دعا ما يسمى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" في شرق السودان إلى مؤتمر أطلق عليه "مؤتمر السلام والتنمية والعدالة" تحت شعار "تثبيت الحقوق التاريخية" مع عنوان فرعي آخر "وحدة البجا فوق كل القضايا".
المؤتمر سينعقد اليوم الأحد الـ27 من سبتمبر (أيلول) 2020 في سنكات (مدينة صغيرة بشرق السودان). وبطبيعة الحال في أي مؤتمر يحمل عناوين محددة، سيكون من الضرورة بمكان وجود أوراق عمل تناقش عبرها قضايا المؤتمر من ناحية، ومن ناحية أخرى بما أن المؤتمر يناقش قضايا إقليم البجا، فإن وجود جميع المكونات التي تدخل في مسمى البجا من البديهي أن تكون ممثلة في المؤتمر، إلى جانب بقية مكونات الشرق.
فإذا حاولنا أن نبحث عن الأوراق المعلنة التي ستناقش في المؤتمر، لا نكاد نجد في أي إعلان من إعلانات المؤتمر حديثاً عن أوراق عمل بحثية خاصة بقضايا التنمية والسلام والعدالة، ما سيعني أن الجهة التي دعت إلى هذا المؤتمر، وهي جهة قبائلية كما هو واضح من اسمها (المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة)، بالتالي فإن طبيعة الاختصاص الذي تهتم به مثل هذه الجهات (القبائل) هو بالضرورة أمر لا علاقة له بقضايا التنمية والعدالة، مع إمكانية أن تلعب الإدارة الأهلية دوراً مقدراً في صناعة السلم الأهلي، وإذا ما أخذنا أحد شعارات المؤتمر الذي يقول (وحدة البجا فوق كل القضايا) سنجد أن هذا المؤتمر، وفي حدود علمنا وبحثنا، سيغيب عنه أحد مكوني البجا أي ناظري (بنو عامر والحباب)!
فإذا كان المجلس مجلساً أعلى لنظارات البجا فلماذا لا يكون هناك تمثيل لناظرين بجاويين في شرق السودان هما "دقلل علي إبراهيم" (ناظر قبائل بني عامر بشرق السودان) وكنتيباي (حامد بن كنتيباي محمود) ناظر عموم قبائل الحباب؟ غياب هذين الناظرين يعني أن المؤتمر لا يعبر في الحقيقة عن أحد شعاراته (وحدة البجا)، ويمكن لأي ضيف أو مشارك رسمي من الحكومة القومية، (هناك أنباء عن مشاركة الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي" نائب رئيس مجلس السيادة)، مثل الفريق محمد حمدان حميدتي أن يتأكد من حقيقة مشاركة ناظري بني عامر والحباب في هذا المؤتمر، لكي يكون بالفعل مؤتمراً يعكس تمثيلاً شاملاً للبجا بقسميهم (الناطقون بالبداويت والناطقون بالتقراييت)، كما كان ذلك واضحاً في التأسيس التاريخي لأول كيان سياسي في تاريخ البجا عند قيام مؤتمر البجا في 1958 بقيادة محمد طه بليه، وتمثل فيه البجا بمكونيهم الناطقون بالبداويت والناطقون بالتقراييت (كان مقرر المؤتمر آنذاك المؤرخ السوداني الكبير محمد صالح ضرار، وهو من مكون بني عامر الناطقين بالتقراييت).
وعلى ضوء ما قدمنا، إذا اتضح أنه ليست هناك أوراق عمل تناقش قضايا التنمية والسلام والعدالة، حسب ما رأينا من غياب لها في الإعلانات، من ناحية، وإذا رأينا أنه ليس هناك تمثيل لقسم من البجا مكون (بني عامر والحباب) في شرق السودان، من ناحية ثانية، سيتجلى لنا بوضوح أن هذا المؤتمر في حقيقته هو إعادة إنتاج لخطاب ما سمي (بالمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة)، لا سيما أن شعار المؤتمر هو "تثبيت الحقوق التاريخية".
بطبيعة الحال جميع المتابعين والمراقبين لنشاط ما سمي بـ(المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة) يدركون طبيعة خطابه، وهو خطاب انعزالي إقصائي عنصري يقوم على أربع سرديات سياسوية هي عبارة عن أوهام مضللة، الهدف منها استئناف الخطاب السياسوي للإدارة الأهلية الذي صممه نظام الجنرال عمر البشير لتدمير البنية السياسية للسودان عامة، وشرق السودان بصفة خاصة، لأنه الأكثر تخلفاً في أقاليم السودان، ويعلو فيه خطاب العصبية والقبائلية، وكذلك استعادة امتيازات قديمة ولّت بسقوط نظام الإنقاذ عبر ثورة الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) المجيدة.
ولأنه من المستحيل استعادة خطاب المؤتمر الوطني، لأنه أصبح اليوم عاراً، فإن حيلة هؤلاء هي اليوم في استثمار العصبية القبائلية وتوظيفها في مجال عمل سياسوي خطير، إذا لم تنتبه الدولة إلى خطورته فسيكون شره مستطيراً على شرق السودان.
والسرديات الأربع المضللة في الخطاب السياسوي للمجلس الأعلى لنظارات البجا، هي أولاً، إعلانهم بوضوح مقايضة السلم الأهلي في مقابل أي قرارات سياسية أو نتائج اتفاقات سلام تعزلهم عن المشاركة، ولا تلبي مطالبهم. أي بعبارة أخرى التهديد بتفجير السلم الأهلي واختطافه في حال عدم الاستجابة لمطالبهم. وربما يتساءل سائل: أليس للبجا مطالب مشروعة؟ والجواب القاطع والحاسم: نعم فالبجا هم أول مكون سوداني بأولوية التنمية ضمن بند التمييز الإيجابي في أي خطة قومية للتنمية.
لكن، هل يمثل القائمون على أمر المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة البجا جميعاً؟ ستكون الإجابة بلا كبيرة، لأن أحد الذين يقودون هذا المجلس هو موسى محمد أحمد، رئيس أحد فروع حزب مؤتمر البج. وموسى هذا كان حتى يوم سقوط الجنرال عمر البشير في الـ11 من أبريل (نيسان) 2019 مساعداً للطاغية وساكناً معه في القصر الرئاسي.
أما الشخص الثاني الذي هو في تقديرنا من يخطط بأفكاره الكارثية لهذا المجلس فهو سيد علي أبو آمنة، وهو أيضاً كان في يوم من الأيام أميناً لأمانة شباب حزب المؤتمر الوطني بولاية البحر الأحمر. بالتالي حين يكون مثل هذين الشخصين وراء هذا المؤتمر فماذا سيتوقع منه البجا ومواطنو شرق السودان، سوى إعادة أسوأ كابوس للشعب السوداني، وهو نظام المؤتمر الوطني وهيهات؟
واستطراداً لذلك فإن التهديد بتفجير السلم الأهلي في حال تطبيق مسار شرق السودان (أحد اتفاقات الجبهة الثورية مع الحكومة) في منبر جوبا للسلام، يفتح باباً خطيراً للحرب الأهلية في إقليم شرق السودان، ويدل في الوقت ذاته، على أن هذا الجسم المسمى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا" جسم خطير، ولا يعكس في نشاطه أي تعبير لعمل سياسي سلمي مشروع.
ثانياً، تحت مسمى الحقوق التاريخية، ويقصد بها قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا، تعويم سردية فذلكها المدعو سيد علي أبو آمنة، مفادها بما أن البجا الناطقين بالبداويت هم أصحاب أغلب أراضي شرق السودان (وهذه حقيقة)، فإن ذلك يقتضي بالضرورة في فهمه السقيم أن يكون البداويت هم أوصياء على عدم ولاية البجا الآخرين (الناطقين بالتقراييت)، مثل بني عامر والحباب، لأن أرضهم أقل من أرض البداويت في شرق السودان، وتتاخم الحدود مع دولة إريتريا؟!
وهم بذلك يهدفون إلى هدفين، الأول الإيحاء للحكومة القومية في الخرطوم بأن البجا غير حاكمين لأرضهم، بينما أن أراضي البداويت الواسعة في شرق السودان لا يكاد يسكن فيها سوى البداويت فقط، ما عدا المدن الخمس في شرق السودان (بروتسودان – كسلا – القضارف – القربة – حلفا)، والهدف الثاني، بما أن هذه المدن صفتها صفة قومية، بحيث يجوز لأي مواطن سوداني أن يتملك، وأن يتولى فيها أعلى المناصب، فإن هدف "منظري" المجلس الأعلى لنظارات البجا من أمثال سيد أبو آمنة في الحقيقة هو أن يحوز البداويت أكثر المناصب في تلك المدن أي بحجة، بما أنهم كبداويت (وليس البجا ككل) أهل الأرض فإنهم كذلك الأولى بأغلبية المناصب في المدن القومية!
وهكذا سنجد أنفسنا أمام منطق قبائلي ومنطق حيازات ما قبل الدولة. فالبداويت (الذين هم جزء من البجا) أهل أرض واسعة جداً في شرق السودان، نعم لكن أرضهم هذه أولاً كلها تقريبا (ما عدا المدن) هي ملك حصري لهم، ولا يوجد فيها غيرهم تقريباً، ثم إنها أرض سودانية تحت سيادة خريطة حدودية وجيوسياسية لجمهورية السودان التي يتيح دستورها لكل مواطن سوداني في أي بقعة من بقاع السودان، سواء أكان في أقصى حدود غرب السودان كمدينة "الجنينة" مثلاً، أو أقصى شرق السودان كمدينة "قرورة"، أن يتولى أعلى المناصب كرئاسة الجمهورية.
وسنجد أن مثل هذا الحق الدستوري الذي يكفل الحق لكل سوداني في أن يتولى المناصب السيادية، لا يستقيم مع منطق الحيازة ومنطق ما قبل الدولة الذي يسوق له المدعو سيد علي أبو آمنة بين البسطاء من متابعيه عبر فيسبوك والواتساب، كما لو أنه منطق سليم، لهذا لا يجد المتابع أحاديث هذا الشخص (سيد علي أبو آمنة) كلاماً عن المواطنة أو الدستور، أو سيادة الدولة على حدودها، بما يعني أن كل من داخل هذه الحدود له حق أصيل، في أن يتولى أعلى المناصب في الدولة من أي بقعة حدودية كان داخل خريطة السودان.
هكذا يجري تعويم خطاب القبيلة والعصبية على حساب المواطنة، وتعويم الحيازات القبلية على حساب الحدود الجيوسياسية والسيادية للسودان، للأسف عبر هذا الخطاب المضلل لما يسمى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالثا، ولأن المجلس الأعلى لنظارات البجا يحصر مسمى البجا حصراً تعسفياً في الناطقين بالبداويت بهدف إخراج الناطقين بالتقراييت من البجا كبني عامر والحباب من مسمى البجا من دون أي دليل من منطق أو تاريخ أو حقيقة عن البجا يمكن أن يجدها الباحث في أي كتاب من الكتب عن تاريخ البجا، فإن المجلس لكي يتسق أمره مع تلك السردية المضللة والساذجة عن الهوية البجاوية، يضيف إلى ذلك سردية أخرى وهي بما أن بني عامر والحباب لهم مناطق أقل من مناطق البداويت في شرق السودان من ناحية، ولأن مناطقهم تتاخم الحدود الإريترية، ويقع قسم داخل إريتريا (مع أن هناك قسماً من الناطقين بالبداويت -الهدندوة- هم أيضاً يمتد وجودهم إلى إريتريا ضمن ما كان يسمى تاريخياً بإقليم البجا) من ناحية أخرى، فإنه كما جرى نفي اسم البجا عن بني عامر والحباب، فكذلك من المهم إيهام المركز في الخرطوم وبقية السودانيين بأن بني عامر والحباب غير سودانيين (بعضهم يميز بين بني عامر تاريخية وبني عامر لاجئين)، لكن في الخطاب السياسي العام، خصوصاً للمركز في الخرطوم، يغلب على المجلس الأعلى لنظارات البجا وصف بني عامر والحباب بأنهم لاجئون.
هكذا يتسق لهم في سرديتهم المضللة التي يروجونها لبقية السودانيين أن بني عامر والحباب ليسوا بجا أولاً، بالتالي ليسوا سودانيين ثانياً؟! ومن ثمّ ليس لهم حقوق في حكم السودان، ولهذا اتهمني المدعو سيد أبو آمنة بأنني أجنبي وهو في اتهامه ذاك كذاب أشر، لكي يجري تضليل البسطاء بتلك الأوهام والأباطيل المريضة في الخطاب السياسوي لما يسمي بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا".
رابع هذه السرديات التي تعتبر نتيجة للسرديات الثلاث المضللة، تتمثل في مطالبة المجلس الأعلى لنظارات البجا، الذي ينظم مؤتمر سنكات المزمع عقده اليوم ولمدة ثلاثة أيام، المطالبة بمراجعة الجنسية والرقم الوطني، إلى جانب رفض مسار جوبا، لاعتقاد القائمين على المجلس الأعلى لنظارات البجا أن بعض قادة الفصائل السياسية التي تمثل شرق السودان في المسار ليسوا سودانيين كالأمين داوود، وبناء على ذلك جرى رفض ولاية الوالي صالح عمار الذي كلفته حكومة الثورة السودانية والياً لكسلا.
القائمون على المجلس الأعلى لنظارات البجا في إلحاحهم الدائم بمطالبة مراجعة الرقم الوطني يحاولون تضليل السودانيين في بقية السودان، بأن كل بني عامر والحباب ليسوا سودانيين، ويوحون للناس كما لو أن المجلس جهة حكومية عليها القيام بذلك، والحقيقة أن إيحاءهم الخطير هذا هو شكل من أشكال الدعوة إلى أخذ القانون باليد، وذلك باب عريض للفوضى والحرب، ولن تقره عليهم أي دولة أو سلطة تحترم القانون، كالحكومة السودانية، لأن ذلك سيتسبب في فتنة أهلية وتأجيج خطاب كراهية وعنصرية قد يؤدي بشرق السودان إلى أتون حرب أهلية طاحنة. لهذا حذر رئيس الوزراء في المؤتمر الاقتصادي الأول يوم أمس السبت أن ما يمكن أن يحدث في شرق السودان خطير وخطير جداً.
هكذا بدت لنا هذه السرديات الأربع المضللة التي يعمل المجلس الأعلى لنظارات البجا على ترويجها ليل نهار في خطابه السياسوي المضلل وعبر الحجج المتهافتة للمدعو سيد أبو آمنة، أنها بمثابة سرديات لن تقنع أحداً لا في الإعلام المسؤول، كالصحف، ولا في دوائر الدولة التي تحكم السودان وفق الدستور والسيادة، لأنها حجج لا تستحق النقاش ابتداءً، وهي تعبير عن فهم قروسطي وما قبل الدولة، من خلال الحديث عن مفهوم قديم لسيادة حيازية مستقلة على الأرض خارج هوية الوطن والحدود السياسية للدولة وقيم الدستور والمواطنة.
ولهذا كان خطاب ناشطي المجلس الأعلى لنظارات البجا في الأوساط الإعلامية والحكومية في الخرطوم بمثابة فضيحة، فلم يستجب أحد لمطالبهم العدمية في كل دوائر مركز القرار لحكومة الثورة.
يبدو أن قيادات المجلس الأعلى للبجا حتى الآن غير مدركة التغير العظيم الذي أحدثته ثورة الـ19 من ديسمبر 2019 حين يحاولون باستماته إعادة السلطة الإدارية المتخلفة لنظام عمر البشير الذي يقوم على المحاصصات القبيلة. وكان ذلك سبباً في الوصول بالسودان إلى هذه الحالة الخطيرة من الانسداد والتخلف والعدمية السياسية التي نتجت عن نظام تسييس الإدارة الأهلية من قبل حكومات الإنقاذ المتعاقبة، كما كان أشقى الناس بذلك التجريب السياسوي الخطير للإدارة الأهلية في الشأن العام، هم أهل شرق السودان.
علينا أن لا نستبق الأحداث في ما يمكن أن يتمخض عنه مؤتمر مدينة سنكات، لكن بما أن الجهة المنظمة لهذا المؤتمر هي جهلة قبائلية كـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" فإن في حال تغييب ناظري بني عامر والحباب، وهما على رأس من يمثلون القسم الناطق بالتقراييت من البجا في شرق السودان، عن المشاركة في هذا المؤتمر فإننا لا نتوقع أن يصدر عن هذا المؤتمر ما هو معلن عنه من سلام وتنمية وعدالة. سنرى!