Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حيثيات صينية في الحرب الثقافية الأميركية ضد الفاتيكان

بومبيو يروج لفكرة "حلف مقدس" ضد بكين وبابا روما يرفض استقباله

البابا فرنسيس خلال لقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترمب في الفاتيكان (غيتي)

مرة واحدة فوجئ العالم بما يشبه الهجمة المنظمة داخل وسائل الإعلام الأميركية على بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، ولم تكن هناك في الظاهر أو لدى العوام أدنى فكرة عن السبب وراء المشهد، فقد ربطت منصات إعلامية مختلفة، صحافية وإذاعية وكذا تلفزيونية بين فرنسيس وما رُوج له على أنه مطالبة من ناحيته بأن يكون لمثليي الجنس أسر قائمة بذاتها، أي أنه يشرع زواج المثليين، لا سيما وأنهم أبناء الرب، كما أشارت تلك الأبواق المنحولة.

في واقع الأمر، ما قال البابا هذا أبداً، ولا يمكن أن يقوله يوماً ما، لا هو، ولا أي حبر أعظم في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، لأنه مناف ومجاف للإيمان المسيحي وللعقيدة الكاثوليكية، في حين أن ما قاله الرجل لا يتجاوز حق هؤلاء الذين وصفهم بأنهم مرضى بمرض عضال في أن تشملهم أسرهم، وأن يعطف عليهم كمحتاجين للاحتواء، لا سيما وأن العلم حتى الساعة لم يوضح أسباب الاختلال الجيني أو العقلي التي قادتهم إلى هذا المصير، ومن غير أن يُلقوا على قارعة الطريق كي تنهشهم الذئاب.

والثابت أنه ليس سراً أن العلاقة بين الرئيس دونالد ترمب والبابا فرنسيس لم تكن جيدة إلى حد ما، وبخاصة في العام الأول من حكم ترمب، فقد أنكر الفاتيكان على سيد البيت الأبيض فكرة إقامة جدار عازل على الحدود مع المكسيك، وإن كانت الأمور قد هدأت لاحقاً بعد أن زار فرنسيس الولايات المتحدة الأميركية، وهناك لقي تكريماً شعبياً ورسمياً فائق الوصف، كما زار ترمب وزوجته حاضرة الفاتيكان، وبدا وكأن الأمور قد سارت في ما يشبه المسارات والمساقات الطبيعية.

ولعل علامة الاستفهام المثيرة والتي يبدأ معها من جديد فصل خلافي بين واشنطن والفاتيكان هي: ما الذي جرى وجعل وزير الخارجية بومبيو يظهر غضبه الأسابيع القليلة الماضية تجاه الكرسي الرسولي، وما دور الصين في هذه الأزمة، وهي الدولة التي تعتبرها الولايات المتحدة المهدد الأكبر لوجودها، والقطب المقبل في مواجهة قطبيتها المنفردة بمقدرات العالم، والدولة التي تمتهن الحريات بل وتسعى إلى التضييق على المسيحيين الصينيين بنوع كبير، عطفاً على ازدرائها بكافة حقوق الإنسان سواء كان صينياً أم أجنبياً مقيماً على ترابها الوطني؟

"الشماس" بومبيو غاضب على البابا

يطلقون على وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في واشنطن لقب "الشماس"، والشماسية هي أولى الدرجات الكهنوتية الصغرى، ودوره عادة ما يكون مساعداً للكاهن في أداء الصلوات.

والمفارقة أن بومبيو ليس كاثوليكياً، لكنه ينتمي إلى الكنيسة المشيخية الإنجيلية، وقد خدم فيها في الفترة ما بين 2007 و2009 لا سيما على صعيد ما يعرف بمدارس الأحد.

يجاهر بومبيو دوماً بأفكاره الإيمانية المسيحية التي تتسق مع الرؤية اليمينية الأميركية، ويرى أن أميركا هي كنعان الجديدة، وأن الشيوعية من عمل الشيطان، وعادة ما يشارك الرئيس ترمب في جلسات الصلاة في البيت الأبيض، وكلاهما مطلق لزوجته الأولى ولديه زوجة ثانية.

لماذا بدا "الشماس" بومبيو غاضباً من الكرسي الرسولي، الأيام القليلة الفائتة؟

أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي استضافت العاصمة الإيطالية روما منتدى حول الحريات الدينية في العالم، دعت إليه ونظمته السفارة الأميركية لدى الكرسي الرسولي "الفاتيكان".

حمل المنتدى عنوان "تعزيز الحرية الدينية والدفاع عنها على الصعيد الدولي من خلال الدبلوماسية"، وقد افتتحت الأعمال بمداخلة لسفيرة الولايات المتحدة لدى الكرسي الرسولي "كاليستا جينرتش" والتي شددت على أن هذا الموضوع يشكل أولوية بالنسبة لبلادها وللكرسي الرسولي على حد سواء، وهو يكتسب أهمية في هذا الزمن الحرج الذي يعيشه العالم اليوم.

كان بومبيو في مقدمة المشاركين في المنتدى، وفي كلمته تحدث عن الحرب العالمية الثانية التي يمر عليها هذه السنة نحو 75 سنة، وذكر بالكاهن "برنارد ليشتنبرج" الذي اعتقله النازيون، لأنه كان يصلي في العلن من أجل اليهود.

في حديثه ذكر بومبيو كذلك بالدور الذي قام به البابا يوحنا بولس الثاني من أجل إسقاط الاتحاد السوفياتي وسحق الشيوعية في حلف وارسو.

وقد كان من الطبيعي أن يوجه بومبيو سهام مدافعه الكلامية نحو الصين، وخاصة في ظل انتهاكها الحريات الدينية بشكل صارخ.

هل كان الفاتيكان ليقصر في الإدانة والدفاع عن الحرية الدينية؟ الشاهد أن ختام المنتدى جاء من خلال أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بارولين رئيس وزراء البابا، الذي أكد أن الدفاع عن الحرية الدينية وتعزيزها هما علامة مميزة لنشاط الكرسي الرسولي الدبلوماسي، لافتاً إلى أن هذا الحق المرفق بالحق في الحياة غير القابل للتصرف، يشكل ركيزة للحقوق الإنسانية كافة.

ما الذي جعل بومبيو في نهاية أعمال المنتدى يبدو غاضباً ومحملاً البابا المسؤوليات الأكبر تجاه إشكالية الحريات الدينية وداعياً إلى وقف الفاتيكان للتعاون مع بكين؟

 

علاقة الصين بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية

لا يمكن تقديم جواب على علامة الاستفهام المتقدمة من غير الإشارة ولو في عجالة إلى تاريخ العلاقة بين الصين والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والتي مثلت طويلاً جداً الجسر الذي انفتحت منه الصين على العالم الغربي، بعلومه وآدابه، فنونه وثقافاته، لغاته وشعوبه.

يمكن القول، إن الآباء الفرنسيسكان في القرن الثالث عشر الميلادي كانوا أول من انفتح على الصين من خلال البعثات التبشيرية، وجاء بعدهم الآباء اليسوعيون، في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، والذين ترجموا كثيراً من آثار الفلسفة الصينية القديمة، إلى لغات أوروبا الحديثة، كما عرفوا الشعب الصيني على العلوم الغربية كالرياضيات والفلك والطب، ونحوها.

كان وصول الحزب الشيوعي الصيني إلى الحكم عام 1949 بمثابة مرحلة فاصلة في العلاقة مع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، إذ طردت السلطات الصينية وقتها كافة المبشرين الكاثوليك والبروتستانت، ونُظر إلى الكنيسة بوصفها جزءاً من الإمبريالية الغربية.

في عام 1951 انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الفاتيكان والصين بشكل رسمي، وبعدها بنحو ست سنوات ذهبت السلطات الشيوعية الصينية في طريق تأسيس ما يعرف بـ"الرابطة الكاثوليكية الوطنية الصينية"، وهي محاولة للالتفاف على العلاقة مع كنيسة روما والبابا، أي جماعة صينية قومية التوجه، وإن كانت مسيحية، لكنها غير مرتبطة إدارياً أو تنظيمياً أو روحياً بالباباوية بشكل مباشر.

كان من الطبيعي إذن أن يرفض الكرسي الرسولي تعيين أساقفة لهذه الجماعة التي لم تتجاوز فكرة عزل الجماعات المسيحية الكاثوليكية عن الخارج لضمان التحكم التام بها... هل قبل الكاثوليك في الصين مثل هذا التوجه؟

الشاهد أنه منذ ذلك الوقت انتشرت جماعات كاثوليكية سرية تمارس شعائرها وطقوسها في أضيق نطاق في المنازل، ولهذا تبقى غير مسجلة لدى الحكومة الصينية، ويقدر عدد كاثوليك الصين بنحو 12 مليوناً، نصفهم ينتمون إلى الكنيسة الصينية الرسمية، والنصف الآخر للكنيسة الكاثوليكية السرية التي ترتبط روحياً بحاضرة الفاتيكان.

لا تعترف الكنيسة الكاثوليكية الصينية الرسمية بسلطان بابا الفاتيكان الروحي عليها، بل إن أي اعتراف أو إظهار إخلاص أو انتماء له يكلف صاحبه صعوبات، تبدأ من التضييق وتصل إلى حد السجن، كما حدث مع عدد من أساقفة الصين الكاثوليك المعترفين بالبابا، مثل الأسقف "ليوغواندوغ" الذي قضى 30 سنة في السجن.

2018 اتفاقية بين الفاتيكان والصين

تعرف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بأنها كنيسة عصرانية، تعرف كيف تقرأ الأزمنة والأحداث، ولهذا وفي ظل عولمة أزالت الحدود وحطمت السدود، لم يكن لها أن تسلم بواقع الحال الشقاقي مع الصين، وكأنه قدر لا فكاك منه.

هل كانت الصين بدورها أقل اهتماماً من الفاتيكان، وهي التي تروج لمشروعها القطبي المقبل، وإن بأدوات ناعمة غير خشنة، وفي المقدمة منها طريق الحرير، الذي اعتبر أداة الصين لإحياء علاقاتها مع الجزء الأوراسي الغربي حيث قارة أوروبا العجوز اليوم؟

في أوائل أبريل (نيسان) من عام 2018 كان تشين تسونغ رونغ نائب مدير إدارة الشؤون الدينية قبل أن تدمجها الحكومة مع وكالة أخرى، يدلي بتصريحات مفادها أن بكين تبذل جهوداً حقيقية من أجل إقامة علاقات مع الفاتيكان، في حين نقلت وكالة رويترز عن شياو هونغ المتحدثة السابقة باسم الوكالة، أن الصين تواصل بشكل نشط المحادثات مع الفاتيكان.

ما الذي جرى على صعيد التفكير الصيني؟

 باختصار أدركت القيادة الصينية في انفتاحها على العالم أنه ليس في صالحها في الحال أو الاستقبال البقاء على مسافة بعيدة من الكنيسة الأم لنحو مليار وثلاثمئة وخمسين مليون نسمة، موزعين على ست قارات الأرض، أي تعداد يوازي عدد سكان الصين مجتمعين.

هذه الرؤية التقدمية ترجمت في 22 سبتمبر (أيلول) 2018 في اتفاق مؤقت بين الكرسي الرسولي والصين، حول تعيين الأساقفة، ولتشجيع المزيد من العلاقات المكثفة، وقد جاء الاتفاق المذكور كثمرة تقارب تدريجي ومتبادل وعقب مسيرة طويلة من مباحثات متعمقة، ويقضي بتقييم دوري حول تطبيقه ويخلق من جهة أخرى الظروف لتعاون أكبر على الصعيد الثنائي.

والثابت أنه يوم توقيع الاتفاق صدر بيان عن دار الصحافة الفاتيكانية بشأن ما أطلق عليه تقاسم الرجاء بين الجانبين، ذلك الرجاء الذي يساعد على خلق مسيرة حوار مؤسساتي مثمرة وبعيدة النظر، وأن يسهم بشكل إيجابي في حياة الكنيسة الكاثوليكية في الصين لصالح الشعب الصيني والسلام في العالم.

لاحقاً وفي عام 2019 بدا وكأن خلافات سبعة عقود في طريقها لأن تتحلل تدريجياً، ففي 27 أغسطس (آب) 2019 أكد مدير دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي "ماتيو بروني" حصول المطران أنطونيو ياو شون الذي سمي أسقفاً لأبرشية "جينينغ الانشاب"، في منطقة منغوليا الداخلية في الصين على التفويض الحبري، وفي 28 أغسطس جرت سيامة المطران ستيفانو شو هو نغواي أسقفاً معاوناً لأبرشية هانجونغ لتصبح هذه السيامة الثانية منذ توقيع الاتفاق المذكور بين الكرسي الرسولي والصين.

أميركا ورفض تمديد الاتفاق

قبل أن ينصرم شهر أكتوبر (تشرين الأول)، وفي الثلث الأخير منه كان الكرسي الرسولي وجمهورية الصين الشعبية يجددان الاتفاق المؤقت لعامين آخرين ينتهيان في 21 أكتوبر 2022، وقد جاء في البيان الصادر عن دار الصحافة في الفاتيكان أن الكرسي الرسولي، "وإذ يعتبر أن تنفيذ الاتفاق المذكور ذات القيمة الكنسية والرعوية كان إيجابياً، بفضل التواصل الجيد والتعاون بين الطرفين، فإنه يعتزم مواصلة الحوار المفتوح والبناء من أجل تعزيز حياة الكنيسة الكاثوليكية وخير الشعب الصيني".

لا تظهر أسرار الفاتيكان إلى العلن، ذلك أن ساعة الفاتيكان، وكما قالت غولدا مائير في أول زيارة لها إلى حاضرة الفاتيكان عام 1967 في عهد البابا بولس السادس تسير بخلاف بقية ساعات العالم.

لهذا، فإن الاتفاق بين الفاتيكان والصين الذي وقع في سبتمبر عام 2018 يشكل نقطة وصول لمسيرة طويلة، ولكنه أيضاً وقبل كل شيء نقطة انطلاق لاتفاقيات أوسع نطاقاً وبعيدة النظر، والاتفاق المؤقت الذي بقي نصه نظراً لطبيعته التجريبية طي الكتمان، هو نتيجة حوار منفتح وبناء.

والثابت أن موقف هذا الحوار الذي يغذيه الاحترام والصداقة هو أمر أراده وعززه البابا فرنسيس، الذي يدرك جيداً الجراح التي تعرضت لها الكنيسة في الماضي، وبعد سنوات من المفاوضات الطويلة التي بدأها وسار بها أسلافه وفي استمرارية لا ريب فيها للفكر معهم، أعاد تأسيس الشركة الكاملة مع الأساقفة الصينيين الذين منحوا السيامة الأسقفية من دون تفويض بابوي، وأذن بتوقيع الاتفاق حول تعيين الأساقفة الذي كان قد وافق عليه البابا بندكتس السادس عشر.

عمل كنسي أم جيو سياسي؟

هل خطوة التقارب الصيني ـ الفاتيكاني عمل روحي كنسي محض أم تحرك جيو سياسي يزيد من مكاسب الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، تلك التي وصفها المؤرخ الأميركي الشهير "وول ديورانت" في عمله الخالد قصة الحضارة بأنها أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ، وقال عنها البعض الآخر، إنها إمبراطورية من دون حدود أو مستعمرات، وأثبتت التجربة أن للبابا قوة نفوذ معنوية، ولو لم يكن له فرق عسكرية، كما تندر عليه جوزف ستالين ذات مرة، على هامش مؤتمر يالطا عام 1945 في نهاية الحرب العالمية الثانية.

لم يكن ليغيب عن العقول الواعية والزاهية في حاضرة الفاتيكان وأقسامها الإدارية والعلمية أن البعض وتحديداً في الجانب الآخر من الأطلسي، وفي ظل الصراع الأميركي- الصيني، سوف ينظر للمشهد بوصفه مكسباً فاتيكانياً لمربع نفوذ مثير وخطير يحسب لصالح المؤسسة الكاثوليكية، والتي كانت سبباً يوماً ما في زلزلة القبضة الشيوعية القابضة على روح أوروبا الشرقية.

في هذا الإطار كانت صحيفة "الأوسيرفاتوريه رومانو"، الناطق الرسمي باسم حاضرة الفاتيكان، وفي مقال خاص، تشير إلى أن هناك من سينظر لهذا الاتفاق المؤقت بعين التفسيرات الجيو سياسية، حيث إن الأمر برمته بالنسبة للكرسي الرسولي هو مسألة كنسية عميقة، كذلك هناك الوعي الكامل، بأن هذا الحوار يعزز بحثاً مثمراً عن الخير العام لصالح المجتمع الدولي بأسره.

وبالطبع، فإن الكرسي الرسولي يأمل في أن يسهم الاتفاق المؤقت والتمديد له في حل المسائل ذات الاهتمام المشترك التي لا تزال مفتوحة مع الإشارة بشكل خاص إلى حياة الجماعات الكاثوليكية في الصين، فضلاً عن تعزيز أفق دولي للسلام، وفي مرحلة يشهد العالم كله فيها توترات جيو سياسية عميقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من يقطع طريق فرنسيس للصين؟

حين غضب السيد بومبيو في منتدى روما الأخير كانت حجته العلنية أن البابا والكرسي الرسولي يتحملان على هذا النحو مسؤولية أخلاقية تجاه تشجيع انتهاك الحريات في الصين.

في المنتدى حاول بومبيو إظهار الدور الملائكي للدبلوماسية الأميركية الحقوقية، وذلك حين أكد أن الكنيسة في وضع مختلف، وأن الاعتبارات الأرضية لا ينبغي ـ على حد قوله ـ أن تثبط المواقف المبدئية القائمة على الحقائق الأبدية.

هناك تساؤل مهم: هل كان بومبيو غاضباً على البابا لسبب آخر غير موضوع الصين؟

بحسب المطران بول ريتشارد غالاغر وزير العلاقات الخارجية بالفاتيكان، فإن منتدى السفارة الأميركية قد تم ترتيبه بطريقة أحادية، وبنوع يكاد يظهر فيه شكل من أشكال تهميش الفاتيكان، لا سيما وأن المطران غالاغر لم يُسمح له بالحديث إلا دقائق معدودات، الأمر الذي وضح النوايا الخفية في المشهد، وقد كان ذلك سبباً من أسباب رفض البابا لقاء بومبيو.

على جانب آخر، فإن البابا فرانسيس أراد أن يتجنب أي محاولة لتجيير مثل هذا اللقاء مع وزير الخارجية الأميركي لصالح حملة الرئيس ترمب، والتي تعاني من تراجع في مواجهة المرشح الديمقراطي جو بايدن، الأمر الذي كان ولا بد لإدارة ترمب من أن تعتبره إشارة غير إيجابية تعود بعجلة الزمن إلى الوراء بضع سنوات.

لم يغب عن مؤرخي ومفكري الفاتيكان أن محاولات بومبيو التدخل عند بابا روما ومحاولة قطع الطريق على التفاهمات الصينية - الكاثوليكية التي تتقدم يوماً تلو الآخر بتؤدة ونجاح هدفها إقناع الناخب الأميركي الكاثوليكي اليميني، وكذلك الجماعات الإنجيلية الأميركية المختلفة، على تنوع أطيافها وتعدد أطرافها بأن إدارة ترمب تقف إلى جانبهم وتواجه الصين العدو الحقيقي لأميركا، حتى ولو كلف الأمر حالة من التصادم مع البابا والمؤسسة الفاتيكانية.

 هل يمكن اعتبار المشهد نوعاً من الحرب الثقافية بين البابا فرانسيس واليمين الكاثوليكي المؤيد لترمب منذ سنوات؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك بالفعل، وقد أشار الكاردينال بارولين رئيس الكورية الرومانية في تصريحات للصحافيين بأن الكرسي الرسولي "فوجئ" بتدخل البيت الأبيض العلني في سياساته الخارجية واستغرق الأمر بعض الوقت للتأكيد على أن بومبيو طلب الاجتماع مع البابا فرنسيس من دون جدوى، واتهم مسؤول آخر رفيع المستوى في الفاتيكان وهو الأسقف البريطاني بول غالاغر إدارة ترمب علناً بمحاولة استخدام البابا كسلاح لتحقيق مكاسب انتخابية.

حلف مقدس ضد الصين

هل يعيد التاريخ نفسه وأحداثه ما بين واشنطن والفاتيكان؟ التاريخ بحسب كارل ماركس لا يعيد نفسه، ذلك أنه لو فعلها لأصبح في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة، ومع ذلك فإن أحداثه تتشابه أو على الأقل هناك من يسعى لاستنساخ بعض التجارب التاريخية، خاصة إذا كانت خيرة ومغيرة لأحداثه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس شرطاً أن تنجح في المرة الجديدة، فالنهر الذي تهبطه تتغير مياهه في كل ثانية، ولا تبقى تياراته ساكنة لعقود.

السؤال: هل تحاول واشنطن منع البابا فرنسيس استنساخ تجربة رونالد ريغان مع البابا يوحنا بولس الثاني في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، حين قام رؤساء الاستخبارات المباركين بحسب وصف الكاتب البريطاني توماس جوردن في كتابه المثير والخطير "جواسيس جدعون" بإنشاء حلف سري امتد من البيت الأبيض إلى حاضرة الفاتيكان بهدف ردع الشيوعية انطلاقاً من بولندا الكاثوليكية موطن البابا كارل فوتيلا؟

ربما يتحتم علينا العودة مرة جديدة إلى قراءة موسعة لهذه الإشكالية، وإن كان من الواضح أن بومبيو لديه إرهاصات لحلف مقدس مشابه لمواجهة الصين الشيوعية، وحتى لو لم يقدر للرئيس ترمب النجاح في مواجهة بايدن، فالرجل يخطط للترشح للرئاسة في 2024، وربما بدأ من الآن نسج خيوط حملته.

وفي الخلاصة، يبدو أن هناك مخططاً مرسوماً منذ فترة بعيدة لضرب علاقة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بالصين، إذ في كل مرة يحصل تقارب بين الصين والكنيسة الكاثوليكية لا يشعر بعضهم بارتياح.

مرة أخرى هل كانت عاصفة الغبار الأخلاقية ضد فرنسيس الأيام الماضية محاولة فاشلة في مواجهة حلف يراه البعض مقدساً، في حين كان فرنسيس يصدر للعالم رسالته الأحدث "كلنا إخوة"؟

المزيد من تحلیل