ما إن تبدأ ساعات الفجر الأولى في العاصمة عمّان، وتعانق خيوط الشمس أحياءها وحواريها، حتى ينتشر آلاف من الذين يعتاشون على مهنة "نبش حاويات القمامة".
نساء ورجال وحتى أطفال من مختلف الأعمار، يلتقطون كلّ ما تطاوله أيديهم ويمكن بيعه أو الاستفادة منه على نحو يؤمّن لقمة العيش لحوالي ستة آلاف شخص ينخرطون يومياً في هذه المهنة وفق تقديرات غير رسمية. وهذه المهنة أفرزتها الظروف الاقتصادية الصعبة، وأجبرت كثيرين على التحوّل مرغمين إلى أدوات لإعادة التدوير.
تجارة ومنافسون!
(أبو محمد) الذي يعمل في هذه المهنة منذ حوالي 15 عاماً، يقول إنه يجمع الكرتون والألمنيوم والنحاس وعلب المشروبات الغازية والأجهزة الكهربائية والأثاث المستعمل وكلّ ما يمكن بيعه بدخل شهريّ لا يقل عن 500 دينار. ويشير إلى أن الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعاني منها الأردنيون، انعكست في ما يبدو على ما يتم التخلص منه، فلم تعد حاوياتهم تتسع كما في السابق.
أبو محمد، ليس وحيداً في هذا المجال، فثمة منافسون كثر له خصوصاً "التجار" الذين يتجولون في الحارات والأزقة بسيارات النقل الخاصة، ويلتقطون كل ما يمكن أن تطاوله أيديهم، وإذا تعذر ذلك فإنهم يقومون بشرائها من أصحابها بأثمان بخسة.
"نابشو الحاويات"
يروي (أبو العبد) وهو تاجر خردوات، كيف أن (نابشي الحاويات) يشكلون مصدر إزعاج له ولزملائه الذين لم يعودوا يجدون ما يمكن التقاطه كما في السابق، خصوصاً أن عدد هؤلاء في تزايد مضطرد بل إن بعضهم سيطر على مناطق يحظّر على الآخرين الدخول إليها. ولعمال النظافة في الأردن أيضاً نصيب من الشكوى من ظاهرة "نبش الحاويات"، إذ يبدي (حسن المصري) عامل نظافة في أمانة عمان "بلدية العاصمة" منذ أكثر من عشر سنوات تبرّمه من هذه الظاهرة التي تشكل عبئاً إضافياً عليه وعلى زملائه. ويضيف حسن، أن أغلب أوقات جمع القمامة من الأحياء تكون فجراً، وكثيراً ما نجد بعض الحاويات وقد نبشت في شكل فوضوي ما يتطلب معه التنظيف وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
الفقر... وجه آخر
المصوّر الصحافي فارس خليفة متخصّص في التقاط الظواهر الاجتماعية عبر كاميرته في العاصمة عمان ورصدها، يرى أن الأمر لا يعدو كونه تعبيراً مؤلماً عن الفقر والحاجة اللذين حلاّ ببعض الأردنيين. ويروي خليفة، كيف شاهد في العديد من المرات رجالاً ونساء وأطفالاً يقتاتون على ما تبقى من ولائم وأطعمة في حاويات القمامة، أو استصلاح ما أمكن من ملابس وأدوات قديمة. ويعتقد خليفة الذي يوثّق هذه المأساة بالصور، أنها ظاهرة لم تكن موجودة في الأردن قبل نحو 15 سنة، وأنها مرتبطة بتراجع الوضع الاقتصادي وزيادة عدد الفقراء.
من الحاويات إلى "تجارة الأعلاف"!
أحد أهم الأمور التي يقوم بها "نابشو الحاويات"، هي جمع الخبز وتجفيفه وبيعه لاحقاً إلى تجار المواشي الذين يستخدمونه علفاً لمواشيهم. ومنذ سنوات، ينشط عدد من نابشي حاويات القمامة لجمع الخبز قبل تنشيفه بكميات كبيرة ورفد سوق المواشي في شكل يدرّ دخلاً شهرياً، ما يدفع (أبو العبد) أحد أبرز العاملين في هذه المهنة للقول، إن من إيجابيات عمله التخلّص في شكل إيجابي من الخبز الذي يتراكم بكيمات كبيرة في الحاويات.
مربّو المواشي بدورهم، يبحثون عن أيّ وسيلة، لتقليل كلفة تربية مواشيهم فيجدون في جامعي الخبز المجفّف ضالتهم، بعد ارتفاع أسعار الأعلاف في شكل كبير. و يقول إبراهيم العواملة أحد مربي المواشي، إنه يعتمد كلياً على الخبز الجاف لإطعام نحو 200 رأس غنم يملكها، ويضيف، حصتي من الأعلاف المدعومة ثلاثة أطنان ونصف الطن من الشعير والنخالة شهريّاً، ثمنها 580 ديناراً تقريباً، لكنها لا تكفي.
اقتصاد هامشيّ وفرز اجتماعيّ قاس!
يُرجع الكاتب أحمد أبو خليل الذي يرصد ظاهرة نبش الحاويات، الأمر، إلى بدايات العام 1997 في العاصمة عمّان حيث كان يمتهنها بضع عشرات يعرفون بعضهم بعضاً، ولكل منطقته الخاصة.
كانت الظاهرة تقتصر على أحياء عمان الغربية وفق الكاتب والصحافي أبو خليل، وكان العاملون يُعرفون في السوق باسم "السرّيحة الليليين" في مقابل "السريحة النهاريين" وهم المتجولون بسيارات "البك أب" بحثاً عما هو مستعمل من أثاث وأغراض مختلفة. لكن 20 عاماً من النمو لهذه الظاهرة الاقتصادية الاجتماعية، أفرزت تبعات جديدة من قبيل بحث العاملين في هذه المهنة عن مواد قابلة لإعادة التدوير ودخول المرأة إلى المنافسة.
ويوضح أبو خليل، أن هذه الظاهرة كانت تلتصق بفئات اجتماعية معينة، لكنها اليوم متاحة للكل وعلى أوسع نطاق، فلم تعد أمراً معيباً ولها قبول اجتماعي بخاصة مع اتساع رفض الأردنيين ثقافة العيب.
الاقتصاد الهامشيّ
تُصنّف هذه المهنة على أنها من ضمن الاقتصاد الهامشيّ ولا خطورة فيها، ذلك أن العمل في مجال تدوير النفايات يعدّ ظاهرة عالمية، يضيف الكاتب أحمد أبو خليل. لكن ميل الظاهرة إلى فرز اجتماعيّ قاسٍ، هو ما يقلق، بما يعني أن فئة تعيش على فضلات ومتبقيات فئات أخرى. ويختم أبو خليل، أن هذا العمل قد يدرّ دخلاً جيداً على ممتهنيه، لكنه في المقابل يُدخلهم عنوةً في ميدان التهميش والإقصاء، ما يعني تهميشاً اجتماعياً أكثر قسوة.