Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين اكتفى ريتشارد فاغنر بكونشرتو كرسه لـ"فاوست"

ما الذي منع صاحب أعظم الأوبرات من تكريس واحدة لمسرحية غوته الأشهر؟

ريتشارد فاغنر (غيتي)

من الأمور المتوافق عليها في عالم الموسيقى أن الأوبرا التي لحنها الفرنسي شارل غونو انطلاقاً من مسرحية غوته الشهيرة "فاوست"، تبقى الأقوى ليس فقط بين أعمال غونو نفسه، بل حتى بين مختلف الأوبرات التي لحنت استناداً إلى المسرحية. أما السؤال المتعلق بلماذا نجح غونو حيث أخفق عدد كبير من موسيقيين لم يتوقفوا عن السعي لتحويل "فاوست" إلى أوبرا؟ فيبقى سؤالاً لا جواب له. غير أن السؤال الأكثر منه إلحاحاً يتعلق بريتشارد فاغنر الموسيقي الألماني الذي يبقى على مدى التاريخ سيد الأوبرا دون منازع. أو لنقل يبقى سيد الأوبرا مناصفة إلى حد ما مع زميله الإيطالي الكبير جوزيبي فيردي. فهذان الموسيقيان الكبيران اللذان تزامنا تقريباً ولحنا تقريباً نصف الأوبرات الكبيرة التي لا تزال حية حتى اليوم، يبقيان رغم مرور الزمن الاسمان الكبيران في هذا الفن، مع ترجيح لهذا على ذلك أو لذاك على هذا تبعاً للظروف والأمزجة. وبما أن حديثنا هنا عن فاغنر، نتوقف عنده من خلال "فاوست" لنتساءل، لماذا لم يكرس عملاً أوبرالياً للمسرحية الأكثر قوة التي كتبت باللغة الألمانية، لغته الأم بالطبع، والتي على شكل القسم الأعظم من أوبراته الكبرى، أتت مستقاة من نصوص جرمانية عرف غوته كيف يجمعها ويشتغل عليها محولاً إياها إلى واحدة من أعظم المسرحيات في تاريخ هذا الفن؟

أمر غير طبيعي

لو فعل لكان ذلك أكثر الأمور طبيعية. أما ما لا يبدو لنا طبيعياً على الإطلاق فهو استنكافه عن ذلك. ولكن لا يمكننا على أي حال أن نستنتج من هذا أن فاغنر لم يلتفت إلى "فاوست"، بل على العكس تماماً: هو التفت إليها وكان بعد في شرخ شبابه كما في عز عطائه، يوم أراد أن يحولها إلى عمل سيمفوني. نعم بالتحديد، الموسيقي الذي ندر أن كتب موسيقى أوركسترالية لا تخدم مسرحه الأوبرالي، كان لديه ذات يوم مشروع عمل موسيقي أوركسترالي كبير أعطاه مسبقاً عنوان "سيمفونية فاوست". وكان ذلك بين عامي 1839 و1840. لكنه بدلاً من ذلك اكتفى يومها بكتابة حركة أولى مما سيكون لاحقاً "افتتاحية" فاوست، تلك القطعة الموسيقية الرائعة التي تكاد تحمل منذ وقت مبكر عبق الروح الموسيقية الفاغنرية، بل تبدو لمن يستمع بشكل جيد وكأنها جزء من واحدة من تلك الافتتاحيات الكبرى التي ألفها فاغنر لسيمفونيات ستحمل عناوين "تريستان وإيزولتى" أو "أساطين الغناء في نورنبورغ" أو "لوهونغرين" وغيرها. من ناحية المقياس الزمني الذي تستغرقه القطعة، سيكون ممكناً وصفها بالعمل الصغير، بيد أنها تحمل من التكثيف الموسيقي ما يشي بأنها كان يمكن أن تكون عملاً كبيراً بالتأكيد، حتى دون أن ينتهي بها الأمر لأن تكون أوبرا. فما الحكاية؟

منازلة السابقين عليه؟

الحكاية أن فاغنر، وكان بعد بالكاد بلغ السابعة والعشرين من عمره وجرب حظه في بعض الأعمال المبكرة، قرر في عام 1839 أن الوقت قد حان للسير على خطى بيتهوفن وشوبرت اللذين كانا من أوائل الذين كتبوا موسيقى أوركسترالية مستوحاة من "فاوست": "من "فاوست غوته" التي تحولت أغنية بعنوان "كان هناك ملك" بالنسبة إلى الأول، إلى لحن عنوانه "غريتشن أمام المغزل" بالنسبة إلى الثاني. مقابل سابقيه هذين قرر فاغنر أن يكتب سيمفونية، وبدأ بالفعل في تلحين الحركة الأولى. لكنه بعد عامين من العمل الدؤوب اكتشف أن الأمر فوق طاقته فأوقف العمل مكتفياً بتحويل ما لحنه حتى الآن إلى افتتاحية كونشرتو، وقد أضاف إليه تجسيداً لبعض أفكار كان قد رسمها لبعض حركات تالية في السيمفونية. وهكذا مزج بين ذلك كله ليحمل العمل في الشكل الذي بات عليه عام 1840 عنوان "افتتاحية فاوست". وهو عاد بين عامي 1843 و1844 ليعطي العمل طابع الكونشرتو وقد أعاد تنسيقه. أما النسخة النهائية التي بقيت لنا حتى الآن فهي عبارة عن ثالث اشتغال شامل قام به فاغنر في عام 1855 معطياً العمل شكله النهائي ليصبح كونشرتو قائماً بذاته يسمى الآن "كونشرتو فاوست"، وليضم ريتشارد فاغنر إلى قائمة من نحو مئة موسيقي بين بدايات القرن التاسع عشر ونهايات القرن العشرين استلهموا فاوست في موسيقاهم.

ليست صديقاً ومنافساً

ولئن يبقى غونو الأشهر من ناحية اشتغاله الأوبرالي كما قلنا أعلاه، فإن من بين أصحاب الأسماء الكبيرة الذين حولوا المسرحية إلى أوبرا يمكننا أن نذكر هكتور برليوز ("لعنة فاوست") وميير ليفي ("فاوست ومرغريت" في استعادة لافتة لرومانسية العمل الأصلي). أما في المنافسة مع فاغنر بالنسبة إلى الاكتفاء بموسيقى العمل فلدينا عدد أكبر من الأسماء البراقة في عالم الموسيقى من فيردي إلى روبرت شومان، ومن مندلسون إلى ماهلر ورخمانينوف وموسورغسكي، ولكن خاصة فرانز ليست الذي يمكننا اعتباره المنافس الرئيس لفاغنر في هذا السياق هو الذي كتب السيمفونية الكورالية التي ستعرف اختصاراً بسيمفونية فاوست، لتقدم للمرة الأولى في فايمار عام 1857، منطلقة مما يمكننا أن نسميه ثلاث بورتريهات للشخصيات الثلاث الرئيسة في المسرحية: فاوست، غريتشن، ومفيستوفالس. ولا بد أن نذكر هنا أن هذا العمل لليست يعتبر واحداً من أهم أعماله وغالباً ما يقدم البورتريه الثالثة بمفرده كقطعة مستقلة ينظر إليها بوصفها من أعمال الموسيقى الكبرى، علماً بأن الفرنسي برليوز كان هو في الأصل من عرف ليست على المسرحية، كما كان أول من أطلع هذا الأخير على اشتغاله على "لعنة فاوست" وأهداها إليه.

إذاً في هذا الإطار وضع ريتشارد فاغنر ذلك العمل الذي فاته أن يحوله إلى أوبرا، لكنه عرف به في الأحوال كافة كيف يوجد لاسمه ومنذ وقت مبكر، مكاناً لائقاً في زحام الذين تدافعوا للاشتغال على نص غوته. والحقيقة أن "كونشرتو فاوست" قد أسهم في انطلاقة فاغنر الذي لفرط ما حدثه كثر عن أنه كان في وسع تلك الموسيقى أن تتحول بسهولة إلى أوبرا بدلاً من حصرها في كونشيرتو، راح يتفادى الوقوع في مثل ذلك المطب وقد آلى على نفسه، كما يخبرنا في كتاب ذكرياته "حياتي" الذي أصدره في عدد كبير من الصفحات لاحقاً في مساره، أن يحول كل نص يكتبه بنفسه أو يجده في ثنايا بحثه الملهم في ثنايا الأساطير الجرمانية، إلى أوبرات. وحسناً فعل. فنحن نعرف أن العدد الكبير من الأوبرات التي لحنها فاغنر خلال مسيرته الطويلة والغنية أسهم إلى حد مدهش في إيقاظ المسرح الغنائي الألماني من سباته، وبالتالي في رفد الحياة الفنية الألمانية بأعمال كبيرة في وقت كان يبدو للعالم كله وكأن إيطاليا قد هيمنت على هذا الفن من طريق فيردي وروسيني وغيرهما.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حياة إبداع وتقلب

ولد ريتشارد فاغنر عام 1813 في مدينة لايبتزغ. وهو اهتم منذ صباه الباكر بالأدب والموسيقى والمسرح. واللافت أن بدايته العملية كانت في عام 1834 كقائد أوركسترا، في الوقت نفسه الذي لحن فيه أوبرا "الجنيات" التي كانت أول أعماله ليتبعها بـ"ممنوع الحب" المقتبسة عن "العين بالعين" لشكسبير. وهو توجه إلى باريس حيث عاش أكثر من ثلاث سنوات بين 1839 و1842 ليعود إلى درسدن حيث قدمت أولى أوبراته "رينزي" محققة نجاحاً متواضعاً. ثم كان الفشل من نصيب أوبراه التالية "المركب الشبح" التي ستعود لاحقاً لتحقيق نجاحات مدهشة. لكن فاغنر كان عليه أن ينتظر طويلاً، ويصبر قبل ذلك. وفي الانتظار نراه يخوض النشاط السياسي في صفوف فوضوي باكونين، ويرتبط بتلك الصداقة المدهشة مع ليست. وهو لئن لم يبدأ بحصد نجاحاته إلا في عام 1850، فإن ذلك النجاح لم يكن ضئيلاً، حيث إنه اعتباراً من تقديم "لو هونغرين" للمرة الأولى في درسدن دون أن يتمكن من حضور العرض، لم يعد عليه أن يقلق، فأعماله راحت تشاهد بنجاح مكنه لاحقاً من أن يؤسس مهرجان بايروت ويحظى برعاية لودفيغ ملك بافاريا، ليعيش نجاحات وحياة متقلبة حتى آخر أيامه عام 1883، وقد بات العالم كله يعترف له بكونه واحداً من أكبر ثلاثة أو أربعة من ملحني الأوبرا في التاريخ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة