Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"هير" المغناة الراقصة التي أثارت العالم وساهمت في إنهاء حرب

تأثيرها عادَلَ نضالات وتضحيات الشعب الفيتنامي ضد الأميركيين

مشهد من التقديم الأول في برودواي (موقع "هير")

هل سيكون من الإساءة إلى النضالات والتضحيات الجسيمة التي بذلها الشعب الفيتنامي بغية التخلص من الاحتلال الأميركي ووقف تلك المجزرة التي دامت عشرات السنين في بلاده، أن نقول اليوم بعد كل تلك السنوات إنه بقدر ما لعبت تلك التضحيات دوراً أساسياً في تغلبه على جحافل الجنود الأميركية، يجب أن لا ننكر الدور الأساسي الذي لعبه في ذلك كلها عنصران أساسيان كان ميدانهما في الأراضي الأميركية نفسها وربما لم تكن لفيتنام أية يد مباشرة بهما: من ناحية، التظاهرات الصاخبة الغاضبة التي اندلعت في المدن الأميركية على مراحل منددة بالحرب الفيتنامية؛ ومن ناحية ثانية، ذلك الاستعراض الموسيقي الضخم الذي قُدّم للمرة الأولى "خارج – برودواي" قبل أن ينتقل بفضل نجاحه الأسطوري إلى "داخل- برودواي"، ونعني به مسرحية "هير" الموسيقية الراقصة؟

تاريخ موغل في البعد

قد يبدو هذا الكلام نوعاً من المبالغة اليوم إذ قد يتساءل متسائل أمام السخافات التي تملأ الشاشات الصغيرة وخشبات المسارح وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعية في زمننا الراهن، عمّا إذا كان ذلك ممكنا حقاً. إنه ممكن بالتأكيد وحدث بالفعل، ويمكن لمن يبحث عن يقين أن يعود إلى التاريخ القريب، الذي بات يبدو شديد البعد، ليكتشف كيف أن مسرحية غنائية وأقل من دزينتين من الأغاني وحفنة من فنانين غاضبين، عرفوا كيف يؤلبون الرأي العام الأميركي، ثم العالمي، ضد مجمّعات عسكرية كانت لا تزال مصرّة على مواصلة حرب عبثية باتت لا معنى لها ولا أفق. وذلك بالتضافر مع الهبّة التي قامت بها الشبيبة الأميركية بخاصة وقد أثار غضبها منظر التوابيت في الطائرات حاملة جثامين ألوف الشبان الأميركيين "عائدين" إلى ديارهم وسط عويل أهلهم وأحبائهم الذين كان أي واحد منهم بالكاد يعرف أين تقع فيتنام، ولماذا أُرسل أبناؤهم ليقاتلوا بل ليقتَلوا فيها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلك هي الخلفية بالتحديد. وتلك هي الحكاية التي جعلت مجموعة من الفنانين تقرّر ذات يوم أن كل هذا يجب أن ينتهي. ويجب أن يقول الفن كلمته. صحيح أن كثراً من المهتمين بالحراك الذي يقوم به الفن في وضعيات من ذلك النوع، سيقولون إن السينما لعبت دوراً في ذلك، وكذلك الصحافة والأدب والشعر والغناء... لكن كل ذلك لم يبلغ في تأثيره المبلغ الذي وصلته مغنّاة "هير". أما السينما التي كان يمكنها أن تلعب الدور نفسه، ولسوف تساهم لاحقاً في فضح كل ما كان يدور من حول تلك الحرب (أفلام كوبولا وتشيمينو وسكورسيزي ودي بالما وتيرنس مالك وغيرهم) فإنها في الحقيقة لن تأتي إلا لاحقاً، متأخرة. أما الأفلام الأكثر نضالية ومباشرة (سينما بيتر واتكنز مثلاً)، في عدائها للحرب فكانت نخبوية ولم تُحدث تأثيراً. من هنا تكاد "هير" تبدو متفردة في الدور الذي لعبته.

كم تبدّلت الأمور!

ومع هذا حين نشاهد هذه المغنّاة اليوم قد لا يبدو واضحاً تماماً الدور الذي نعزوه لها. بل أكثر من هذا، لئن كان قد بقي لنا اليوم الفيلم الذي حققه الراحل ميلوش فورمان انطلاقاً من "هير" بالعنوان نفسه، فإنه لا يبدو  وافياً بالغرض. أولاً لأنه بسّط المغناة واجتزأ الكثير من معانيها بل حولها إلى عمل كوميدي، وثانياً لأن قوة المغناة كانت في آنيتها الحدثية وتحديداً في ارتباطها بمشهد التوابيت العائدة من أرض المعركة ووقع ذلك المشهد على أبناء الشعب الأميركي. ثم أن هناك عنصراً بالغ الأهمية يرسم فوارق أخرى. وهذا العنصر يتعلق بالمناخ الثقافي العام الذي ظهرت المغناة ضمن إطاره: مناخ ما سُمّي حينها "الثقافة المضادة" القائمة على الرفض المطلق من قبل الشبيبة الأميركية وشبيبة العالم قاطبة، لثقافة الأجيال السابقة وغوصها في موسيقى جديدة وفنٍ بصريٍ جديدٍ وكلام غناء جديد وعلاقات جديدة بالترابط مع الحركات الهيبية... ونعرف أن هذا كله بات اليوم فولكلورياً قد يثير من الدهشة والحسّ الغرائبي أكثر كثيراً مما يثير من آيات التمرّد والغضب.

