في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام تُطلق صالات المزادات العالمية في لندن عروضها، وتحديداً في فنون العالم الإسلامي والهندي، وتستعد دور المزادات في لندن لهذا الموسم قبل أشهر تجمع خلالها عدداً من القطع النادرة التي تضم المصاحف النادرة والمخطوطات والأسلحة والقطع الأثرية النفيسة. وعلى رأس تلك الدور معرض "دار سوذبيز" لفنون العالم الإسلامي والهندي، و"دار كريستيز".
بالتأكيد، سيشتري مهتمون كُثُر عدداً من هذه المعروضات، وسيبلغ ثمن بعضها مبالغَ كبيرة أحياناً تكون متوقعة، وأحياناً تأتي الأسعار مرتفعة جداً، أو منخفضة جداً لبعض القطع، وبشكل غير متوقع، بالنسبة للمزايدين والعارضين ولأصحاب هذه القطع.
كلنا نمتلك الفضولية لمعرفة كيف يتم تحديد أسعار القطع الفنية، سواء الأثرية والتاريخية منها، أو المعاصرة. فلماذا تباع قطعة بملايين الدولارات أو تتلقى لوحة مبلغاً كبيراً ربما لا تستحقه؟ ومن يضع الأسعار؟ ومن يتحكم بصعودها وهبوطها؟
الفن رسالة أم سلعة؟
انشغل عالم الفن شرقاً وغرباً قبل أشهر بعمل الفنان ماوريتسيو كاتيلان، وهو فنان إيطالي من مواليد عام 1960؛ العمل الذي عُرض في معرض "آرت بازل" بمدينة ميامي الأميركية، وحمل عنواناً "كوميدياً"، هو عبارة عن ثمرة موز مثبتة بلاصق بلاستيكي على أحد جدران القاعة، وبيع منه ثلاث نسخ، قدرت كل واحدة بأكثر من 120 ألف دولار.
كان أثر العمل على متابعي الحركة الفنية وغير المتابعين، حاداً وقوياً ومصحوباً بعاصفة من الجدل والنقاش. ولم يخلُ الجدل والنقاش حول هذا العمل من السخرية. وأعاد هذا العمل إلى الضوء بعد بيعه السؤال الأزلي، عمن يحدد قيمة عمل فني ما، والسؤال الثاني من يحدد أنه عمل فني أساساً؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من الفوضى العارمة في سوق الأعمال الفنية في هذه المرحلة، فإن فنانين ونقاداً كثيرين ما زالوا يعتبرون العمل الفني هو رسالة وهو غاية بذاته، وليس وسيلة لجمع المال، ولا يمكن التعامل معه كسلعة، لذا يرفض فنانون كثيرون وضع ملصقات الأسعار قرب أعمالهم في المعارض، لكن هذا النقاش ليس جديداً، فلطالما اعترف سلفادور دالي بقوله "كل ما يهمني هو المال". بينما وضع آندي وارهول علامات الدولار على الورق، من أجل إفقادها قيمتها ومعناها، وقام بتعليقها كأنها أشياء غير ذات معنى.
الاستثمار بـ"سلعة" الفن
كثيرون ما عادوا يكترثون لمقولة إن الفن رسالة، وباتوا يرون أنه من المستحيل فك الارتباط بين الفن والمال، وبين العمل الفني وثمنه. في عام 1675، كتبت النبيلة الفرنسية مدام دي سيفينيه أو (الماركيز Marquise de Sévigné) أن اللوحات كانت مثل سبائك الذهب ويمكن بيعها في أي وقت بضعف سعر الشراء. في ذلك الوقت، أي في القرن الـ17، كانت الطفرة الفنية الأولى في العصر الذهبي الهولندي، حين باتت هولندا دولة تجارية وقوة عالمية وورشة عمل فنية عملاقة. فقد أُثريَ الهولنديون بشكل غير عقلاني بسبب موارد مستعمراتهم. وأراد هؤلاء الأثرياء الجدد استغلال أموالهم بعدما احتاروا في طرق تصريفها، فكانت الأعمال الفنية الوجهة الأساسية للاستثمار. فزينت القصور والقاعات والصالات الرسمية باللوحات والأعمال الفنية القادمة من جميع أرجاء العالم، ونشأ سوق الفنون، الذي أصبح سوقاً استثمارية بامتياز.
ومع ذلك، فإن عملية العرض والطلب في السوق الفني لطالما اتصفت بالوحشية، فهناك عدد قليل من الفنانين "الأمراء" الذين تُباع لوحاتهم بالملايين، بينما 95 في المئة من الفنانين لا يستطيعون كسب عيشهم من فنهم.
يقول البروفسور كاسبر كونيغ في إحدى مطالعاته، إن هناك قوانين سوق خسيسة تحدد القيمة المالية لعمل فني ما، ولا يمكن أن تكون "الجودة" بحد ذاتها من يحدد هذه القيمة، فبرأيه، يمكن لفنان شاب ذي إنتاج غزير، لكن لا يفي بأعلى معايير الجودة، ولكنه يملك بعض الأفكار الواضحة أو المثيرة للاهتمام، أن يتبناه أحد المعارض الذي يقوم بتنشيط شبكة كبيرة مثل الصحافة والنقاد ووسائل الإعلام على اختلافها، وبعد ذلك يقوم بجذب دائرة من هواة الجمع الأقوياء الذين يبدأون في شراء هذه الأعمال، فينتقل الفنان الشاب من كونه مغموراً إلى عالم الشهرة، وهذا ما يؤكد أن العلاقات العامة قد تكون أقوى من جودة أعمال الفنان أو موهبته في تحديد قيمته.
جماعة "المؤثرين"
بما أنه ليس للفن "قيمة وظيفية"، أي إنه لا يمكن استخدامه عملياً مباشرة بعد شرائه على عكس السلع الأخرى، ولأنه من الصعب تحديد جودة الأعمال الفنية من حيث المبدأ، ولا يمكن تحديد سعره من خلال تكلفة إنتاجه، وفقاً لأستاذَي علم الاجتماع ينس بيكيرت ويورج روسيل في مقالهما "الفن والأسعار"، فإن المشتري المحتمل للفن يواجه مشكلة "عدم اليقين الأساسي".
لذا، فإنه لرواج العمل الفني بات الفنان وعمله يحتاجان إلى الأشخاص الذين يقيمون الأعمال الفنية، من نقاد الفن ومؤرخي الفن وأصحاب المعارض، من أجل ترويج عمل فني ورفعه من مقام "المجهول" إلى "المشهور"، وهذا يعني أن العمل الفني لا يصبح عملاً فنياً من خلال خصائصه المادية، بل من خلال الخصائص المنسوبة إليه من قبل المؤثرين في عالم الفنون، أي الفنانين والنقاد وأصحاب المعارض ومديري المتاحف والقيمين وجامعي التحف، لكن حتى "المؤثرين" فقد تراخت سُلطتهم في التقييم الفني في الزمن المعاصر، حيث إن التسويق على شبكة الإنترنت يبلغ أوجه، فعبر شبكة التواصل الافتراضية تنشأ اتحادات التجار والمعارض لتشكيل شركات كبيرة وتنطلق المنافسة، ما يؤدي إلى تركيز الطلب على الفنانين الذين ترعاهم هذه الشركات العاملة على مستوى العالم.
ووفقاً للأرقام المتداولة في السوق العالمية فإن 30 إلى 40 فناناً فحسب "تخدم أعمالهم أذواق نُخبة المال العالمية". وكما كتب مالك معرض "نيويورك" ليو كاستيلي، في نهاية الستينيات، "كلما بات الفنان معروفاً، نُظر إليه من منظور الاستثمار"، خصوصاً بعد اعترافه أننا "كلنا فاسدون بالمال". فهدف المُقتنين والمُشترين وجامعي التحف والمقتنيات الأثرية "ليس بأي حال من الأحوال بناء مجموعة فردية خاصة ذات أهمية من حيث تاريخ الفن، بل الهدف محدد بوضوح، وهو عائد الاستثمار. وبالطبع لا يتم عرض الأعمال المُشتراة في مكان ما، بل يتم تخزينها في مستودعات مستأجرة، مُعفاة من الرسوم الجمركية".
جمالية المستهلك
الناقدة أولي سيجرز التي نشرت كتاباً بعنوان "الأخلاق في سوق الفن"، ترى أن القيمة الفنية لعمل ما باتت تتشكل من خلال "جمالية المستهلك". وتقليدياً، كان المتحف هو الذي يحول الفن التجاري أو الفن غير المقبول اجتماعياً أو الذي لا يلقى قبولاً في ذائقة النقاد، إلى كائن جمالي. ومع ذلك، فإن المتاحف نفسها باتت تتعرض لضغوط مالية متزايدة، وبالكاد تستطيع المنافسة على شراء الأعمال الفنية عندما ترتفع أسعار السوق. ومع ذلك، عندما يدخل العمل الفني إلى المتحف فإنه يترك عالم السوق والضجيج التجاري.
يقول البروفسور كاسبر كونيغ، مدير متحف لودفيغ في كولونيا، إن "المتحف يُعيد القيمة الاعتبارية لأي عمل فني ويخرجه من إطار الاستهلاك. المتحف ليس غرفة مبيعات، والقيمة الاقتصادية فيه ثانوية. هناك أشياء كثيرة ذات قيمة قليلة في السوق، ولكنها مهمة للغاية في تاريخ الأفكار - في وعي جيل معين - هذا جزء من تلك الجمالية".
وبحسب النقاد الأوروبيين والأميركيين العاملين في كبريات الصحف ووسائل الإعلام المعنية بتحديد القيمة الفنية لأي عمل، فإنه حان الوقت لتقرير ما إذا كانت الضجة التي تبلغ قيمتها مليون دولار ستصبح أيضاً عملاً فنياً مهماً تاريخياً مطبوعاً على الذاكرة الثقافية للمجتمع.
وبرأي الناقدة سيجرز "هناك فنانون حققوا نجاحاً مُذهلاً في حياتهم، وتم بيع أعمالهم بمبالغ كبيرة، ومن ثم تم نسيان أعمالهم تقريباً بعد عقود، وبقيت مُخزّنة في المستودعات والأقبية".