عندما رحل المخرج والممثل الإنجليزي ريتشارد آتنبورو، عن عالمنا عام 2014، انشغل الناس والصحافة باستذكار فيلمه الأشهر الذي حققه عن جزء من سيرة "غاندي" كما بالحديث عن أنه كان قبل تحقيق هذا الفيلم يهجس بفيلم يوصله إلى المجد السينمائي الذي وصل إليه سلفه ومواطنه الكبير ديفيد لين بتحقيقه فيلمه الأكبر والأشهر "لورنس العرب" ومن هنا كان السؤال: هل تمكن آنتبورو من تحقيق ما عاش سنوات طويلة من عمره حالماً بتحقيقه؟ هل أتى فيلمه "غاندي"، مساوياً أو يدنو من تحفة دافيد لين الكبرى؟ وفي خضم السجال حول هذا الأمر وخوض المقارنة، التي لم تأت نتائجها في صالح آتنبورو على أية حال، نسي كثر فيلماً كبيراً آخر له، ربما لو استعادوه لكفاهم شر السجال: ففيلم "شابلن" الذي حققه عن جزء من سيرة الصعلوك الأشهر في التاريخ كان يكفي لإضفاء مجد على مخرجه يماثل المجد الذي حققه لين بـ"لورنس العرب".
حكاية لقاءين
حقق آتنبورو فيلمه "شابلن" عام 1992، في غمرة النجاح التجاري الذي حققه "غاندي". وللفيلم عن شابلن حكاية كان آتنبورو يحب أن يحكيها تتلخص في "لقاءين" كانا له في سنوات متفاوتة مع شابلن. الأول: أواسط الستينيات في مطعم في إحدى بلدات الجنوب الفرنسي حيث حول مائدة عامرة بأطايب الطعام، جلس كهل وزوجته ومن حولهما عشرة أشخاص سيتبين لمن يتفرس فيهم جيداً أنهم أبناء هذه الأسرة، على تفاوت أعمارهم. وإلى طاولة ثانية قبع رجل بدأ الشيب يتسلل إلى شعره، إنجليزي المظهر هادئ السمات ينظر إلى الطاولة الأخرى وهو يتساءل: هل يكون رب العائلة هذا شارلي شابلن حقاً؟ وقبل أن يفرغ الإنجليزي من تساؤله ينظر إليه الرجل الآخر مبتسماً بمودة ويقول له بفرنسية طريفة "بونسوار"! يذهل الإنجليزي إذ يكتشف أن الرجل هو، حقاً، شارلي شابلن... فيعجز حتى عن رد السلام. والثاني في بيت شارلي شابلن في سويسرا، الرجل الإنجليزي نفسه يدخل متجولاً في غرف البيت، لدراسة زوايا وأماكن تصوير فيلمه المقبل وحين يصل إلى غرفة نوم عبقري السينما الذي كان رحل قبل سنوات يفاجأ بتمثال نصفي للزعيم الهندي غاندي موضوعاً على قاعدة خشبية في مكان بارز من الغرفة... أمام ذلك التمثال يحسم أمره ويتخلى عن تردده قائلاً في نفسه: حسناً سأحقق هذا الفيلم عن حياة شارلي شابلن مهما كلفني الأمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان ذلك الإنجليزي في المرتين، ريتشارد آتنبورو الذي كان لا يزال في لقائه الأول مع شابلن في المطعم الفرنسي يخطو خطواته الأولى لكي يصبح مخرجاً سينمائياً، أما حين زيارته إلى بيت شابلن في سويسرا فكان سينمائياً ناجحاً فرضت أفلامه - القليلة على أي حال - نفسها على قطاعات واسعة من الجمهور حتى لو كان النقاد اعتادوا تهشيمها عند عرضها للمرة الأولى. حدث هذا مع فيلمه "جسر بعيد جداً" ثم مع "صراخ الحريةط، وبخاصة مع فيلم "غاندي" أهم وأضخم عمل حققه حتى ذلك الحين، والفيلم الذي أعطاه العديد من جوائز الأوسكار على الرغم من انتمائه إلى السينما الإنجليزية وعدائه المعلن لكل ما له علاقة بالسينما الأميركية. وإذ نتذكر هنا أن آتنبورو هو محقق فيلم "غاندي" نفهم دهشته حين شاهد تمثال الزعيم الهندي في غرفة نوم شابلن. فقد تذكر فجأة إعجاب الصعلوك الأفاق، بزعيم ثورة اللاعنف الهندية وأحسّ أن الثلاثي غاندي - شابلن - آنتبورو سوف يكتمل إن صنع بالفعل الفيلم الذي كان يداعب أحلامه منذ مدة. وحين حقق آتنبورو "شابلن" اصطدم من جديد بالنقاد الذين لم يستسيغوا حشر ثلاثة أرباع القرن من حياة سيد الفكاهة السينمائية في فيلم يستغرق عرضه ساعتين ويريد أن يقول كل شيء. ولكن هل يمكن حقاً قول كل شيء عن حياة شابلن في ساعتين أو حتى في عشرات الساعات؟
تلك الحياة الغنية حدّ التخمة
الجواب هو: أبداً، من دون أدنى تردد. إذ من المعروف أن حياة شارلي شابلن كانت شديدة الغنى والتنوع منذ طفولته في لندن البائسة التي تبدو كأنها طالعة من رواية لتشارلز ديكنز حتى طرده من الولايات المتحدة بضغط من إدغار هوفر رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي وتحوّله إلى منفيّ من ذهب يعيش في قصره السويسري وسط تبجيل العالم واحترامه، ووصوله أخيراً مرة أخرى إلى لوس أنجليس حيث كرّم في العام 1972 عن مجمل أعماله تكريماً ندر أن حظي به أيّ سينمائي آخر. حياة شابلن هي حياة السينما نفسها جمهورها وحياة هوليوود بنضالات صباحاتها الأولى، والصراعات التي اعتملت فيها وتحوّل السينما من مجرد عرض مشاهد ترفيهية إلى سينما ذات دلالات اجتماعية وفنية. لقد كان على الفيلم أن يروي هذا كله. هو رواه على أية حال ورواه بشكل لا بد من القول إنه كان مقنعاً ومع ذلك ظلت سمعة "غاندي" مسيطرة رافقت آتنبورو كاللعنة حتى أيامه الأخيرة.
مهما يكن من أمر، لو عاش ريتشارد آتنبورو عاماً آخر وخمسة أيام لأكمل التسعين ومع هذا حتى وفاته عن تلك السن المتقدمة ما كان في إمكان أحد أن يخمّن أنه حقاً بلغ هذه السن. فهو حتى أيامه الأخيرة كان من الحيوية والرغبة في العمل إلى درجة كان يعتبر معها من "شيوخ الشباب"... الشباب الذي عرف كيف يضخّه بقوة على الأقل في الأكاديمية الملكية للفن الدرامي التي كان يرأسها في بلده بريطانيا. وفي بريطانيا كان آتنبورو يعتبر مَعْلماً وصرحاً فنياً كبيراً منذ ما لا يقل عن سبعين سنة، إذ بدأ التمثيل في أدوار صغيرة سرعان ما راحت تكبر منذ العام1942 آتياً على طريقة كبار المبدعين الإنجليز من المسرح الشكسبيري.
بعيداً من سينما المؤلف