يعود اكتشاف الفوسفات (الفسفاط) في تونس، إلى أواخر القرن التاسع عشر (1885)، على يد البيطري الفرنسي، فيليب توماس. ومنذ ذلك التاريخ، باتت تونس من أكبر منتجي الفسفاط في العالم، إذ تمكنت عام 2010 من إنتاج أكثر من 8 ملايين طن، لتحتل المرتبة الثالثة عالمياً.
ويتم توجيه 80 في المئة من إنتاج هذه المادة إلى التصدير، بينما يُستهلك 20 في المئة في السوق المحلية. ويسهم هذا القطاع بأكثر من مليار دينار (0.330 مليار دولار) سنوياً في ميزانية الدولة، علاوة على طاقته التشغيلية التي تفوق 15 ألف عامل.
وتعتبر الأسواق الآسيوية والأوروبية والأميركية واللاتينية من أكبر المستوردين العالميين، لمادة الفوسفات التونسي، إلا أن تراجع الإنتاج في السنوات التسع الماضية، أفقد تونس مكانتها في هذه الأسواق.
وبعدما كانت تونس، تأمل بأن تنتج ما يفوق 15 مليون طن سنوياً، من خلال توسيع مجالات الاستكشاف، واستغلال مناجم جديدة للفوسفات، على غرار تلك الموجود في منطقة صراورتان (شمال غربي العاصمة التونسية)، إلا أن تنامي المطالب الاجتماعية، وتعطيل الإنتاج، حالا دون الوصول إلى تلك الأهداف.
وضع كارثي لقطاع الفوسفات
وعجزت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عن إيجاد حلول جذرية لأزمة التنمية في مناطق إنتاج الفوسفات، في محافظة قفصة (الجنوب الغربي)، التي كانت مهد الاحتجاجات الاجتماعية، في عهد الرئيس زين العابدين بن علي عام 2008، واعتُبرت بداية تصدع حكمه.
ووصف المدير العام للمجمع الكيماوي التونسي عبد الوهاب عجرودي، الوضع في الشركة بالكارثي، محذراً من انهيار القطاع. ووصف الحالة بـ"الانتحار الجماعي".
فلماذا وصل هذا القطاع إلى هذه الحال؟ وما هي الحلول الممكنة للخروج به، من أزمته الراهنة؟
قطاع الفوسفات المشغل الوحيد في المنطقة
تُعرف منطقة الحوض المنجمي بأوضاعها الاجتماعية الهشة، وبغياب التنمية والتشغيل طيلة عقود. ما جعل مطالب الشغل تتجه إلى شركة فوسفات قفصة، المشغل الوحيد في هذه المنطقة.
ولم تنجح الدولة التونسية في مختلف مراحلها التاريخية في إيجاد حلول جذرية في التنمية والتشغيل، لامتصاص غضب طالبي العمل، كما لم تنجح الحلول الوقتية التي وضعتها على غرار إنشاء شركات بيئية للغراسات والبستنة (تشغل حوالى 6300 عامل) في امتصاص الأعداد المتزايدة للمعطلين من العمل.
وقد أجج الوضع الاجتماعي والشعور بالغبن تجاه الدولة، موجة الاحتقان لدى سكان تلك المناطق، فتعطل إنتاج الفوسفات، وأصبح يهدد كيان هذا القطاع الحيوي والثروة الوطنية.
وتسببت موجة احتجاجات واعتصامات لمجموعات من طالبي الشغل، في أواخر مايو (أيار) الماضي، في تعطيل نشاط استخراج الفوسفات وإنتاجه. وهو تعطيل يطال إلى اليوم نشاط خمس وحدات لإنتاج الفوسفات التجاري في المنطقة، وعملية إمداد معامل المجمع الكيماوي التونسي في قابس والصخيرة والمظيلة.
خسائر بقيمة 260 مليون دولار
وترتبط شركة فوسفات قفصة عضوياً بالمجمع الكيماوي في قابس، الذي يحول مادة الفوسفات إلى مواد كيماوية أخرى، كانت تونس رائدة في إنتاجها وتصديرها، على غرار الأسمدة الكيماوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولتشغيل المجمع الكيماوي في قابس، يُنتظر أن تصل قبل سبتمبر (أيلول) 2020 إلى موانئ تونس، الشحنة الأولى من الفوسفات تستوردها البلاد من الجزائر، وهي البلد المنتج لهذه المادة. وذلك ضمن خطة للمجمع الكيماوي التونسي، تقضي بتوريد 40 ألف طن شهرياً، بما يتيح تكوين مخزون من الفوسفات ومواصلة إنتاج الأسمدة الكيماوية.
وتُعد هذه المرة الأولى في تاريخها، التي تضطر فيها تونس إلى استيراد الفوسفات من الخارج، لتحويله إلى أسمدة كيماوية، منذ أن بدأت في خمسينيات القرن الماضي تصنيع هذه الأسمدة.
وقدر المدير العام للمجمع الكيماوي التونسي عبد الوهاب عجرود، في تصريح إعلامي، قيمة خسائر المجمع من عام 2012 إلى غاية أواخر 2019 بحوالى 780 مليون دينار (260 مليون دولار).
تونس تخسر مواردها
وبحسب تصريح صحافي للمدير المركزي للإنتاج بشركة فوسفات قفصة خالد الورغي، فإن حصيلة يوليو (تموز) 2020 هي الأسوأ منذ مطلع العام الحالي، إذ لم تتجاوز كمية الفوسفات التجاري التي أنتجتها هذه المؤسسة 120 ألف طن مقابل توقعات بتحقيق 480 ألف طن.
من جهته، أكد الكاتب عز الدين سعيدان في تصريح إلى "اندبندنت عربية"، أن "تونس ما انفكت تخسر مواردها، بسبب الخيارات السياسية والاقتصادية الخاطئة للحكومات التي تعاقبت على تونس بعد الثورة".
وقال إن الاقتصاد التونسي يعيش مفارقة، مشيراً إلى أن تونس دولة تنتحر اقتصادياً ومالياً واجتماعياً. ويؤكد أن الانكماش الاقتصادي بلغ 21.6 في المئة، محملاً الأحزاب السياسية مسؤولية ما وصلت إليه البلاد من حالة وهن وركود.
وأضاف أن تونس قررت منذ ثلاثة أشهر استيراد 60 ألف طن من الأمونيتر (نوع من الأسمدة الكيماوية) بعدما كانت تصدر هذه المادة.
وعن الحلول الممكنة للخروج من هذا الوضع، أكد سعيدان أن الدولة التونسية عاجزة عن إيجاد حلول جذرية لحماية هذه الثروة الوطنية، من خلال فتح حوار جدي حول هذا القطاع وحمايته من الانهيار.
ودعا سعيدان إلى مراجعة السياسة المالية في تونس، من أجل امتصاص التضخم، والعمل على دفع الاستثمار ووضع برنامج إنقاذ هيكلي للاقتصاد الوطني.