مهما يكن يبقى لدينا ذكرى المغناة نفسها وذكرى تلك اللحظة التاريخية المدهشة التي ظهرت فيها. فعمّ تراها تتحدث؟ كيف وُلدت وما موضوعها وكيف كان شكل تأثيرها الذي تحدثنا عنه أعلاه؟

من الثقافة المضادة إلى رفض الحرب

موضوعان تتناولهما المغناة بشكل أساسي إضافة إلى عدد من الأمور الأخرى المتشعبة والتي تصبّ في نهاية الأمر في خانة الموضوعتين الرئيسيتين: الثقافة المضادة بما فيها المجتمع المفتوح وحرية تناول الممنوعات وحلول غناء جديد محلّ كل الأنماط القديمة، من ناحية أولى؛ وحرب فيتنام ونضال الشبيبة الأميركية في سبيل السلام من ناحية ثانية. ونعرف أن الربط بين الموضوعين كان ممكناً في ذلك الحين بفضل وعي جديد خلقته الظروف السياسية ولا سيما منها حرب فيتنام، وحالات الغضب الشبابي التي سادت في سنوات الستين مع استشراء موسيقى الروك وغناء الطبقة العاملة كما عبّر عنه فريق البيتلز في بريطانيا وبوب ديلون وغيره في أميركا، ناهيك بانتفاضات الشباب في طول أوروبا وعرضها.

لقد جرى ذلك الربط من خلال حكاية بسيطة عن شاب تتداخل حياته مع حياة "قبيلة" هبية عشية استعداده للالتحاق بجبهات القتال في فيتنام. هذا الشاب هو كلود الذي سيذهب مكرهاً إلى الحرب وصاغراً. غير أنه يتغير بفعل الوقت الذي يمضيه مع مجموعة الهبيين، صبياناً وبناتاً، الذين يتجول معهم بين شتى أنواع الممنوعات وشتى أصناف الموسيقى والغناء وبين الطبقات الاجتماعية، إضافة إلى وقوعه في الحب مع فتاة هبية (شيلا) تمثل حركة التمرّد النسوية وتنتمي إلى الطيقة العليا في المجتمع. ومن الأصدقاء الذين يدخلون عن كثب حياة كلود، برغر الهيبي الخالص ذو الشعر الطويل والذي يعير شعره، الذي يرفض قصّه في البداية، لعنوان المغنّاة على اعتبار أن طول الشعر بات في ذلك الحين رمز التمرد الشبابي والهيبي بخاصة. غير أن برغر سوف يقصّ شعره لاحقاً في حركة رمزية. لماذا؟

 

تبادل أدوار

بكل بساطة لأنه وصحبه من أفراد "القبيلة" يقصدون كلود في المعسكر الذي يُقاد إليه تمهيداً لتسفيره إلى فيتنام ضمن إطار مشاركته في الحرب، وهناك يخطفون كلود من المعسكر ليتجولوا به في وداع لحياته التي أحبها مع الفتاة التي أُغرم بها. غير أن سلسلة من المفارقات تدفع برغر إلى ارتداء ثياب عسكرية ومن ثم قصّ شعره كي يحلّ في المهجع محل كلود ريثما يتمكن هذا من الإفلات لساعات يمضيها مع حبيبته. وحين يعود كلود وشيلا والآخرون إلى المعسكر كي يتابع كلود وضعيته العسكرية يكتشفون أن برغر قد سيق إلى الجبهة بالطائرة مكان كلود من دون أن يتمكن من كشف الحقيقة. وهكذا يفلت كلود من الجندية، غير أن مصير برغر سيكون في منتهى السوء: بعد شهر مثل آلاف من الشبان الأميركيين من أمثاله، سيقتل في الحرب ويعود في كفن وتابوت ليرقد في مقبرة آرلنغتون الشهيرة. وهناك تزوره المجموعة منشدة حول قبره أغنيتها الأخيرة في المغناة، قبل أن تنتقل للانضمام إلى مئات الآلاف المتظاهرين في طول أميركا وعرضها ضد الحروب عموماً وضدّ الحرب في فيتنام على وجه الخصوص.

والحقيقة أن ما أعطى هذه المغناة طابعها الشبابي التمرّدي كان الأغاني حيث ارتبطت كل أغنية منها بمشهد من المشاهد وبعلاقة من العلاقات، قبل أن تتحوّل الأغنيات جميعاً إلى أناشيد تنطق انفرادياً وجماعياً بتمرّد الشبيبة الأميركية، ولكن أيضاً بشبيبة العالم بأسره. وحتى اليوم لا تزال هذه الأغاني ماثلة في الذاكرة من طريق بعض أشهرها على الأقل مثل "أكواريوس" و"دعِ الشمس تتسلل" و"شبان سود/شبان بيض" و"صباح الخير يا أشعة الشمس" و"مانشستر إنغلند" وبخاصة "هير" و"هاري كريشنا".

وبقي أن نذكر أخيراً أن المغناة من كتابة وأشعار جيمس رادو وجيروم رانيي، والموسيقى لغالت ماكدرمونت. وكان التقديم الأول "خارج برودواي" في خريف 1967 قبل الانتقال إلى "داخل برودواي" في ربيع 1968 حيث قدّمت 1750 عرضاً متتالياً في وقت كانت تترجم وتقدم في بلدان عديدة، منها فرنسا حيث كان الأداء فيها بداية شهرة نجوم غناء مثل جوليان كليرك وجيرار لينورمان وغيرهما.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة