Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخط اليدوي سحر مركون على رفوف الذاكرة

كانت أنواع الكتابة 14 تقريباً قبل دخول المكننة في ترتيب الحروف بأبعادها المعروفة

خط ناصر ماجد (اندبندنت عربية)

خط اليد وما يحمله من حنين لرسائل قطعت القارات حرفياً، حُملت باليد أو عبر البريد من أشخاص استغرقهم كثير من الوقت لكتابتها بخط مفهوم، وبمزاج يشبه المضمون، فتحولت إلى ميزان لأحوالهم وحالاتهم النفسية.

ومن المعروف أن الغرافولوجي Graphology هو علم تحليل الشخصية من خلال الخط، ويُستخدم للكشف عن حالة كاتبه النفسية. ولطالما دُرِس خط الشخص للدلالة على شخصيته، قبل أن تبدأ طباعة الرسائل على آلة النسخ "الدكتيلو"، ثم على الكمبيوتر بأحرف تشبه بعضها بحسب نوع "الفونت" (font) المختار.


للخط روحه

يقول الخطاط مارسيل نصر لـ"اندبندنت عربية" إنه عمل عشر سنوات في تخطيط اليافطات واللافتات بكل أنواعها على القماش والخشب والحديد، وتلك المضاءة، إضافة إلى تخطيط بطاقات الأعراس وكتابة أسماء المدعوين، إلى أن ظهر الكمبيوتر وقضى على هذه المهنة. وعلى الرغم من "الاجتياح التكنولوجي"، لا يزال البعض ممَن لديهم الحنين إلى الخط اليدوي، يطلبون كتابة أسماء المدعوين على بطاقات معينة، بخط اليد.

وكان مارسيل منذ أيام الدراسة، يحاول تقليد خط الكتاب بقياساته ونسخه. وبدأ أول تخطيط له على يافطة قماشية. ثم اشترى كتب تعليم الخط قبل وجود الإنترنت، وطوّر أنواع الخط، وأصبح يكتب اليافطات بالريشة مباشرة.

ويتذكر أنه عندما كان في الـ16 من عمره كان لكل جريدة خطاط يكتب العناوين. لكن الكمبيوتر جعل هذه المهنة تنقرض، كما حل مكان خط اليد في اليافطات ولافتات المحلات أيضاً.

لكن مارسيل ترك هذه المهنة التي كانت تدر عليه مبلغاً لا بأس به، منذ عام 2007 عندما ترك لبنان إلى فنزويلا حيث عمل في مكتبة، ولم يكن التخطيط بعد عودته إلى بلده، من ضمن مشاريعه.

 

ويعتبر مارسيل نصر أن "خط الكمبيوتر جامد، حتى أن بعض قواعد الخط غير صحيحة في ارتفاعاتها ومداتها". وبالنسبة إليه، فإن خط "النسخ" مقبول على الكمبيوتر، في حين أن خط "الرقعة" فيه شوائب عدة، ومثله الخط "الديواني" و"الفارسي" فقواعدهما ليست دقيقة.

ويضيف أن "الخطاط  فنان يعطي من روحه مثل العازف والرسام والمغني". وعن قدرته الآن على التخطيط يقول، إن يده ثقلت على قلة الكتابة ولم يعد بالمهارة ذاتها.


كتاب شعر بخط اليد

ويخبر الشاعر أدونيس الخطيب بأنه بعد أن أصدر كتابه الأول "فضائح الحبر" فرح به في البدء، ثم بدأ يشعر أن أحرفه متشابهة جداً، "فكلمتا حب وحماقة تحتويان على حرف الحاء ذاته، على الرغم من أنهما غير متشابهتين، ولكل حاء إحساس مختلف، ولها معنى آخر، فكيف تُكتَبان على النمط ذاته؟".

فقرر أن ينفذ في كتابه الثاني الكتابة بخط يده لأنها على حد تعبيره، تشبهه أكثر، كأنه يكتب المشهد بخطه، ولا تكون الأحرف مصفوفة بشكل جامد بل تحتوي على الإحساس، فيشعر أنه أصدق مع ذاته والقارئ.

 

وهذا ما دفعه أيضاً في كتابه الثالث الذي حمل عنوان "عم برتكب كلمة" أن يكتب جملة بعد الفهرس، معتبراً أنه لا يريد للفهرس أن يكون الخاتمة، وهكذا فعل في كتبه اللاحقة. حتى أنه كتب بعض الجمل باتجاهات مختلفة، مثل عبارة "هناك وطن يُباع على شباك التذاكر في كل المدينة". ويعتبر أدونيس أن الكتابة بخط اليد حقيقة ممكن رؤيتها من كل الزوايا، وشعر أن المشهد بخط يده أصبح أكثر تعبيراً.

الخطاطون من دون مهنة

عندما ولد غسان ماجد عام 1966 خط والده بيده هذا البيت المعروف عن مهنته:

"الخط يبقى زماناً بعد كاتبه

وكاتب الخط تحت الأرض مدفون"

ويتحدث غسان عن والده الخطاط المعروف ناصر ماجد الذي توفي عام 2015. وبحسب رواية ابنه كان ناصر يعمل خطاطاً في جرائد عدة. إذ عمل إلى جانب الصحافي اللبناني طلال سلمان في جريدة السفير، وكان يكتب العناوين الأساسية والفرعية. وكان حينها لكل جريدة خطاط ومساعدَين يعملون بدوام ليلي. كما كان ناصر يكتب خطوطاً وحوارات مجلات "سوبرمان"، "لولو وطبوش"، "الوطواط "و"بونانزا" وغيرها.

وكان ناصر ماجد خطاط القصر الجمهوري في عهد الرئيس اللبناني السابق فؤاد شهاب، فكان ينسخ خطبه لأن الرئيس لم يكن يرتاح لقراءة ما طُبع على آلة الداكتيلو لأن الخط مقطع.

وعمل ناصر 30 سنة في تلفزيون لبنان، وكتب عناوين المسلسلات وأسماء الأبطال مثل "شوشو" و"الدني هيك" وغيرهما.

يقول غسان، إن والده كان يكتب باتجاه واحد، one way، أي أنه يكتب من دون تصحيح، وذلك بسبب عدم تردده وخطه الثابت والواثق. إلا أن بعض الأفلام التي كان يكتب عليها، كانت تفسد إذا اضطُر للتصحيح، باستخدام الشفرة.

 

ويضيف أن والده كان يجيد أنواع الخط العربي المعروفة كلها، وهي كانت نحو 14 خطاً قبل أن تدخل المكننة في ترتيب الحروف بأبعادها المعروفة.

ويذكر أن عدداً من الخطوط أو "الفونتات" الحديثة أُخِذت عن الكتابة اليدوية وهي تحمل أسماء خطاطيها مثل خط منال، وسميرة وبطرس، فحصلت عليها الشركات ومكننتها لتصبح فونتات معتمدة.

وعمل ناصر في تركيب حروف الجرائد حرفاً حرفاً في المطبعة قبل أن يصبح خطاطاً، وهما مهنتان انقرضتا مع دخول الكمبيوتر. في التسعينيات توقف عمل الخطاطين في كتابة عناوين الجرائد، واقتصر على العمل الخاص مثل كتابة بطاقات الأعراس.

ومن أشهر أعمال ناصر كان "أطلس العالم" و"أطلس الطالب"، حيث كتب العناوين ومعلومات الخرائط. وكان يعمل في تلك الخرائط الفارغة على الفيلم مباشرةً، بمجهود استغرق سنتين من العمل المتواصل. كما خطّ الراحل ناصر ماجد نسختين بخطين مختلفين من القرآن الكريم، وكان يعمل على تصريح نشرهما كونهما تحتاجان إلى موافقة بعد المراجعة، قبل أن توافيه المنية.

وأراد ناصر أن تكون له خطوط خاصة به له، وكان حضرها على قرص مدمج CD لكنه لم يصدره. وإلى جانب الخط كانت لناصر لوحات رسوم تجريدية أدخل إلى بعضها الخط العربي.

ويعتبر غسان أن "لا شيء يشبه خط اليد بخصوصيته. ومهما تنوعت أنواع الحروف يبقى لخط اليد روحه الخاصة ومداته". ويخبر أن يد والده طيعة ورشيقة في التخطيط.

كما يخبر أن والده لم يكتف بعمل التخطيط وتأقلم بسرعة مع التغيّرات، إذ أنشأ شركة تسويق وشركة فرز الألوان الذي عمل بها غسان أيضاً بعد تخصصه في ألمانيا، هذه المهنة التي انقرضت هي الأخرى لاحقاً.

ولكن توقف مهنة التخطيط لم تؤثر على والده مادياً بسبب شركته الأخرى التي أسسها، لكنه حزن من أجل زملائه الذين كانوا يعتمدون عليها قبل أن يسحب الكمبيوتر بساط الرزق من تحت أقدامهم.

وفي السياق ذاته، وبعد محاولة التواصل مع نقابة الخطاطين الذي شغل الراحل جوزيف حداد رئاستها لسنوات طويلة، حاولت النقابة بمبادرات فردية الإبقاء على تعليم الخط العربي، ووجهت نداءات لمسؤولين ومختصين ومدارس ومؤسسات للحفاظ على هذه الحرفة التي باتت نادرة. ولطالما نظمت مسابقات للخطاطين الجدد، والعروض المخفضة على دفاتر الخط، وكأنها تحاول أن تبعث الروح في جسد مغادر.

التوقيع والخط الجميل

حتى الآن، ما زال لخط اليد وقعه في المعاملات الرسمية، فالتوقيع يتم يدوياً، حتى في بعض العقود يُطلَب توقيع الشخص خطياً إلى جانب الختم.

ومن الخطوط الأكثر تناولاً للطرافة هي خطوط الأطباء التي قد لا يفهمها سوى طبيب آخر أو الصيدلي في أحسن الأحوال. حتى أن بعض الأطباء أصبحوا يستعينون بمساعدين ومساعدات يكتبون الوصفة أو التقرير.

وتذكر الأديبة السورية غادة السمان التي يبدو أن لها ولعاً كبيراً بالخط، حيث وثّقت رسائل أُرسلت لها، ونشرتها بخطوط أصحابها ومطبوعة في آن. وتذكر في إحدى رواياتها أنه في شبابها كان يُقال عن أحدهم "صاحب خط حلو"، ويعنى ذلك أنه مخبر يكتب التقارير للاستخبارات في سوريا عن المثقفين والمعارضين في ستينيات القرن الماضي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة