"كم أحبّ لندن"، كتب فينسنت فان غوخ في رسالةٍ إلى شقيقه تيو. فبين ربيع العام 1873 وأواخر العام 1976، عاش الفنان الهولندي في المملكة المتحدة - في العاصمة معظم الوقت، ولكن أيضاً في رامسجيت لفترة. ليست تلك مرحلة معروفة جداً من حياته، ويسعى معرض ذي شأن يُقام في متحف تيت بعنوان "فان غوخ وبريطانيا" في تغيير ذلك.
سيضمّ العرض 50 عملاً بريشة فان غوخ فضلاً عن فنانين بريطانيين من القرن التاسع عشر كان معجباً بهم (على غرار جون كونستابل) وفنانين بريطانيين من القرن العشرين ألهمهم (مثل فرانسيس بيكون). ولعلّ النقطة الأبرز التي ينبغي التشديد عليها هي أنّه في منتصف الأعوام 1870 لم يكن قد أصبح فناناً بعد.
انتقل إلى لندن قادماً من لاهاي في العشرين من عمره وكان موظفاً في مؤسسة غوبيل أند سي (Goupil & Cie) الرائدة في المتاجرة بالأعمال الفنية. كانت الشركة تفتتح فرعاً لها في ساوثامبتون ستريت قرب كوفنت غاردن وأُرسل فان غوخ إلى هناك للعمل موظفا مكتبيا. لم يبدأ الرسم إلّا بعد بداية الأعوام 1880 أي بعد مرور وقت طويل على مغادرته لندن. ما يعني أنّه لم يرسم أيّ لوحة قماشية عند ضفاف نهر التايمز أو في أحد مساكنه المستأجرة في بريكستون.
ما يقدّمه المعرض هو صورة لفنان المستقبل في شبابه، وهو الذي كان يعتاد المشي من العمل وإليه يومياً مروراً بجسر ويستمنستر وممر التايمز المنشأ حديثاً. خلال استراحات الغداء، كان المعرض الوطني هو المحج، فيما تجوّل في "منتزهات لندن الخلابة" في عُطل نهاية الأسبوع. في رسالةً إلى تيو قال: "أمشي قدر ما أستطيع... البلد جميل جداً هنا."
كما كان لديه ميل خاص إلى الزي المحلي وخصوصاً القبعة العالية مصرا على أن "ليس بوسعكم أن تكونوا في لندن من دون (ارتداء) واحدة".
بعدد سكّانٍ بلغ 4,5 مليون نسمة، كانت العاصمة البريطانية عام 1873 أكبر مدينة في العالم: تفوق ضعف حجم باريس وخمسين مرة أكبر من لاهاي. وتحدّث الكاتب الأميركي هنري جيمس الذي انتقل إلى لندن قبل أربعة أعوام من ذلك التاريخ عن "ضخامتها التي لا يمكن تصوّرها". فقد أصبحت لندن في ظلّ حكم الملكة فيكتوريا مرادفاً للسخام والقذارة والرائحة النتنة، غير أنّ ذلك لم يترك أيّ أثر على فان غوخ الذي ركّزت رسائله على منزله ذي "الحديقة الأمامية الجميلة " حيث زرع نبات الخشخاش والبازلاء الحلوة.
يبدو كلّ ذلك إيجابياً على نحو غريب بالنسبة إلى شخصية أصبحت مرتبطة بالكرب العقلي، ولعلّه من غير المفاجىء أن نعرف بأنّ أوقات فان غوخ السعيدة لم تدم طويلاً. ففي أوائل العام 1876 طُرد من عمله في غوبيل اند سي على إثر سلسلة من التصرفات غير اللبقة مع العملاء. وعاش اضطراباً إضافياً، تمثّل في تركه مسكنه في جنوب لندن منفطر القلب بعد أن أن تزوّجت ابنة المالكة التي وقع في حبّها بمستأجرٍ آخر. (صارت هذه الدراما المنزلية محور مسرحية بعنوان Vincent in Brixton (فينسنت في بريكستون) عام 2002 والتي حازت على جائزة أوليفييه المسرحية).
تلى ذلك نوبات من الاكتئاب وليال من النوم في العراء والبحث المضني عن عمل جديد. وجد عملاً كمساعد مدرّس في رامسجيت ومن ثم في ايزلورث ولكنه لم يولع بذلك.
خلال بضعة أشهر، قرّر بأن يصبح واعظاً - متأثراً في جزءٍ من ذلك "بالمناطق الفقيرة للغاية" التي كان يزورها في ضاحية ايست اند شرقي لندن. كانت مقاربته كنسية شمولية، متأصلة في منحى السلوى والعزاء عوضاً عن العقيدة الكنسية. استلهم كتابات المصلحين الاجتماعيين على غرار توماس كارليل وأصبح تشارلز ديكنز كاتبه المفضّل. (استمرّ هذا الحبّ بأعمال ديكنز طوال حياة فان غوخ. تُظهر رسوماته الشهيرة لصور مدام جينو، صاحبة المقهى في آرل [جنوبي فرنسا] والتي رسمها بين العامين 1888 و1890 نسخة عن رواية الكاتب الانكليزي "كريستماس تايلز" [حكايات عيد الميلاد] موضوعة على الطاولة أمامها).
في 29 أكتوبر (تشرين الاول) 1876، دخل فان غوخ إلى منبر كنيسة ريتشموند الميثودية (المنهاجية) وألقى أولى عظاته. اعتبر ذلك نجاحاً وسرعان ما كتب لشقيقه تيو أنّه "إن لم يكن مقدراً لي أن أعظ، فسيكون البؤس قدري".
وبالفعل، باشر في بلجيكا -في مقاطعة بوريناج الفقيرة لمناجم الفحم الحجري – مساره المهني واعظا لفترة وجيزة في أواخر أعوام 1870. في ديسمبر (كانون الأول) 1876، استقلّ السفينة لقضاء عيد الميلاد مع عائلته في هولندا وقرّر عدم العودة إلى المملكة المتحدة.
وتقول القيّمة على معرض "فان غوخ وبريطانيا" كارول جاكوبي إنّ "اتجاهات المعارض الحديثة تنحو إلى الابتعاد عن تصوير الفنان كشخصية عبقرية معذّبة وغريبة ، نحو تقدير انخراطه في قضايا الناس وأفكار عصره." فقد استضاف متحف فان غوخ في امستردام العام الماضي على سبيل المثال معرضاً عن تأثير المطبوعات اليابانية في الفنان.
كان فان غوخ رجلاً دنيوياً يتحدّث "الفرنسية والألمانية والانكليزية فضلاً عن الهولندية" على حدّ قول جاكوبي. و"خلال إقامته في بريطانيا، طوّر اهتماماً بثقافتها ولد بدافع الفضول الفكري".
ما شكّل مفاجأة بالفعل، هو أنّ فان غوخ انجذب بالثقافة الأدبية أكثر من الفنية. وتحمل رسائله 100 إشارة (بغالبيّتها إيجابية) إلى الروايات والقصائد البريطانية - بقلم ديكنز وتينيسون وجورج أليون وشارلوت برونتي وغيرهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمّا عن فنّ هذا البلد، فثمة إحساس بأنه لم يغير جذريا رأيه الذي عبّر عنه عقب مشاهدته معرض الصيف في الاكاديمية الملكية عام 1873: بأنّه كان، "مع بعض الاستثناءات، ضعيفاً". الاستثناء الملحوظ كان الرسوم الطباعية التي رآها في مجلات الأخبار على غرار "The Graphic" و"The Illustrated London News".
وقال أنّه أُعجب بخطوطها "الجريئة". غير أنّه، وبعيدا عن الأسلوب، كان أكثر ما جذبه معالجتها لمسائل الظلم الاجتماعي (كالتسمّم بالكحول والبطالة). "تحمل الرسومات الحسّ نفسه كديكنز، فهي نبيلة وصحية وغالباً ما يعود المرء إليها" على حدّ قوله.
وبرزت مسألة التواضع في العديد من رسومات فان غوخ في المستقبل التي جسّدت الفلاحين والعمّال. ولكن، لعلّه من الأفضل تجنّب ادّعاء التأثير المباشر الذي كان للندن على ما أصبحه الفنان لاحقاً. فمن الأفضل عوضاً عن ذلك النظر إلى تلك السنوات في بريطانيا على أنها إعدادية لفان غوخ الرجل كما كانت أوائل سنوات العشرين بالنسبة إلى كثير منّا.
لقد اختبر الكثير من المدّ والجزر، وهي مراحل طبعت حياته كبالغ - وكما تشير جاكوبي فإنّ "لندن لعبت دوراً محورياً في نظرته الشاملة" والتي تركّزت على التعاطف مع المضطهدين والمحرومين.
معرض فان غوخ وبريطانيا في متحف تيت البريطاني من 27 مارس (آذار) حتى 11 أغسطس (آب)؛ 020 7887 8888tate.org.uk
© The Independent