لم تمر إعادة طرح مشروع تجريم الاعتداء على رجال الأمن أمام مجلس النواب التونسي لمناقشته والمصادقة عليه من دون تحرك واسع لقوى المجتمع المدني مطالبة بسحبه ومنددة بمحاولات فرضه. وقد تجدّد الجدال القديم في شأن أسباب هذا القانون ونتائجه على الحريات الفردية في تونس.
وتجمّع مئات من الشباب وممثلين عن جمعيات ومنظمات حقوقية، الاثنين 6 أكتوبر (تشرين الأول)، احتجاجاً على مشروع القانون. وشهد التحرك صدامات بين الناشطين وقوات الأمن التي اعتقلت عدداً منهم. ما أسهم في توتر الأوضاع ووجهت اتهامات إلى رجال الأمن باستعمال القوة من دون مبرر لتفريق تظاهرة سلمية.
عودة برلمانية مفزعة
واعتبر عدد من النقابات والجمعيات، في بيان، أن قرار مكتب مجلس النواب بإحالة مشاريع قوانين "عودة مفزعة" تتسم بالخطورة في الجلسة العامة له وسط غياب أي مبادرات لاستكمال بناء دولة القانون ومؤسساتها، يشكل خرقاً واضحاً لأبسط مقومات دولة القانون وتهديداً للمسار الديمقراطي.
وجددت الجمعيات رفضها مشروع القانون المتعلق بزجر الاعتداء على القوات المسلحة، الذي لا يزال يمثل خطراً على الحقوق والحريات العامة ويمثل تهديداً للسلم الاجتماعي ولتوازن المنظومة القانونية. ودعت الجمعيات نواب الشعب إلى رفضه.
ومن الجمعيات الثلاث والعشرين الموقعة، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات. ما يعكس القلق من مشروع القانون والمخاوف من عودة دولة تحكمها منظومة بوليسية.
بعد خمس سنوات من الأخذ والرد في مجلس النواب يعود طرح مشروع القانون أمامه. قُدم في المرة الأولى في 2015، ورفضته المنظمات الحقوقية لما فيه من حصانة مبالغ فيها لقوات الأمن وتكريس ثقافة الإفلات من العقاب، ولما يتضمنه من فصول تعسفية مخالفة للدستور هدفها تقييد الحريات وفسح المجال أمام انتهاكات حقوق الإنسان.
الانقلاب على مبادئ الثورة
وتتوقع المحامية لميا ياسين أن "يسهم هذا القانون في إعادة بلورة دولة البوليس". وتعتقد، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن "القانون يهدد الحقوق والحريات ويحيد عن مبدأ المساواة بين المواطنين، باعتباره يغلب مصلحة قطاعية". وتضيف "أنا كمحامية ضد سن هذا القانون ومحاولة إمراره وتكريس دولة البوليس والتمهيد لدكتاتورية جديدة"، وتراه "انقلاباً فعلياً على مبادئ الثورة".
وأعلنت رئيسة لجنة التشريع العام في مجلس النواب سامية عبو أن النواب أدخلوا "تعديلات كثيرة وجوهرية" على مشروع القانون عبر تنقيح الفصول التي تمس الحقوق والحريات، وأصبحت "فلسفة مشروع النص القانوني قائمة على حماية الأمني من دون انتهاك الحقوق والحرّيات الفردية والعامة ومن دون السّماح بالتجاوزات من طرف سلك الأمن.
الفصل 12 سبب البلية
وتوقفت الهيئات التي ترفض مشروع القانون عند الفصل 12 منه، الذي يشير إلى "عقوبة عامين سجناً لكل من تعمَّد تحقير القوات المسلحة بقصد الإضرار بالأمن العام". واعتبرت أن ذلك سيف مصلت على الحرية يستعمله الأمن متى يشاء، في ظل غياب "الأمن الجمهوري" الذي جرى الحديث عنه ولم يتم تحقيق شروط قيامه على أسس واضحه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعتبر الإعلامية والناشطة السياسية لطيفه حسني، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن "مشروع القانون لا يهدف إلى حماية رجال الأمن إنما إلى توفير حصانة لهم ويشرع للإفلات من العقاب". وإذ ترى أن "الجميع مع حماية الأمنيين وتوفير الآليات المهنية والقانونية لحمايتهم أثناء أداء عملهم"، تؤكد أنه "لا يمكن القبول بأن يصبح أحد فوق القانون ومعهم عائلاتهم، وهذه سابقة في تاريخ التشريعات". وتضيف حسني أن "واجب الأمني وحقوقه المهنية والمادية أمر تتفق عليه المجموعة الوطنية، لكن المطالبة بأن يكون فوق المحاسبة ستفتح الباب لكثيرين للمطالبة بالامتيازات نفسها، وسيصبح في تونس مواطنون بامتيازات مختلفة وليسوا سواسية أمام القانون".
حماية الأمني حق مشروع
وسط ذلك، رأت نقابات قوات الأمن أن في المشروع جملة من النقائص لا تخدم مصلحة رجال الأمن وتضعهم في صدام مع الشارع. وفي الوقت نفسه، اعتبرت أن الغاية من مشروع القانون هي حماية الأمن ضد ما يتعرض له من اعتداءات، داعية إلى إمراره لكونه مصلحة للجميع ولا يتعارض مع الحرية.
ويعتقد الناشط سامي القطوفي أن هذا القانون سيعيد للشارع في تونس الأحساس بالأمان المفقود بعد عشر سنوات من تدمير منهجي للمؤسسة الأمنية. ويقول لـ"اندبندنت عربية" إن مستوى الجريمة بكل أنواعها ومنها الإرهابية أضحت ممارسة عادية ضد رجال الأمن، ما أثر كثيراً في معنويات هؤلاء الذين تم تكبيلهم بقوانين جعلتهم عاجزين عن القيام بمهماتهم، والجميع يلاحظ تصاعد مستوى الإجرام الذي تشهده تونس بسبب مخاوف رجال الأمن من قوانين وضعت للحد من دورهم.
ويؤمن القطوفي بأن "مخاوف منظمات المجتمع المدني يمكن أن تُدرس عبر الحوار مع مجلس النواب وليس عبر تعطيل مشروع القانون الذي طالت مدة تعطيله وتسبب بكثير من الضرر للشعب التونسي".
معركة قانونية طويلة
واحتشد موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بتعليقات رافضي مشروع القانون، الذين يطالبون بإصدار قانون يعاقب الاعتداء على المدنيين. وهو ما اعتبرته الناشطة السياسية سندس زروقي حقاً في ظل ما شهدته السنوات العشر الماضية من اعتداءات طاولت شباباً وكرامتهم الجسدية، وقد ذهبت القضايا التي شهدت انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان أدراج النسيان، فيما يؤكد الدستور أن "المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز".
وتستعد الهيئات المعارضة لمشروع القانون لمعركة قانونية طويلة ضد تجريم الاعتداءات في حال صوت عليه مجلس النواب. وستطلب الهيئات من رئيس الجمهورية قيس سعيد عدم المصادقة عليه وإعادته إلى مجلس النواب وإحالته على الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين لأنه يمس بالمساواة بين الجميع في تونس.