Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البريطاني ماثيو نيل يكشف التاريخ الخفي لسكان أستراليا الأصليين

"المسافرون الإنجليز" رواية متعددة الأصوات تتعقب مساوئ الإستعمار الأبيض

الروائي البريطاني ماثيو نيل (غيتي)

رواية "المسافرون الانجليز" للكاتب ماثيو نيل (1960)، ترجمها إلى العربية علي محمد سليمان ، (سلسلة إبداعات عالمية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت)، ونُشرت الترجمة في جزئين، يتألف كل منهما من 300 صفحة، ويضمان معاً 15 فصلاً، علماً أن طبعتها الانجليزية صدرت في العام 2000.

هي رواية تاريخية عن إبادة السكان الأصليين في أستراليا على يد المستعمرين البيض، والتي تمت على نحو ممنهج خلال نحو نصف قرن، من 1820 إلى 1870 فلم يتبق سوى القليل منهم ولكنهم كانوا هجيناً؛ نتيجة اغتصاب أشخاص بيض لنساء أصليات، ومعظم المغتصبين من عتاة الإجرام كانت السلطات البريطانية قد تخلَّصت منهم بنفيهم إلى تلك البلاد النائية.

في أحد أيام شهر يناير (كانون الثاني) 1858، وبعد سبعة أشهر من ابحارها، تصل سفينة "الإخلاص"، وهي سفينة شراعية، إلى شواطئ جزيرة تسمانيا، في أقصى الساحل الغربي لأستراليا، وكان يقودها قبطان يدعى "إيليام كويليان كيولي". وكان يخبئ في قاعها كميات من الخمور والتبغ المهرَّبة، في انتظار فرصة لبيعها وجني مبلغ معتبر من المال، مستغلاً فرصة استئجارها من جانب بعثة انجليزية على رأسها الكاهن جيفري ويلسون، الذي كان يعتقد وفق معلومات جيولوجية وأخرى توراتية، أن في تلك الجزيرة تقع "جنة عدن"، ومعه الدكتور "توماس بوتر"، الذي كان مهتماً بالحصول على عينات من جثامين السكان الأصليين ليضعها في متحف في لندن، بما أنهم كانوا على وشك الانقراض.

تباين في الرؤى

في موازاة تتبع تلك الرحلة، تنشغل الرواية بأحوال تلك المنطقة التي استوطنها البيض وعاملوا أهلها "السود" باستعلاء واستولوا على بيئتهم الطبيعية وتركوهم نهباً لأمراض لم يعرفوها من قبل، ففتكت بهم، فضلاً عن قتلهم الكثيرين منهم بالرصاص. يقرر "بيفاي" وهو هجين، جاء إلى الدنيا نتيجة اغتصاب أمه على يد مستوطن أبيض، أن يحارب هؤلاء المستعمرين، مستعيناً بسهامٍ صنعها بنفسه، وبمرور الوقت ينضم إليه آخرون، جاءوا إلى الدنيا أيضاً، نتيجة عمليات اغتصاب ارتكبها المستوطنون ضد نساء أصليات.

يتوزع السرد على عدد من شخصيات الرواية، ومن ثم نجد أحياناً أن الحادثة الواحدة، قد يرويها أكثر من شخص، وهكذا تتعدد الأصوات، لتعكس تباين الرؤى، بين الغزاة وأصحاب الأرض، عموماً، وبين أطراف كل فريق أيضاً.

في أحد فصول القسم الأول، نجد نص رسالة تعود إلى العام 1828 كتبها موظف في شركة "أرض العالم الجديد" ويدعى "جورج باينز"، إلى والده في لندن، بعد مرور عام على وصوله إلى هوبارت في تسمانيا، جاء فيها أن مساحة هوبارت لا تتجاوز مساحة قرية صيادين كبيرة: "رأيتُ سكان الأرض الأصليين لأول مرة، كنا نعبر مساحة مفتوحة من العشب حين لمحنا ستيناً منهم يرتاحون حول نار أوقدوها. كانوا أغر مخلوقات رأيتها في حياتي. طوال القامة، وكلهم، رجالاً ونساءً، في حالة من العري الكامل، لكنهم مسالمون وودودون". ولكن وكما ورد على لسان "باينز" نفسه، كان هؤلاء يتعرضون لاعتداءات ممنهجة على أيدي رعاة ماشية من البيض.

ما وراء الجبل

وبعد ثلاثين عاماً، تصل سفينة المسافرين الإنجليز إلى هوبارت، وهناك يقرر الكاهن "جيفري ويلسون" أن يتخذ من "بيفاي" بالذات دليلاً للبعثة الاستكشافية، للوصول براً إلى جبل يعتقد أن جنة عدن تقع خلفه، فيوافق الأخير، وهو يضمر لهم الشر بعدما تيقَّن من أن الدكتور "بوتر" سرق جثة أمه التي ماتت فجأة بالسكتة القلبية، ليجري عليها أبحاثاً عند عودته إلى لندن. وهكذا تجد البعثة نفسها في وسط متاهة، بعدما اختفى "بيفاي" وبدأ في قتل أفرادها واحداً بعد الآخر بالسهام، مستغلاً معرفته الوطيدة بتلك البيئة التي نشأ فيها، وجهلهم هم بها بطبيعة الحال. كان "بيفاي"، مشحوناً بكراهية عميقة لهؤلاء الناس بعدما تعلم لغتهم وعاش على أمل أن يسمحوا لمن تبقى في الأسر من أربع قبائل، بالعودة إلى حياتهم الطبيعية والكف عن التدخل في شؤونهم. كانت تسمانيا تسمى كذلك "أرض فان ديمن"، وكانت عبارة عن جبال ملساء عارية كأنها جدران، فيما كانت جزيرة فليندرز أرض القبيلة التي ينتمي إليها بيفاي، قبل أن يتم وضعه مع الآخرين في إقامة جبرية في مستوطنة في جزيرة كاثرين براس، على مدى عشر سنوات سبقت وصول سفينة المسافرين الإنجليز، جرى ما أدى إلى موت غالبيتهم، واحداً تلو الآخر، بعدما عانوا في السابق من جشع بعض المجرمين البيض الذين كانوا يستدرجونهم إلى مقايضة ممتلكاتهم الهزيلة بالكحول. (الرواية صـ 150- الجزء الثاني).

تجربة سردية فريدة

يقول "بيفاي"، الذي فرض عليه المستعمرون اسم "كرومويل"، وطالبوا الجميع بنسيان أسمائهم ولغتهم الأصلية: "بسبب تناقص أعدادنا؛ اختلطنا وكادت الفوارق والعصبيات تزول، على الأقل ظاهرياً، غير أن السهام فعلت فعلها في بعض الأحيان وكثيراً ما توقعتُ اندلاع حرب أهلية" صـ60، 61- الجزء الثاني). وبحسب مقدمة المترجم فإن القارئ العربي يتعرف في هذه الترجمة على واحدة من أهم الروايات التاريخية في الأدب الانجليزي المعاصر، وعلى تجربة فريدة في السرد التاريخي الحديث عموماً، ومثل كل الروايات التاريخية العظيمة تتجلى فرادة هذه الرواية في قدرتها على طرح رؤى معاصرة من خلال قراءة إبداعية للتاريخ تتجاوز الصيغ الرسمية لهذا التاريخ وتتحدى السرديات والمنظومات الفكرية المؤسسة له وتتيح فضاءات رحبة للسرديات المهمَّشة والمقموعة، فضاءات للإنسان وللضحايا والأبطال المنسيين.

إلا أن رواية "المسافرون الانجليز"  بحسب المترجم أيضاً، تضيف إلى كل ذلك ما هو أكثر من حيث كونها إنجازاً جمالياً باهراً لا يستكين إلى تقاليد القص التاريخي وعراقة التراث الروائي في الأدب الانجليزي؛ بقدر ما يطمح إلى التجديد والتجاوز ليس في التقنيات والأسلوبيات فحسب، بل وفي جوهر علاقة الأدب بالتاريخ أيضاً. وما يثير الدهشة في هذه الرواية هو أنها تقرأ التاريخ؛ ليس كمعلومات أو كنصوص ثابتة، بل ككائن ينبض بالحياة والتناقضات ويضج بالألوان والمفارقات، حتى ليخال المرء أنه تاريخ يتنفس ويتحرك في الزمان والمكان ويتغير في كل لحظة .

 ويرى المترجم ان السرد المتعدد الأصوات هذا يوظف عدة وثائق في نسيجه المتشابك، فيخرجها من عزلة الأرشيف إلى الهواء الطلق مانحاً إياها حياة ودلالات جديدة، وكأنه بهذا يستعيد التاريخ من سجونه ومتاحفه ويورطه في مغامرات البحث والأسئلة. من هذه الوثائق رسائل كتبتها بعض الشخصيات التي تحيل إلى أشخاص حقيقيين عاشوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشهادات تتعلق بحياة السكان الأصليين في أستراليا عموماً وفي جزيرة تسمانيا خصوصا. ويلاحظ  المترجم أن هذه الرواية تنطوي على سمة بارزة في كتابات ماثيو نيل في أكثر حالاتها تألقاً وجمالاً...

وماثيو نيل Matthew Kneal ولد في لندن عام 1960، درس التاريخ الحديث في جامعة أكسفورد وتخرج عام 1982، له العديد من الكتب والروايات والمجموعات القصصية، وحصل على عدد من الجوائز الأدبية، بعدما استحوذت أعماله على اهتمام نقدي واسع، باعتباره واحداً من أهم كتاب الرواية التاريخية المعاصرين في بريطانيا، وتعبر رواياته عن رؤية نقدية عميقة، علماً أنه انتقل مع أسرته عام 2000 إلى روما حيث يعمل ويتابع أسفاره حول العالم.

المزيد من ثقافة