بعد الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى بيروت وما حملته من اتهامات صريحة لـ "حزب الله" بتقويض الاستقرار الداخلي، مقرونة بالكشف عن التوجه الأميركي الجدي لاتخاذ إجراءات ترمي إلى مزيد من التضييق المالي على الحزب، لم يكشف بومبيو عن طبيعة هذه الإجراءات، وإن كان معظم المراقبين في بيروت أجمعوا على أنها تصب في سياق التشدد في تطبيق قانون الحظر المالي على الحزب أو ما يعرف بقانون العقوبات الاقتصادية والمالية.
الصحة... والعقوبات على إيران
على الرغم من فشل الضغوط التي مارستها واشنطن من أجل الحؤول دون وصول أحد كوادره إلى تبوؤ مناصب وزارية حساسة، نجح "حزب الله" في تسلم حقيبة وزارة الصحة، ما زاد في المخاوف خصوصاً أن أداء الوزير وُضع تحت المجهر الأميركي في شكل دقيق من أجل تلمس أي ممارسات يمكن أن يلجأ إليها الحزب، وتتيح له أو لطهران التملص من سيف العقوبات.
وتبرز المخاوف الأميركية انطلاقاً من معطيين، يفندها وزير سابق للصحة رفض الكشف عن اسمه. يكمن المعطى الأول في رغبة الحزب في الحصول على مورد مالي مرتفع ثابت ضمن وزارة الصحة التي تقارب ميزانيتها 500 مليون دولار، مع إمكانات مفتوحة لاستصدار قوانين استثنائية للإجازة للوزارة بفتح اعتمادات إضافية على غرار ما حصل العام الماضي عندما صادق مجلس النواب على مشروع قانون ملحق بمشروع موازنة 2018، يرمي إلى فتح اعتماد إضافي بقيمة 50 مليون دولار من أجل شراء أدوية السرطان، بعدما عجزت الوزارة عن تأمينها للمرضى (الذين يستفيدون من دعم وزارة الصحة)، نتيجة النقص في الاعتمادات.
كما أن الوزارة تتيح للحزب تقديم خدمات وتوفير طبابة مجانية لمؤيديه، ما يسمح له باكتساب تعاطف جمهوره، الذي كان تراجع منذ انخراط عناصره في الحروب في الإقليم ولا سيما في سوريا. أما المعطى الثاني، فيكمن في ارتفاع احتمالات لجوء الحزب إلى تشريع أو تسهيل بيع الأدوية الإيرانية في السوق اللبنانية، بما يتيح تسويقها في مواجهة العقوبات الأميركية. وهذا الموضوع كان أثاره وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارته إلى بيروت غداة تشكيل الحكومة في مطلع فبراير (شباط) الماضي.
القانون الأميركي يستثني "الصحة"
في القانون الأميركي، بنود تتيح لواشنطن معاقبة وكالات الحكومات الأجنبية التي تزوّد الحزب بالسلاح أو الدعم المالي بأي شكل من الأشكال، ولكنه يستثني المؤسسات الصحية. وهذا يقود المصدر إلى التساؤل عمّا إذا كانت واشنطن ستغض النظر عن أي دعم أو مساعدة يمكن أن تتلقاها وزارة الصحة اللبنانية، وتذهب وجهتها إلى توفير الطبابة لعناصر الحزب، أو أنها ستسقط هذا الاستثناء وتذهب إلى شمولية أكبر في إجراءاتها العقابية على الحزب.
وفي حين برزت مخاوف في هذا السياق من تدخل إيراني عبر تأمين أي نقص في الأدوية أو المعدات التي يمكن أن يحتاجها الحزب، كشف المصدر أن هذا الأمر لن يكون مطروحاً باعتبار أن أعلى نسبة استهلاك للأدوية الأميركية والأوروبية هي في الضاحية الجنوبية لبيروت، المنطقة الأكثر تركزاً لجمهور "حزب الله" والمعقل الأساس لقيادته. وهنا يبرز كلام نائب وزير الخزانة لشؤون تمويل الإرهاب مارشال بلينغسلي خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت، قبل أيام قليلة من تأليف الحكومة، وفيه أن الخزانة تراقب أداء وزارة الصحة لمنع الحزب من الاستفادة من مقدراتها.
"كاش" وخدمات
في تفنيده لموازنة وزارة الصحة، يكشف المصدر أن 85 في المئة منها مركزة على توفير الاستشفاء والأدوية المجانية، (165 مليار ليرة لبنانية أو ما يعادل 110 ملايين دولار للأدوية، و400 مليار ليرة أو ما يعادل 270 مليون دولار للمستشفيات)، ذلك أن الإنفاق على شؤون لوجستية أو إدارية أو رواتب لا يشكل أكثر من 15 في المئة.
هذا يعني، أن لدى الوزير الصلاحيات والقدرة على تحريك الموازنة وتوزيعها. ويضيف أن لا مساعدات مالية دولية، بل هي في غالبيتها عينية ومصدرها الأساس إما البنك الدولي أو منظمة يونيسف أو منظمة الصحة العالمية، وتوزع هذه المساعدات على مراكز الرعاية الصحية وعددها حوالي 240 مركزاً في كل لبنان، ولكن للمفارقة هي موجودة في معظمها في مناطق البقاع والجنوب (أي في مناطق نفوذ الحزب).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويكشف الوزير السابق عن دعم من البنك الدولي من خارج الموازنة بقيمة 150 مليون دولار ضمن خطة تمتد على خمس سنوات، وتبدأ اعتباراً من العام الراهن، مخصصٍ لدعم المرضى اللبنانيين والسوريين.
ويبدي المصدر تفهمه تمسّك الحزب بالحصول على وزارة الصحة، وقلق الولايات المتحدة الأميركية من هذا الأمر، نظراً إلى الإمكانات التي توفرها له للصمود ومواجهة التضييق الأميركي على منابع تمويله. فالوزارة بموازنتها الضخمة التي تحل رابعة بعد موازنات الدفاع والداخلية والتربية، تؤمّن أمرين أساسيين هما: المال والخدمات. وإذا كان المال يدفع نقداً أحياناً للمرضى أو يغطي تكاليف أدويتهم وعلاجاتهم، فإن الخدمات توفر قاعدة كبيرة وواسعة تتجاوز المرضى إلى كل من يعمل في المجال الطبي والاستشفائي، ويتجاوز عدد المستفيدين من خدمات هذه الوزارة 100 ألف سنوياً.
هل يمكن ضبط أداء الوزارة؟
يجيب المصدر أن الأمر ممكن، ولكن هامش الرقابة ضيق جداً. ويوضح أن واشنطن قادرة على الضغط على المنظمات الدولية من خلال وقف تمويلها لها بما يقلص نسبة إسهامها في لبنان، كما يمكنها رفع الاستثناء عن المؤسسات الصحية غير المشمولة بقانون العقوبات، إذ يطاولها التضييق المالي، وتوضع تحت مجهر المراقبة. كما يمكن متابعة مراسيم السقوف المالية للمستشفيات، إذ تبين مدى عدالة توزيعها على كل المناطق من دون استثناء، وما إذا كان الحزب يحظى بالنسبة الأعلى.
في المقابل، يتحسب "حزب الله" لهذا الأمر، ويحرص على التنبه والحذر والتيقظ لأداء الوزير في وزارة الصحة، تفادياً لأي عقوبات جديدة محتملة في ظل القرار الأميركي الحازم بتضييق الخناق على الحزب.