرورة، كي يكسب البلدان الوقت والمعلومات عن تحرّك الإرهاب وضرورة تجفيف منابعه. كما جرى التركيز على تفعيل العمل الثقافي المشترك وردم الهوة التي أوجدتها ظروف القطيعة القسرية منذ التسعينيات حتى الآن، وهناك عدد من الاتفاقات التي وقّعت في مجالات مهمّة جداً للاستثمار السعودي في العراق.
منفذ عرعر بوابة السلام للبلدين
ويأتي تشغيل معبر عرعر الحدودي المرتقب بين البلدين الذي يربط شمال المملكة بالمنطقة الغربية من العراق خطوة عملية مهمة في تنشيط الحركة الاقتصادية بين الجانبين، مع تدشين وبدء أعمال الملحقية التجارية السعودية، الذي يسهّل فاعلية المنفذ، لا سيما أنه يقع على بعد 50 كيلومتراً شمال مدينة عرعر السعودية وجنوب غربي مدينة النخيب العراقية القريبة من كربلاء والأنبار. وهذا الخط يفتتح بعد قطيعة حوالى 30 عاماً، إذ أُغلق بعد غزو الكويت، ويُفتح استثناء في مواسم الحج من كل عام ولفترة معلومة. ومنذ إغلاقه، لم يكن هناك أي معبر سواه حتى أغسطس (آب) من عام 2017، عندما استخدم الممرّ لضرورات انتقال الحجاج والتبادل التجاري الخجول وقتها، لكنه يشهد انطلاقة جديدة منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 بتوسيعه ومدياته اللوجستية، ليضم مشاريع خدمية بارزة تمتد على مساحة مليون و660 متراً مربعاً. والمشروع بمثابة البوابة الاقتصادية للجزء الشمالي من المملكة التي تربطها عبر العراق بقارتي أوروبا وآسيا مستقبلاً، إضافة الى فرصة تشغيله على مدار السنة لاستقبال رحلات الحج والعمرة وتسهيل استقبال الحجاج الوافدين من قارة آسيا عبر منفذ عرعر البري. وقد أبدى الكاظمي ارتياحه لهذه التفاهمات "التاريخية" مع السعودية، إذ اعتبر أنها ستفضي إلى تطوير قطاعات مختلفة في مقدمتها الأمن والاقتصاد. وأكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من جهته أن "بين العراق والمملكة روابط قوية"، وصفها بـ"العميقة" وأنهما "متجاوران ولديهما مصالح مشتركة"، وأعرب عن سعادته لتطوير العمل مع بغداد.
ويرى العراقيون أن ولي العهد السعودي مهندس مشروع تعزيز الروابط بين البلدين بوتائر ومديات جريئة واستثنائية، مكّنت من تسريع عملية التقارب الثنائي، الذي يدرك العراقيون أن فيه خدمة لمصالحهم الحيوية وحلولاً سريعة لأزماتهم، إضافة إلى أنه ضرورة لحياتهم واقتصادهم، في مواجهة ما وصفه الكاظمي خلال جلسة لمجلس الوزراء أعقبت التواصل مع السعوديين، بـ"حملات تشكيك في أي تقارب بين العراق والدول الأخرى"، مشيراً إلى مواجهة شائعات وتنمّر قوى موالية لإيران تستهدف تعطيل أي تفاهم عراقي مع أشقائه العرب.
هدية الملك
من جهته، استبشر الوسط الرياضي العراقي بتبرّع الملك سلمان بن عبد العزيز، ببناء ملعب رياضي في البلاد، حيث هناك اتفاق جارٍ على وضع الأسس للبدء بالمشروع، الذي يأتي إنقاذاً للوسط الرياضي، خصوصاً أنه لم يرَ ملعباً جديداً منذ إنشاء ملعب الشعب الدولي عام 1966 الذي لم يعُد يستوعب التطورات العالمية كملعب دولي. ويلبّي هذا المشروع حاجة عراقية ملحّة، لكن الأهم في اتفاق البلدين، هو عزم المملكة العربية السعودية على إنجاز مشروع رائد لاستزراع مليون هكتار من الأراضي العراقية بهدف تحويلها إلى حقول ومزارع لتربية الأبقار والماشية والدواجن، سيكون بمثابة أكبر مشروع استثماري لإحياء الأراضي الزراعية. واختيرت باديتا الأنبار والمثنى القريبتان من الحدود السعودية، موقعاً لتنفيذ المشروع الحيوي، الذي من شأنه أن يعيد البلاد إلى مصاف الدول الزراعية وسيقود إلى الاكتفاء الذاتي والتصدير إلى العالم برؤوس أموال وخبرات نجحت في زراعة مناطق صحراوية وحوّلتها إلى جنان، قال عنها السفير السعودي في العراق عبد العزيز الشمري، "الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني دخلت في مفاوضات للاستثمار في محافظتي الأنبار والمثنى لإنشاء مصانع غذائية عملاقة ستوفّر 30 ألف فرصة عمل في كل محافظة وأن جزءًا من إنتاجها سيتّجه إلى السوق المحلية ويذهب الباقي إلى التصدير".
قوى ولائية تسعى إلى إيقاف زراعة الصحراء العراقية
لكن هذا المشروع الحيوي الذي يترقّبه العراقيون بشغف، ووجه بعاصفة من الرفض من قوى الإسلام السياسي الشيعي والجهات الموالية لإيران التي وجدت فيه مسعى للتغلغل السياسي في البلاد، فقد لفت حسن الكعبي، رئيس كتلة الفتح الموالية لطهران إلى أن تحالفه "يرفض إعطاء بادية السماوة إلى الاستثمار والاستفادة من المياه الجوفية، فإذا نقصت تلك المياه ستختلّ الطبقة الأرضية وسنعاني من قلة المياه ومعدلات كيماوية كثيرة ستحصل"، من دون أن يحدّد ما هي.
كما دعا ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي إلى إيقاف مشروع منح السعودية أراضٍ للاستثمار في بادية العراق، مطالباً العشائر برفضه.
كما لم يوافق قيس الخزعلي، الأمين العام لـ"عصائب أهل الحق" على المشروع، محذراً من أنه "ينطوي على تهديدات أمنية خطيرة للغاية".
وعلى الرغم من هذا الرفض الذي تتبناه ما تُسمّى بـ"القوى الولائية"، فإن بغداد ماضية في تنفيذه مع ارتياح واضح من الشارع العراقي الذي انتظر مشروعاً جدّياً للاستثمار، وها هو يتحقق وليس مجرد كلام أو مشاريع وهمية أفلست موازنة البلاد من دون جدوى.
وكما يُقال، فإن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة، إذ يؤكد كثيرون من المراقبين والاقتصاديين أن المملكة تقدّم عوناً حقيقياً ونوعياً إلى العراق بمشاريع عملية، على الرغم من ممانعة قوى "الأحزاب الولائية" ويعتبرون أن هذه الأخيرة تقف حجر عثرة في طريق الاستثمار الحقيقي، الذي خطت نحوه حكومة مصطفى الكاظمي.